بحفاوةٍ وودّ غامر، يستقبلنا صلاح تيزاني في مقهى يرتاده في بيروت. يكسر جليد اللقاءات بروحه المرحة وذكائه الاجتماعي. يحضن الجميع بمحبة أبوية نقية، مربّتاً على الأكتاف أيضاً بوجهٍ منفرِج، معانقاً الشوارع والملامح الأنيسة، متعشِّقاً رئة الحياة في عامه الـ93. أصدقاؤه الفنانون والمثقفون يحتشدون حوله. معه تلتقي فؤاد حسن المعروف بـ «زغلول» (مثّلَ أيضاً في «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني) وعُلا عيد المعروفة بـ «وردة»، إضافةً إلى نجومٍ كبار هم رفاق دربه.

«أبو سليم الطبل» غنيّ عن التعريف، فالجميع يُجمع على أنّ مسيرته الفنية كانت خصبة في التلفزيون. لا بيت في لبنان لا يحبّ المبدع «أبو سليم» وزملاءَه الممثلين الذين أدخلوا بهجةً مرفّهة على القلوب وحملوا معاً رسالةً بيّنة. شارك صلاح تيزاني السيدة فيروز في فيلمَي «سفر برلك» و«بنت الحارس»، ومسرحيتَي «أيام فخر الدين» و«ناس من ورق» للأخوين الرحباني. حين يتحدّث شيخ الفنانين، يستلّ عفويته وطيبته ويؤرجح الكلمات في المدى. خلف كل ذلك ثمة غصة في صدره وصرخة مدوّية يعبّر لنا عنها بنبرةٍ زاخرة بالهدوء والرزانة. «إنها كلمة للتاريخ»، يقول تيزاني مواصلاً حديثه بجدّية: «أتمنى أن يُقام مسرحٌ وطني في لبنان لكي تكون هناك استمرارية للفنانين في المسرح. لا بلد في العالم بلا مسرح إلاّ لبنان! المسرح عندنا يقوم على أكتاف أفراد وهذا شيءٌ معيب. يجب أن يكون هناك مسرحٌ للدولة أسوةً بكل بلدان العالم حيث المسارح الوطنية لا تتوقف».
أتمنى أن يُقام مسرحٌ وطني في لبنان لكي تكون هناك استمرارية للفنانين (ص. ت)


أما أمنيته الثانية في ظلّ الواقع المرير المتأزّم راهناً، فهي «أنّ الفنّان في بلدنا لا يجوز أن يعيش على الهامش. على الدولة أن تهتم به وتمنحه قانون الـorder أي قانون نقابة مهنية لكي تحافظ على الفنان في آخرته وحتى لا يعيش مهمَلاً. يجب أن يكون الفنان مؤمَّناً في الأدوية والحياة السعيدة والمسكن». لا يقصد الإشارة إلى الفنان فحسب كما يؤكّد لنا، بل أيضاً إلى الرياضي والأديب والشاعر والمثقف: «آخرتهم هنا تتحوّل إلى حالة يُرثى لها، وهذا معيبٌ بحق الدولة. نحن لا نعتب على الدولة، فليست لدينا دولة! في بلدان العالم عندما يكبر الفنانون إمّا أن يسمّوا شوارعَ بأسمائهم أو أن يسمّوا بأسمائهم مناطقَ وكُتُباً وطوابع بريدية... إلاّ هنا في لبنان، الفنان عندما يكبر ويرحل يصبح كأنه منسيٌّ في التاريخ وفي الواقع وفي المستقبل والماضي!». ما يحزّ في نفسه أنه خدم هذا البلد طوال ستين سنة فنياً: «كنا نشتغل مجاناً، لا سيما في الحرب. معظم الفنانين «تركوا وراحوا» وأبيتُ المغادرة وأردتُ البقاء مع الذين بقوا هنا لكي أقدّم لهم وَلَو بسمة وكما يقولون أهمسُ: «والطيرُ يرقص مذبوحاً من الألم!». بقينا هنا حتى في عز القصف. كنا نصوّر ونعمل وأبَيْنا إلا أن نصمد ولم نكن نتقاضى أتعاب العمل الذي كنا نقوم به فقط لكي نكون بقرب جمهورنا الحبيب». غير أنّ هذا الجمهور لم يخذل «أبو سليم»: «في آخرتنا هناك الكثير من المؤسسات والجمعيات التي تقف إلى جانبنا، نحن الفنانون الكبار الذين خدمنا هذا الوطن وكانت الدولة بعيدة جداً عنا». بتواضعه المحبّب وصدق فؤاده شكرَنا أبو سليم على المقابلة التي قال إنه تمكّن من خلالها من التعبير عن رأيه ورأي الفنانين المستائين من الوضع الذي بلغه هذا البلد. «كان يُفترَض أن يكون لبنان أفضل من ذلك بكثير. كان «سويسرا الشرق» وقد أصبح آخِر بلد: فبين 200 دولة نحن في المؤخّرة (بين ثالث ورابع دولة في القائمة!) وهذا مؤسفٌ لأننا كنا في المقدّمة». قبل أن يعود إلى فضاء الجلسة بجوّها المنشرح مختتماً، قال تيزاني بصوتٍ حليم: «سامحهم الله لأنني لا أريد أن أقول «لينتقم منهم الله»، فقد أوصلوا لبنان إلى هذه المرحلة التي نعيشها ورب العالمين لن يتخلّى عن هذا الوطن الجميل. نشكر الرب الذي يهبنا حياةً مديدة بعد، وصحةً حتى نتكلّم ونعبّر عن شعورنا تجاه مواطنينا».