لطالما لازمت التبعية والاستزلام علاقة معظم الإعلام اللبناني أو ما يمكن تسميته «الإعلام المهيمن»، بدول الخليج وتحديداً السعودية. جزء أساسي من القنوات المحلية يأخذ تمويله من الخليج. لذا، فقد كانت دوماً منصّات تابعة، تتجنّد عند أي مفترق لتعلن ولاءها السياسي التام للمملكة وما يحيط بها، وفي أحيان كثيرة، تنحو نحو الانبطاح وتقديم الاعتذارات والتوضيحات على الشاشات. في الآونة الأخيرة، كنا أمام حادثتين منفصلتين، لكنهما ترتبطان بالعلاقات الدبلوماسية والسياسية مع السعودية، أولها في نيسان (ابريل) الماضي، لدى الكشف عن شحنة الكبتاغون التي عبرت من بيروت إلى الرياض، وقررت بعدها الأخيرة مقاطعة لبنان تجارياً، كجزء من قصاص «يلائم» المرحلة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد. وقتها، كان واضحاً، ما دشّنته القنوات اللبنانية من حفلات اعتذار. لم تسلم ورقة اللبنانيين المقيمين في الخليج من الاستخدام، إذ عادة ما تُرفع كلّما أرادت المملكة فتح باب التهويل والتخويف على اللبنانيين، لا سيما في ظلّ الأوضاع المعيشية القاسية التي يعيشها ذووهم في الداخل. حادثة الكبتاغون التي كانت «بروفة» تقديم فروض الطاعة للمملكة، تبعها الجدل العارم الذي خلّفته مقابلة وزير الخارجية السابق شربل وهبة على «الحرة» في أيار (مايو) الماضي، مع تسريب مقاطع مصوّرة من المقابلة على السوشال ميديا، يحتدم فيها وهبة مع المحلّل السياسي السعودي سلمان الأنصاري، ويتّهم السعودية بتصدير «الدواعش» وتصفية الصحافي جمال خاشقجي. وقتها، انبرت القنوات اللبنانية، لتعيد استخدام ورقة اللبنانيين العاملين في دول الخليج، ودعوة وهبة إلى الاستقالة. حملة تقاطعت مع حركة تحشيد على مواقع التواصل الاجتماعي، قادها ناشطون خليجيون، راحوا يكيلون الشتائم والإهانات لوهبة. السيناريو عينه تكرر أخيراً، مع وزير الإعلام جورج قرداحي، الذي سُرِّبت له مقاطع من برنامج «برلمان شعب» على «الجزيرة أونلاين»، حول موقفه من العدوان السعودي على اليمن، ووصفه الحرب بـ«العبثية». وُلّفت هذه المقاطع بطريقة يراد منها التحريض على الرجل على خلفية مواقفه السياسية، تولتها مواقع إلكترونية معروفة، اشتغلت سابقاً مع وصول قرداحي إلى وزارة الإعلام على التصويب عليه، واجتزاء كلامه لصناعة بروباغندا إعلامية ضده. هكذا، كنا أول من أمس، مع سيناريو مشابه لذاك الذي حصل مع وهبة، مع فارق أنّ «الدوز» أعلى هذه المرة: انتشرت رقعة الهجوم على قرداحي إلى السفارات الخليجية، وتم استدعاء السفراء اللبنانيين، إضافة إلى بيانات الولاء التي صاغتها الخارجية اللبنانية، ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي مع تبرئتهم من تصريحات وزير الإعلام، وتأكيدهم على العلاقات الخليجية - اللبنانية. كل هذه المواقف السياسية، التي كرّت سبحتها في ساعات قليلة، واكبتها حملة شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي، تولاها الذباب الإلكتروني الخليجي، وأبواق لبنانية راحت تعلي نبرتها ضد قرداحي، وتشيد بالمملكة، وتدعو في الوقت عينه إلى إقالة وزير الإعلام.
