فيما تغرق بريطانيا في المزيد من المصاعب الاقتصادية المتقاطعة التي مسّت حياة ملايين المواطنين من دون أن تتوفر لدى اليمين المحافظ الحاكم أيّ خطط طويلة المدى للتعامل معها، كان حوالى مئة من طلبة «جامعة ساسكس» يتظاهرون يوم 16 تشرين الأوّل (أكتوبر) ويوزّعون المنشورات ويهتفون بحرارة بسقوط كاثلين ستوك. البروفيسورة الجامعيّة وأستاذة الفلسفة لما يزيد على عقدين، ليست رئيسة وزراء بريطانيا، ولا حتى وزيرة الطاقة أو الاقتصاد في حكومتها ذات السمعة العالميّة في الفشل، حتى تستحق هتافات مسيئة مماثلة، بل هي مؤلفة كتاب عن النسويّة صدر حديثاً بعنوان «فتيّات الماديّة: لماذا فهم الواقع ضروري للحركة النسويّة». رأى بعض الطلبة المهووسين أنّ فكرة طرحتها ستوك ضمن الكتاب (عبّرت عنها سابقاً على مدوّنتها الخاصة) بشأن علاقة النّوع البيولوجي بالهويّة الجنسيّة للشخص كافيةٌ لشن حملة ترهيب متدحرجة ضد الفيلسوفة. حملة بدأت بالاحتجاجات وتوزيع الاتهامات الفجّة ضدّها عبر البريد الإلكتروني داخل الجامعة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ووصلت إلى حدّ استدعائها للتحقيق لدى الشرطة بعدما تقدّم أحدهم بادّعاء ضدّها. وبحسب المحتجّين، فإن ستوك بذهابها إلى القول بأن «الجنس البيولوجي غير قابل للتغيير، ولا يمكن إغفاله عند مقاربة الهوية الجنسية لشخص ما» يترجم كهجوم على فئة المتحوّلين جنسيّاً ويؤدّي إلى شعورهم بعدم الأمان في الحرم الجامعي. الفيلسوفة ستوك كانت قد دوّنت موقفها ذاك في معرض تعليقها على فرض قوانين يمكن لأيّ ذكر بناءً عليها أن يعلن نفسه امرأةً من خلال الادعاء الذاتيّ لدى كاتب العدل، وكتبت أنّ «البعض أشار إلى أنّ هذا التغيير في القانون سيسمح لبعض الذكور المخادعين أو ذوي الدوافع السيئة تغيير نوع هويتهم الجنسيّة المعلنة بسهولة، ممّا يعرض النساء للخطر وانتهاك الخصوصيّة ليس من أولئك المتحوّلين جنسياً بالفعل، ولكن من الرّجال المفترسين». وتذهب ستوك في الكتاب إلى المجادلة بأن هناك محاولات لإعادة تعريف النساء. مشيرة إلى أن «فئة النساء تحدّدت تاريخياً وبحكم القمع أحياناً على أساس الخصائص البيولوجية والإنجابية». وبالنظر إلى أن المتحولين جنسياً لا يتشاركون مع النساء في هذه الخصائص، وتجربتهم الحياتيّة وشعورهم بالعالم مختلف مادياً عن الإناث، فـ«إنّه سيكون من غير الدقيق عدم التمييز بين هذه المجموعات من التجارب».
