ماذا سيحدث لو تمكنت البشريّة يوماً من التنبؤ بالمستقبل؟ هل يتعيّن علينا ترك مهمّة الحكم للعلماء؟ وما دور الفرد في صياغة التاريخ؟ تلك هي التساؤلات الأساسيّة التي يطرحها مسلسل الخيال العلمي الجديد على «آبل بلس» والمعتمد على مجموعة مؤلفات للكاتب الأميركي الشهير اسحق عظيموف. إنّها حكاية إمبراطوريّة بشريّة تحكم مجرّة درب التبانة برمتّها بعد 12000 عام. العمل الذي يُقدّم على 80 حلقة (تطرح حلقات الموسم الأوّل أسبوعيّاً) يمثّل صياغة عصريّة للسلسلة الروائيّة، تخلّص الحكاية الأساسيّة من بعض نقاط ضعفها وفق منظور وقتنا الراهن، من دون أن تُطيح بحال الفكر السياسي الرجعي عند النخبة الأميركيّة في منتصف القرن الماضي
يعتبر كثيرون الكاتب الأميركي إسحق عظيموف (1920 - 1992) أهم كُتّاب أدب الخيال العلمي في القرن العشرين، وأنّ سلسلة قصصه القصيرة وأعماله الروائيّة التي اتخذت من ثيمة «المؤسسة» أو Foundation مظلّة لها، صورة مُثلى لذلك الأدب، لا سيّما الثلاثيّة الروائيّة الرئيسّة «المؤسسة» (1951)، و«المؤسسة والإمبراطوريّة» (1952)، و«المؤسسة الثانية» (1953). لا تزال السلسلة مقروءة إلى وقتنا الراهن، رغم أنها تعاني ــ كما كل خيال علمي ــــ من آثار مرور الزمن (لم يتصوّر عظيموف تطوّر أجهزة الكمبيوتر مثلاً، مع أنّه عاش ليشهد إطلاقها في خريف عمره). ومع أنها تصف تعاقب الأحداث والصراعات السياسيّة في مجرّة درب التبانة بعد 12 ألف عام، إلا أنّ محاورها السرديّة تُطرح في سياق دراميّ مشوّق معالجات لقضايا مطروحة اليوم، أقلّه فلسفيّاً، حول قدرة العلم والتكنولوجيا على التنبؤ بالمستقبل، مع تضاعف طاقة خوارزميّات الذكاء الاصطناعي على استقراء المعلومات، وما إذا كان يتعيّن علينا ترك مهمّة الحكم للعلماء، لا سيّما بعد الفشل الفضائحي للحكومات الغربيّة في إدارة جائحة كوفيد 19، ودور الفرد في صياغة التاريخ، فهل كان هتلر بالفعل رجلاً واحداً غيّر أقدار الملايين؟.
لكّن مؤرخي الثقافة يضعون ثلاثيّة «مؤسسة» عظيموف كوثيقة تاريخيّة أساسيّة لفهم أبعاد التفكير السياسي للنّخبة الأميركيّة في الثلاثينيات الأربعينيات من القرن الماضي من خارج إطار التراث السياسي المحض. عظيموف، المنحدر من أسرة يهوديّة روسيّة هاجرت إلى الولايات المتحدّة، كان نموذجاً كلاسيكياً لنشأة الشاب الأميركي البورجوازي في أجواء نيويورك الثلاثينيّات. في جامعات ذلك الوقت، وتخرّج عظيموف من «جامعة كولومبيا»، كانت الساحة الفكريّة ساخنة بالنقاشات حول مصائر الأمم وأشكال السلطة السياسيّة بين من ينظرّون لثورة دائمة (تروتسكيّون)، ومن يجزمون بحتميّة انحطاط الإمبراطوريّات (توينبي وتلامذته امتداداً لجيبون صاحب التاريخ الكلاسيكي «انحطاط وسقوط روما»)، ومن يؤمنون بمستقبل يوتوبي أفضل يتولى الحكم فيه علماء فلاسفة بدلاً من السياسيين الدوغمائيين، ناهيك بالفاشيست أصحاب نظريّات الأعراق المتفوّقة، والشيوعيين الحالمين بدولة عالميّة تنهي الحاجة إلى الدولة ذاتها، والصهاينة تجار الأساطير وثقافة (حكماء) «الشّعب المختار». وقد عَلقت هذه الأفكار في ذهن عظيموف وتحوّلت بشكل ما إلى مصدر إلهامه عندما وجد متعته لاحقاً في كتابة حكايا الخيال العلمي، لا في تدريس الكيمياء العضوية موضوع تخصصه وبحثه في الدكتوراه (وهو بالفعل تفرّغ كليّة للكتابة بعد 1958).
