كل الطرق في رام الله والبيرة تؤدي إلى المنارة. ومن المنارة تقودك كل الطرق إلى قلب المدينتين التوأم، وإلى أطرافهما وضواحيهما. يطلق كثير من الناس على المنارة «مركز المدينة»، وهو ما يجافي الحقيقة، جغرافياً.المنارة هي نقطة التقاء شرق رام الله مع غرب البيرة، وفي الشوارع المؤدية إليها والمتفرعة منها، تتداخل حدود المدينتين التوأم، وبسبب تركز الأسواق والمحال التجارية حولها، صارت تُدعى «مركز المدينة»، ولأنها تشكل عقدة المواصلات لكلتا المدينتين. كل زائر لرام الله والبيرة لا بدّ له من المرور بالمنارة، وكذا كل مغادر لهما.
المنارة لم تكن حين إقامتها على الشكل الذي هي عليه اليوم، حيث أقيم في عام 1950 «دوّار» بسيط، ثم أضيفت إليه في عام 1951 نافورة مياه، وتماثيل رؤوس أسودٍ خمسة تخرج المياه من أفواهها، قام بنحتها ابن رام الله أبو صادق غنايم.
ولأنها صارت «مركز المدينة»، فقد صارت تقام فيها الفعاليات الوطنية، وباتت موقعاً لاحتكاك المتظاهرين الفلسطينيين مع جنود الاحتلال، وكانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، حريصة على بقاء هذا المكان «هادئاً»، وعلى سير الحياة الطبيعية فيه، حيث يمثل «وجه» المدينة. وكانت تتصارع في هذا المكان، «إرادتان»: إرادة الاحتلال، وإرادة الشعب ممثّلاً بقواه الوطنية وأحزابه ومناصريهم.
ويبدو أنّ سلطات الاحتلال قد ضاقت ذرعاً بالمكان، فلجأت عام 1982 إلى «قبع المنارة»، واستبدالها بجزر أشبه ما تكون بالقبور، لمنع التجمهر فيها، ولتسهيل حركة مركباته وجنوده، معتمدة في ذلك على فرض الأمر بالقوة العسكرية.
بعد قيام السلطة الفلسطينية، بادرت «محافظة رام الله» إلى إعادة تأهيل المنارة، فأعادت الدوّار، ومجسم العامود الحجري، مضافاً إليه خمسة تماثيل لأسودٍ تمثل حمائل رام الله الخمس، التي سكنت المدينة عند قيامها، لتكون على الشكل القائم حالياً.
من حول المنارة، توجد المحال التجارية على اختلافها، وسوق الخضار الرئيسي (يقع في حدود مدينة البيرة)، وموقف للحافلات قديماً، صار في ما بعد مركزاً لمركبات الفورد وغيرها، المنطلقة إلى قرى عديدة، وإلى مدن نابلس، الخليل، وبيت لحم، بالإضافة إلى حاجز قلنديا (بوابة القدس) وبلدة الرام، بعدما حال الاحتلال دون الوصول إلى مدينة القدس، وأقام حولها سوراً مرتفعاً، وفقط يمكن الدخول إليها من خلال بوابات الاحتلال، لمن يحمل هوية القدس، أو تصريحاً من سلطات الاحتلال.
ميدان المارة عند اقامته في عام 1950، قبل اضافة تماثيل الأسود إليه

المنارة، ولها من اسمها نصيب، كانت نقطة الانطلاق لإضاءة رام الله منذ أوائل العشرينيات من القرن الماضي، عندما بدأ التيار الكهربائي في إضاءة بيوت وشوارع وميادين المدينة، كما أفادني العارفون بتاريخها، ومن هنا أخذت اسمها.
لكن هناك روايات متناقضة في شأن وصول التيار الكهربائي إلى المدينة، ففي حين يقول بعض العارفين بتاريخها، إنّه يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، يقول آخرون إنه تم في عام 1935.
