«هي أشياء لا تسمعها لكنّك تشعر بها. ظننتُ أنّني من الممكن أن أُظهر هذه الفكرة عبر حوار ظاهره واقعي وداخله غير واقعي أبداً». هكذا وصفت نتالي ساروت رائعتها المسرحية «من أجل نعم، من أجل لا» الفرنسية التي حازت جوائز عدّة وتمّت ترجمتها إلى أكثر من خمس لغات ووجدت لنفسها طريقاً إلى مسارح دمشق. احتضنت القاعة متعددة الاستعمالات في «دار الأوبرا» عرضاً دامَ لأكثر من 50 دقيقة حاول من خلاله المخرج الشاب مجد فضة تقديم نموذج أوشك أن يقترب، في مفاصل عدة من «مسرح الحكي».
هذا ما تثبته الثرثرة الكلامية التي تمّ تصديرها على شكل جدل بيزنطي يدور حول فكرة يتيمة تتناول مفهوم الخلاف استناداً إلى تفاصيل تأخذ بعداً حياتيّاً كاذباً. في واقعِ الأمر، هي ليست أكثر من استفهامات وجودية تتخذ من المفردات حمّالة الأوجه ستاراً جمالياً استطاع جذب خطاب العرض في مناسبات قليلة، نحو محليّة افتقدها لصالح عموميات تجاوزها المواطن السوري الغارق في راهنه الدموي منذ ثلاثة أعوام ونيّف. على مستوى المضمون، لم يخرج منطوق العرض عن اتّهامات، بالفوقية والمراءة والنفاق والكذب، تبادلها سلام (كامل نجمة) وعبّود (مجد فضة) من دون أن تفلح جارته رنا (لمى الحكيم) في معرفة أصل الخلاف وأسبابه ومردّه ومآله، لتعلن فشلها على عجالةٍ ثمّ تنصرفَ تاركةً الصديقين يتابعان مناكفتهما الحواريّة في حلقة مقفلة. اشتغل المسرحي البولندي الشهير ييجي غروتوفسكي عام 1992 ضمن مختبره المسرحي على مفهوم حداثي أطلق عليه لاحقاً توصيف «المسرح الفقير»، أو «المسرح النقي». يقومُ هذا الصنف على الاقتصاد الشديد في الوسائل والأدوات المسرحيّة، أو الاستغناء عنها تماماً إذا أمكن، معتمداً على الممثل بشكل كليّ، ما استوجب لاحقاً تعويمَ مفهومِ (الممثل القدسي) المستند إلى اليوغا والطقوس والألعاب السويديّة والغناء.

ينتمي العمل
إلى مدرسة المسرح الفقير

بناءً على التعريف السابق، نستطيع أن نعتبرَ العرض الذي أنتجته مؤسّسة «مواطنون فنّانون»، منتمياً إلى مدرسة المسرح الفقير، مع الإشارة إلى الكلاسيكية التي حكمت أداء الممثلين. استغنى المخرج بالتشارك مع الدراماتورج وسيم الشرقي عن جميع عناصر الفرجة البصرية، بدءاً من الموسيقى التي غابت عن المتن العام، واقتصرت على «شورت جينيريك» كرّر نفسه لمرتين عند الفاتحة وقبيل الختام، مروراً بالديكور البسيط المكون من طاولةٍ وكرسيين في مقدّمة الخشبة، انتهاءً بأزياء الممثلين التي غلب عليها الطابع التقليدي. لم تخل المشهدية من أفعال مشتملة على مداليل يتفاوت تفسيرها بين متفرج وآخر، ليس أقلّها إخفاق عبود المستديم في إشعال لفافة تبغ واحدة منذ بداية المسرحية حتى نهايتها. امتيازات قليلة استطاعت أن تميّز العرض عن القراءات المسرحية التي صارت أخيراً نمطاً متداولاً ضمن الحراك الثقافي السوري. لكنّ الأخير لم يستطع حتى الآن الاقتراب من شريحة العوام متمسكاً بنخبويّة يرى بعض النقاد أنّها كانت وما زالت، تشكّل حاجزاً بين الخشبة وطيف واسع من روّادها.