عرضت mtv أربعة تقارير مركزةً على وليد البخاري


كنا أول من أمس، مع جوقة منظمة وممنهجة ومسعورة بحق قرداحي، الذي رفض الاعتذار عن أمر لم يخطئ فيه، ولم يسئ به إلى أحد، بل اندرج ضمن خانة التعبير عن الرأي وإبداء وجهة نظر حيال العدوان السعودي على اليمن، قبل دخوله المعترك الحكومي. من هنا، برزت الإشكالية الأساسية المتعلقة بحملات الترهيب التي قادها هؤلاء بحق قرداحي، الذي لم يَفُته التذكير بها فقط لأنه أعطى رأياً بخصوص قضية اليمن ضمن برنامج. إشكالية تتمثّل أمامنا في لبنان، مع تشدّق العديد من هذه الجهات التي قادت الحملة ضد قرداحي، بالحريات الإعلامية والتعبير، لكنها ما لبثت أن مارست إرهاباً فكرياً وإقصاء واضحاً على أي شخص يتفوه بوجهة نظر سياسية مغايرة. هذه الإشكالية، غابت تماماً أول من أمس، عن الشاشات اللبنانية، التي أفردت مساحة للحدث، أي لتصريحات وزير الإعلام وردود الفعل، واكتفت باستعراض المواقف الخليجية «المستنكرة» لكلام قرداحي، من دون أن تتجرأ وتعلن أنّ ما قاله يندرج ضمن حرية التعبير. هكذا، شاركت هذه المنصات المحلية في التعمية على حقيقة ما جرى في قضية وزير الإعلام اللبناني، وراحت تركز على إعادة سرد المواقف السياسية لمجلس التعاون الخليجي وللسفراء الخليجيين، ولحركة السفير السعودي في بيروت وليد البخاري. فقد احتل الحدث المساحة الأوسع على mtv، التي خصّصت ما يقرب من أربعة تقارير عن القضية، استصرحت في إحداها البخاري. وأعادت المحطة نقل ما صرح به من أهمية التركيز على «الأعمال العدائية التي يقوم بها الحوثيون» في اليمن، إذ «تهدد الأمن الإقليمي والدولي»، وتأكيده على حق «المملكة في اتخاذ التدابير للتعامل مع الأعمال الإرهابية». كما استصرحت المحطة السفير الكويتي في بيروت عبد العال القناعي، الذي أكد أنّ أي «تهجّم على المملكة هو إساءة للكويت». كما خصصت باقي التقارير لنقل تصريحات نهاد المشنوق ورئيس مجلس إدارة MBC، وليد آل ابراهيم. وسرعان ما انضمّت إليها lbci، التي وصفت في مقدمة نشرة أخبارها ما حصل بـ «الانتكاسة الجديدة» للعلاقات اللبنانية - السعودية. وفي تقرير إخباري، اعتبرت المحطة أنّ تصريحات قرداحي أضحت بمثابة «قنبلة موقوتة» لعلاقة لبنان بدول الخليج. ولفتت إلى أنّ قرداحي كان وحيداً في هذه القضية، ووفّر له الدعم السياسي «عرّابه الحكومي» سليمان فرنجية، وسط ربط واضح بين ما حصل مع وزير الإعلام، وما حصل قبلاً مع وزير الخارجية شربل وهبة الذي «طار من منصبه» آنذاك، وأريد اليوم أن يتكرّر السيناريو مع قرداحي. وحدها «المنار» كانت واضحة في هذا الخصوص. وصفت في مقدمة نشرة أخبارها، قادة هذه الحملات بـ «مراهقي الدبلوماسية» و«مرتزقة الإعلام» وأنّ ما يحصل لا يعدو كونه «اختلاق معارك رأي عام».
إذا، تسيّدت المشهد الإعلامي المحلي لغة التعمية والضبابية، إزاء ما تفوه به قرداحي منذ أكثر من شهر على منصة خليجية، وعمل على طمس أي نقاش يخصّ حرية التعبير عن الرأي، فكيف إذا كنا أمام عدوان موصوف على اليمن، لا يحتاج إلى تقديم وجهة نظر مختلفة. عدوان ما زالت تقوده السعودية، والدول المتحالفة معها، ويوقع آلاف الضحايا ويهدم البيوت على رؤوس أصحابها. هذه المرة، كما في السابق، تواطأ هذا الإعلام مع الجناة، ومارس لغة التضليل، وبقي وزير الإعلام ومن يريد أن يسير على مساره وحيداً، تستشرس به جماعات التشدق بالحريات فقط لأنه يجاهر بآرائه السياسية، وعلى رأسها موقفه الواضح من النظام في سوريا!