لكن هناك إجماع في مختلف الروايات، على أن المنارة شكلت نقطة انطلاق التيار الكهربائي، من «شركة كهرباء القدس»، إلى باقي أنحاء المدينة، ومن هنا أخذت المنارة اسمها.
من المنارة وإليها، تتفرع شوارع المدينتين الرئيسية، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً:
الشارع الرئيسي المتّجه غرباً، الممتد من المنارة وحتى «البنك العربي» في رام الله التحتا، وكان سابقاً موقفاً للحافلات المتوجهة إلى القدس (كان موقفاً لحافلات شركة باصات رام الله/البيرة/ القدس، وقرى غرب رام الله)، وبعضهم يطلق عليه اسم «شارع ركب»، لوقوع محلات «بوظة ركب» في بداياته. هو من أهم شوارع مدينة رام الله، وعند توصيف أي مكان غرب المنارة، لا بدّ من ذكره، وذكر أهم معالمه، «بوظة ركب»، وهو شارع باتجاه واحد، في المقطع الملاصق للمنارة، يقودك من المنارة باتجاه الغرب، إلى قلب رام الله التحتا بمعالمها وحواريها الرئيسية، مثل منطقة الحرجة، حارة الشَقَرَة، حارة القديرة، حارة دار ابراهيم، مبنى بلدية رام الله، الطيرة وبطن الهواء. وإذا تابعت السير في خط مستقيم، سيقودك ذلك إلى منطقة الطيرة، ومعهدها الشهير المعروف باسم «معهد الطيرة»، الذي أنشاته «وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين» في خمسينيات القرن الماضي، لتعليم الفتيات على مهن عدة تساعدهن في إيجاد العمل المناسب.
ولعل «شارع الإذاعة» (الإرسال)، من أهم الشوارع الخارجة من المنارة، والمفضية إليها (شارع باتجاهين). اكتسب شهرة استثنائية، بعد إقامة العديد من «المولات» والمحال التجارية فيه. وبسبب وقوع «المقاطعة» فيه التي هي مقرّ الرئاسة الفلسطينية، رغم وجود المقاطعة في النطاق الإداري والجغرافي لمدينة البيرة.
هذا الشارع، إضافة إلى شوارع أخرى، تتداخل فيه حدود مدينتي رام الله والبيرة، بشكلٍ يصعب معه التمييز أين تبدأ وأين تنتهي إلّا لمن عاش وخبر تاريخ المدينتين.
«شارع الإذاعة» هذا، الممتد من المنارة، وحتى تخوم قرية سردا (أكثر من كيلومترين)، شمال رام الله، يعتبر شرياناً مهمّاً للمواصلات القادمة من عشرات القرى، شمال رام الله، ومن شمال الضفة الغربية، ولذا كثيراً ما يشهد اختناقات مرورية.
«شارع جورج الصاع»، الممتد من المنارة وحتى عين مصباح (أحد أحياء المدينة الرئيسية)، باتجاه واحد (جنوب/ غرب)، اكتسب أهميته من وجود مجمع المحاكم النظامية فيه التي حلّ محلها «مركز شرطة مرور المدينة»، بعد نقل مجمع المحاكم إلى منطقة البالوع في البيرة. وأخيراً قامت بلدية رام الله بهدم البناء القديم (أقيم في الخمسينيات)، وأقامت مكانه مجمعاً حديثاً (مجمع المنارة)، يحوي محالاً تجارية، وموقفاً للمركبات الخاصة (بالأجرة)، لحل أزمة وقوف السيارت في الشوارع المحيطة، وفي مركز المدينة/ المنارة.