النصّ يقدّم صورة توراتيّة محافظة لشكل نظام العيش البشري في المستقبل البعيد


في الصفحات الافتتاحيّة من «المؤسسة»، نجد أن مجرّة درب التبانة قد توحدت جميعها تحت إمبراطورية واحدة تُحكم من كوكب ترانتور، الذي يبدو أنه بلغ ذروة التّطور التكنولوجي والثّقافي. ولكن كما تعيش الإمبراطوريات التاريخية على الأرض مواسم صعود قبل أن تبدأ في الانحطاط حتى اندثارها النهائيّ، فإن هيلمان إمبراطورية المجرّة يحتوي بدوره على بذور فنائها الخاصة، إذ يحكمها إمبراطور منفّر (فرعون؟) يقوده جنون العظمة إلى قرارات دمويّة وغير حكيمة عند التعامل مع الكواكب المتمردة في مناطق أطراف للإمبراطورية، وقد بنى سلالة متعاقبة من استنساخات له كي لا يترك السلطة إلى الأبد. لكنّ عالماً حكيماً يدعى هاري سيلدون يطوّر علماً متقدّماً يعتمد على الرياضيات والمعادلات والبيانات ـــ يسمّيه «سايكوهيستوري» ـ يمكّنه من تحليل معطيات الماضي وقياس الواقع والتنبؤ بالمسار الأكثر احتمالاً للأحداث العالمية كالحروب والاضطرابات والمجاعات، وبالتالي توقع الشكل الإجماليّ للمستقبل في القرون المقبلة. وبحسب الـ «سايكوهيستوري»، يتوصّل سيلدون إلى نبوءة بحتميّة سقوط الإمبراطوريّة القائمة وانهيار الحضارة، فلا تصدّقه إلاّ ثلّة تؤمن بتعاليمه وتفهم لغته، فيما تعاديه السّلالة الحاكمة التي لا تكاد تصدّق أنّ نهايتها آتية لا محالة. وكموسى العبرانيّ في قومه، يقود سيلدون أتباعه من العلماء والمناضلين عبر فيافي الفضاء لاستيطان كوكب قاحل غير مأهول على أطراف الإمبراطوريّة ليكون بمثابة «إسرائيل؟»: مستودع للمعرفة والتكنولوجيا التي من شأنها النجاة من الهمجيّة والحروب المقبلة، لتنتقل «الرّسالة الإلهيّة السيلدونيّة» إلى الأجيال اللاحقة. يتحوّل سيلدون بعد رحيله المبكّر إلى نوع من إله يُقسم أتباعه باسمه ويمكنهم استدعاء روحه للتّداول والاستشارة عبر تقنيّة هولوغرام متطوّرة، وتؤخذ إدعاءاته كمسلّمات مقدّسة ويسمى أتباعه الذي يتناقلون أسرار الطاقة النوويّة بـ «الكهنة». ومع أن انتصار المؤسسة (إسرائيل) النهائي الأكيد يضعف قدرة النصّ على التشويق، إلا أن عظيموف يعوّض ذلك من خلال الانعطافات الكثيرة للسرديّة والحوارات الفلسفيّة المطوّلة بين الشخصيات. ولا يكتفي سيلدون بمؤسسته، إذ ينشئ سرّاً مؤسسة ثانية في ناحية أخرى قصيّة من المجرّة من دون أن نعرف بالتحديد طبيعة المهمّة المكلّفة بها، وإن يقول البعض بأنّها معنيّة بتطوير علوم الروحانيّات والفلسفة والعقل المجرّد (القابالا اليهوديّة؟). وقد عاد عظيموف في أعمال لاحقة لاستكمال ثلاثيّة «المؤسسة»، لكّن ثقلها النوعيّ بقي دائماً الثلاثيّة الأولى دون غيرها.