تكشف الحملة على ستوك عن كنه القضايا الجانبيّة التي يتلهّى بها اليسار الليبرالي البريطاني على حساب الفصل الطبقي الممنهج، وتغوّل رأس المال


العارفون بالأمور داخل الجامعة يقولون بأنّ حملة تشويه سمعة ستوك بدأت أساساً من قبل بعض زملائها الأكاديميّين في الجامعة الذين أوغروا قلوب مجموعات من الطلبة الباحثة أبداً عن قضايا فرعية للنضال المرتبط بالهويّات الجنسيّة والثقافيّة الفرعيّة من دون الاقتراب من المسألة الطبقيّة الأساس أقلّه في المجتمع البريطاني. ومن المعروف أنّ أحد زملائها الأساتذة يُطاردها بانتظام عبر الإنترنت، فيما أكاديمي آخر يستخدم تويتر لإهانتها علناً، وهما قادا حملة جمع توقيعات لأكاديميّين اعتراضاً على منح كتابها جائزة أكاديميّة مرموقة. وبدلاً من أن تتدخّل إدارة الجامعة لحمايتها من الحملة المسعورة، فإنّها مكّنت منتقديها من استعمال نظام البريد الإلكتروني المغلق داخل الجامعة لبعث رسائل مسيئة لستوك، من دون منحها حق الرد. وقد تسبّبت هذه الحملة الشائنة في نوع من عزلة اجتماعيّة للبروفيسورة، ولم يتجرّأ زملاؤها – الفلاسفة في القسم نفسه الذي تدرّس فيه - على تأييدها علناً. وانتهت إدارة الجامعة إلى الخضوع في النهاية لمطالب المحتجين، وأصدرت قراراً بفصلها. وكانت الإدارة قد ألغت محاضرات ستوك بداية العام الجامعي الحالي، ونصحتها الشرطة بعدم الحضور إلى الحرم الجامعي وتأمين مداخل بيتها جيّداً وربّما الاستعانة بحرس شخصيّ خاص، فيما تمّ تشويه باب مكتبها في الجامعة بملصقات تقول: «إذا كانت الحركة النسوية الخاصة بك لا تشمل جميع النساء، فهي ليست نسوية».
وقد جدّدت هذه الحملة المغرضة على ستوك المخاوف من خطورة تردي أوضاع الحريّة الأكاديميّة في الجامعات البريطانيّة إلى مستويات تذكّر بأسوأ مراحل العصور الوسطى المظلمة، لا سيّما بعدما انخرط أكاديميون وعمداء في حملات تحرّش ضد مفكرين رفيعين لهم آراء مختلفة في بعض القضايا الأكاديميّة، وبخاصة في مسائل فلسفيّة وسياسيّة وأنثروبولوجيّة وهي معارف لا يمكن إطلاقاً حسم الرأي بشأن طروحاتها تحت سقف محدد، بل يتوقع من المُتخصّصين بها قيادة التفكير الجمعي حولها لا الخُضوع له. وقد تداعى 200 من الفلاسفة الأكاديميّين البريطانيين للتوقيع على رسالة مفتوحة تدعم «حق البروفيسورة ستوك وآخرين في إثارة المخاوف بشأن هذه المسألة تحديداً – أي القوانين التي تُتيح لكل ذكر التسجّل كامرأة – وكذلك طرح الأفكار التي قد لا تجد توافقاً جماعيّاً حولها من دون وجل». وكتب المؤرخ تيموثي غارتون آش (جامعة أكسفورد) تغريدة على تويتر قال فيها: «مهما كانت وجهة نظرك حول وجهة نظر البروفيسورة ستوك بشأن الجنس والهوية الجنسية، فإن على كل إنسان متحضّر إدانة هذا التحرّش وتلك الحملة لتخويف امرأة في الحرم الجامعي. إنّه تمييز باسم مناهضة التمييز، وتحرّش باسم مكافحة التحرّش».
ولعلّ ما يُقلق في حالة ستوك أنّ طرحها فلسفيّ ونظريّ محض، وليس له علاقة بقضايا خلافيّة حساسة فقدَ أكاديميّون في الجامعات البريطانيّة وظائفهم بسبب آرائهم بشأنها مثل القضيّة الفلسطينيّة، أو التأريخ المناهض للروايات الرسميّة بشأن دور بريطانيا في الحربين العالميتين أو مسألة الهولوكوست أو قضايا الاستعمار البريطاني وجرائمه في إيرلندا الشماليّة. مع العلم بأنّ عدد المسجلين رسمياً كمتحولي جنس في بريطانيا أقلّ من 1 في المئة من السكان. وتكشف الحملة المسعورة على ستوك عن كنه القضايا الجانبيّة والهويات المختلقة التي يتلهّى بها اليسار الليبرالي على حساب مواجهة التحديّات الأساسيّة للمجتمع والمتعلقة بفجوة الدخل المتضخّمة بين من يملكون ومن لا يملكون، والفصل الطبقي الممنهج، وتغوّل رأس المال على موارد البلاد وهي جميعها لها استحقاقاتها التي تمس الجميع بغض النظر عن تكوينهم البيولوجي أو هويتهم الجنسيّة المختارة!