«شارع عبد الرحيم الحاج محمد» (ما يُعرف شعبياً باسم «شارع زبانة» لوقوع محلات زبانة الشهيرة فيه) الذي يربط بين ميداني ياسر عرفات والمنارة، من أهم شوارع مدينة رام الله، رغم قصره (مئات الأمتار)، بسبب ربطه بين ميدانين رئيسيين، ولوقوع كثير من المحال التجارية فيه التي يقصدها المتسوقون من أبناء المدينتين، والقرى المجاورة. وهنا تتداخل حدود المدينتين أيضاً، فالسائر من ميدان ياسر عرفات، باتجاه المنارة، يكون يمين الشارع ومحلاته ورصيفه، ضمن حدود بلدية البيرة، بينما يسار الشارع ومحلاته ورصيفه، تتبع بلدية رام الله.
«شارع فلسطين» (المعروف شعبياً باسم شارع القدس، حيث كانت السيارات المتجهة إلى القدس والعائدة منها تمر فيه)، الواقع إلى شرق/ جنوب المنارة، ومعظم مقاطعه تقع ضمن حدود بلدية البيرة.
هذا الشارع المنطلق من المنارة، جرت عليه تغيرات عدة، فبعدما كان شارعاً باتجاهين، ذهاباً إلى القدس، وإياباً منها، صار باتجاه واحد فقط في الجزء الملاصق للمنارة، ذهاباً إلى القدس، ويعتبر من أكثر شوارع المدينتين اكتظاظاً بالمارة والمحال التجارية المختلفة، ويقع في نطاقه، سوق الخضار الرئيسي، ويشهد اختناقات مرورية معظم ساعات النهار.
صورة للمنارة بعد اضافة نافورة المياه وتماثيل الأسود عام 1951 (الصورة التقطت في ستينيات القرن الماضي)

«شارع النهضة» (المعروف شعبياً باسم شارع نابلس) حيث كانت المركبات الذاهبة إلى نابلس والعائدة منها، تسلك هذا الشارع، وتقف فيه المركبات الذاهبة إلى نابلس، تحول أيضاً إلى اتجاه واحد في الجزء الملاصق للمنارة، للمركبات القادمة من شرق البيرة، ومن نابلس، ومدن الشمال، وقرى شرق رام الله.
لعل أهم معلم في هذا الشارع هو وجود «مدرسة الفرندز للصبيان» (هكذا هو اسمها الرسمي)، التي أقيمت منذ عام 1921، في حين أقيمت «مدرسة الفرندز للبنات» في رام الله، بالقرب من مبنى بلدية رام الله الحالي، بالإضافة إلى وقوع بناية بلدية البيرة سابقاً فيه.
هناك معالم أخرى مهمة تقع في هذا الشارع، منها وجود المدرسة الهاشمية (سابقاً)، وهي بناية تاريخية قديمة، جرت إعادة تأهيل المبنى ومحيطه وتحويلها إلى مركز ثقافي باسم «مركز بلدنا الثقافي»، ليتغير لاحقاً إلى «مركز البيرة الثقافي»، بعد نقل المدرسة إلى أقصى شرق مدينة البيرة (في حي جبل الطويل). أما ما كان ملعباً لكرة القدم للمدرسة، فأقيم فيه «المركز التجاري»، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي.
وبالقرب من «مركز البيرة الثقافي»، كان يقع مركز شرطة رام الله، ببنايته التاريخية القديمة، التي قصفتها طائرات الاحتلال إبان الانتفاضة الثانية، وصار مكانها يستخدم موقفاً للحافلات الذاهبة إلى القدس، بعد إزالة أنقاض المبنى وتأهيل المكان.
ميدان المنارة، أو «دوّارها» ويسميه البعض «دوّار الأسود»، هو المعلم الأساسي للمدينتين الآن، وما زالت تقام فيه الفعاليات المختلفة، وطنية واجتماعية وحتى ثقافية، يستمر نبض الحياة فيه صيفاً إلى ما بعد منتصف الليل، وتتزاحم الفضائيات ووكالات الأنباء والصحافيون على «احتلال» موقع استراتيجي فيه، أثناء الفعاليات المختلفة، وتربض فيه الأسود الخمسة التي تشير إلى حمائل رام الله.
* كاتب فلسطيني