انتظرت «المؤسسة» عقوداً طويلة وشهدت محاولات عدة فاشلة لتقديمها على شاشة السينما أو التلفزيون، قبل أن تقرر شركة «آبل» أخيراً أن الوقت قد حان لاستدعائها كسلسلة عصريّة عبر منصة الستريمنغ الخاصة بها (آبل بلاس)، تستلهم فيها الحكاية الأصليّة، لكنّها تتدارك عيوباً كشفها تعاقب الأيّام، كما انحيازها «التوراتيّ» السافر ضدّ النساء. ففي المسلسل الذي يفترض أن يشمل 80 حلقة (تبثّ حلقة جديدة من الموسم الأوّل أسبوعياً كل يوم جمعة ــ الحلقة الرابعة الجمعة المقبل)، تُعاد صياغة نصف الشخصيات في الثلاثيّة لتؤديها نساء بدلاً من الرّجال، وبعضها أدوار محوريّة تزيح تماماً صورة المرأة في النصّ الأصلي كأشياء زخرفيّة جميلة، وأدوات إشباع جنسيّ للقادة والحكماء.


فنيّاً، ومنذ مشاهدة الحلقات الأولى، يمكن القول بأن المسلسل الذي كتب نصّه ديفيد غوير وجوش فريدمان، سيحظى بقبول الأتباع الأوفياء لأعمال عظيموف، كما الأجيال الجديدة التي ستدخل عوالمه للمرة الأولى. وحتى أولئك الذين سيعتبرونه هراء موجهاً للمراهقين صغار السنّ، وهم كانوا بالفعل جمهور الثلاثيّة الأساسي عند نشرها، أو ينتقدون منطلقاته السياسيّة الصهيوفاشيّة، فإنّهم سيستمتعون، من دون شك، بالتّقنيات الفنيّة الأنيقة والموسيقى التصويريّة الباذخة (ألحان الأميركي المعروف بير ماكريري) والأداء المُقنع لمعظم الشخصيّات: الممثل الأميركي جارد هاريس في دور الحكيم هاري سيلدون، الأميركي لي بيس في دور الإمبراطور المستنسخ «الأخ داي»، كما الممثلة الأفريقيّة المقيمة في بريطانيا لو لوبيل التي تلعب شخصيّة «غال درونيك» تلميذة سيلدون الأثيرة، والفنلنديّة لورا بيران التي تؤدي روبوت الأندرويد المكلّف بأعمال مدبّرة المقر الإمبراطوري بشكل مستمر مع تعاقب السلالة الحاكمة المستنسخة.
أما سياسياً، فيمكن اتهام المسلسل (كما النّص الأصلي) بتقديم صورة محافظة تقليديّة توراتيّة لشكل نظام العيش البشري في المستقبل البعيد، فكأن الثابت بعد كل هذا التقدّم الهائل نماذج الأنبياء والكهنة والملوك، مما يُفقد الخيال العلميّ قيمته في استكشاف آفاق غير مطروقة عن غد ممكن، ويجعله مجرّد اجترار مزخرف للكتب العتيقة يعترف بنظام الطّبقات كأنه أساس الطبيعة، ويتقبّل نظام التّجارة المركنتيليّة البائس كما في عصور الإقطاع، ويرى الإمبريالية وقهر الشعوب كلازمة للتقدّم والإنجاز. هناك مشهد الإمبراطور وهو يصدر أوامره باستهداف كوكبين بالأسلحة الكاسحة عن بعد ومتابعة ذلك عبر الشاشات من دون أيّ إشارة إلى ماهيّة الناس المستهدفين، ورغم عدم ثبوت أيّ علاقة لهم بأعمال تفجيريّة انتحاريّة استهدفت برجاً هائلاً يعد رمز جبروت الإمبراطوريّة، مما يجبرنا على تذّكر الليلة المشؤومة عندما أصدر جورج بوش أوامره بقصف بغداد ذات نيسان ونقلت «سي. إن. إن» مشاهد لمعان الصواريخ وهي تخدش هدوء ليلها الدامس.
لذلك، فمشاهدة «المؤسسة» تجربة تضيء لكل راغبٍ في فهم التكوين الشاذ لعقل النخبة الأميركيّة على المآزق الفكريّة العديدة التي نشأت عليها هذه الفئة من القتلة، وما زالت إلى اليوم وستظلّ غداً تعيش أوهام الإمبراطورية الغالبة وخزعبلات بناء أورشليم الجديدة، ولو على جثث ملايين البشر، وخراب الكوكب برمتّه.

Foundation
على Apple TV+