صباح فخري منارةٌ لسفن التراث الموسيقي السوري والعربي، واءم بين ماضٍ زاخر بالكنوز النغمية والطربية الهائلة المسجّاة بالأصالة، وبين الحاضر المتنوّع المشرّع على الغد. بسطوته الطربية والإبداعية ونتاجه ومساره الفني، يمثّل مدرسةً غنائية عابقة بالتلألؤات في سوريا والعالم العربي. لم يكن أداؤه بخلاصته ميكانيكياً جامداً أو تقليدياً بحتاً يقتصر على النقل غير الحيويّ عن الأسلاف، بل حوى تجديداً بيّناً لا يلاحظه كثيرون في ثنايا الإطراب والتطريب المؤسلَبَين اللّذين مسَّا جزئياً ذائقة العصر، آتيَين من أمسٍ ذي خصوصيات دامغة. لا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه الخصوصيات تستبطن مجداً موسيقياً يمتدّ أفقياً ولا يموت، ولو خفت وهجه ظرفياً في ظل الانهيار المتمادي عربياً على المستويَين الثقافي والفني خصوصاً.
بطرس المعري ـــ سوريا

لصباح فخري الفضل في تعريف العالم في زمنه بالمدرسة الحلبية والسورية، وفي إضفاء بهجة ومتعة تتلففان بـ«السلطنة» على الخشبة والأفضية التي حلّ بها. صوته صافٍ لا غيم فيه، قويّ من دون أن يكون لاذعاً أو نافراً، حنون وحسّاس، عريض، يرنّ كالذهب من عيار 21، متمايز، رحب، وشجيّ. صاحب «خمرة الحب» متمكّن إلى أقصى الحدود من الطرب على اعتباره «حالةً» يمكن بلوغها وإحداثها، ومن مستلزماته. على الرغم من أنّ بعضهم يقول إنه لا ينتمي إلى مدرسة الارتجال في الغناء وإنه لا يتقن أو يمتلك هذه المهارة، فإنّ صباح فخري يُجيد الارتجال ببراعة واللعب في هذا المدار، غير أنه ـــ بعكس ما يُخيَّل إليهم ــــ يفضّل غالباً أن يقدّم المادة الغنائية والموسيقية المهيّأة والمُعَدّة سلفاً بتفاصيلها الدقيقة، وهذا خياره.
حنجرته الطيّعة تترقرق في «العُرَب» والزخارف بسلاسة لامتناهية


في التلقّي، لا يمكن للمستمع أن يستقبل صوته ببرودة لأنّ صباح فخري يجرف المسامع نحو دفء ألوان ومروحة تعبيرات صوته والمحتوى الذي يؤدّيه، نحو شطآنه وزبد موجه، وصولاً إلى الأعماق. مع حنجرته وريبرتواره تطفو وتسبح عن طيب خاطرٍ بتلذُّذٍ يلامس النشوة في ذروته. إنه أيضاً ملحّنٌ متمرّسٌ في التنغيم على نول المقامات العربية التي يتجرّعها كشربة ماء. تجدر الإشارة إلى أنّ حنجرته الطيّعة تترقرق في «العُرَب» والزخارف بسلاسة لامتناهية وتكون دائماً وفق المقتضيات بالضبط، لا أكثر ولا أقل، فيما قد يبالغ آخرون في عصرنا في اجتراح الزخارف الزائدة وغير النافعة.
أمينٌ على الذاكرة والتراث وقد نجح في جعلهما محبّبَين إلى الأجيال الجديدة وستدرسه الأجيال الآتية حتماً. في تواريه يزداد ثبات المغوار العريق في الطرب والحياة. هذا الشاهق كجبلٍ زرع الفرح في النفوس عموماً، وأنشد الحب والحنين والجوى والعشق والشجو كحمامةٍ شجنت. طربُه ملازمٌ لحب الحياة وألقها وقيمها الجميلة، لانتصار الإنسان بهذه القيم وبالقيمة الإبداعية والحضارية التي أمازتْهُ ونسجت رفعته، وصيّرته حاضراً بالمعنى الوجودي، مُرسّخةً ملامح هويته.
فوق صهوة غيابه يصدح صباح فخري ببهاءِ أثره مزيّناً أيامنا بأغانٍ وموشّحات وقدود وقصائد ومواويل... وبهذا المجد الفنّي الذي يزوّدنا بجرعة تفاؤلٍ في زمنٍ عصفت به ريح الانحدار.