الدار البيضاء | من كان يتصوّر في نهاية الثمانينيات، أنْ يصبح فنّ الراب من أبرز المُكوّنات الفنية العربيّة وأحد المَلاذات التي احتمى بها الغناء المغاربي إبان الألفية الثالثة، بعد طوفانٍ بصريّ اجتاح كيانه وغيّر صورته ووسائطه وأحواله المفاهيمية والجماليّة وجعله يدخل في تجريبٍ موسيقي، يمزج بين حساسيّة الكلمة وعُنفها وحداثة الآلة الموسيقيّة الإلكترونية ورحابتها؟ لكن إذا كان فنّ الراي، قد كرّس نفسه خلال التسعينيات على أساس أنّه لسان حال مرحلة تاريخيّة اجتماعية، مع كلّ من الشاب مامي والشاب خالد وحسني والشاب بلال ورشيد طه وسعيدة فكري، فإنّ الراب قد أضحى بدون منازعٍ ــ بعد عشريّة سوداء شهدتها الجزائر ـــ لسان حال كلّ المنسيين والمقهورين والمنبوذين، بحكم ما وجدوا فيه من تناغمٍ، بين ذواتهم المَكلومة وفداحة وعُنف الحاضر الذي ينتمون إليه سياسياً واجتماعياً.
فرقة «فناير» المغربيّة

مع العلم أنّ الراب ليس وليد الجغرافيا العربيّة، وإنّما ينتمي إلى الفنون التي اخترقت في لحظة من تاريخها المُجتمع الغربي، وأضحت تُمثّل حظوة غنائية حتّى بالنسبة للمُجتمعات الأخرى، التي تعيش تحت قبضة السُلطة وأجهزتها القمعيّة. كل هذا في وقتٍ كان فيه الشعر ــ عبر تاريخ العرب منذ الجاهلية إلى اليوم ـــ يلعب دوراً طلائعياً، باعتباره من جهة يُمثّل بوقاً بالنسبة لمُؤسّسات الحكم إيان العصر الوسيط وبعده، حيث احتلّ الشاعر منزلة رفيعة في تغذية وجدان السُلطان والتغنّي به ومدحه في الأفراح والمجالس الدينية. أما في الجانب الثاني، فقد تحوّل الشعر إلى وسيلة إيديولوجية في خدمة الكتل الجماهيرية بدءاً من منتصف ستينيات القرن العشرين، من دون التنازل عن شروطه الأدبيّة والفنيّة والجماليّة. أما اليوم في زمن الألفية الجديدة، فقد تراجع نفوذ الشعر السُلطوي لصالح ظهور فنون أخرى أكثر تأثيراً في الواقع ومُتطلّباته وخصوصية مُجتمعاته الجديدة وطريقة تركيبتها، التي تفرض فنّاً مُعاصراً، يستجيب لسلوكيات الناس وهواجسهم وأمزجتهم داخل الاجتماع العربي.
وُلد الراب في الأزقة المَغاربيّة وليس داخل مُؤسّساتها الفنيّة ومعاهدها الموسيقيّة. فنٌّ ثائر على الأنظمة السياسيّة والقوالب الفنية التقليدية، حيث يستبدل إيقاع الطرب بموسيقى معاصرة صاخبة وإلكترونية إلى حد بعيدٍ. لم تكُن المؤسّسات السياسية الرسمية، تسمح بهذا النوع من الغناء داخل الأوساط المجتمعية. لذلك عمدت إلى مُحاربته ونفيه من المهرجانات الموسيقيّة. مع ذلك، لم يتوقّف فنانو الراب. ظلّوا يكتبون أغانيهم في صمت ويُغنّونها ويُسجّلونها في استوديوهات خاصّة. في أغلب ألبومات الراب الأولى، حضر البُعد السياسي لأنّ الأغاني جاءت عبارة عن صورة مُركّزة ونقد للمرحلة التسعينية وما شهدته من تصدّع وخراب في نفوسٍ وعقلياتٍ داخل الاجتماع المَغاربي. أكثر من ذلك، ذهبت وسائل السُلطة إلى الترويج بشكلٍ سلبيّ للراب داخل المدارس التعليمية الرسمية، كنوعٍ من تكريس صورة تنميطيّة وتحقيرية لهذا الفنّ الجديد الثائر والمُستورد الذي سيكتسح الأوساط الغنائية في وقتٍ وجيزٍ ويُكرّس نفسه موضةً غنائيةداخل المُجتمع المغاربي.
ظهر للمرة الأولى في التسعينيات، لكنّه وجد مُنافسة شرسة من الراي


ظهر الراب للمرة الأولى في المنطقة المغاربيّة في تسعينيات القرن الماضي. لكنّه وجد مُنافسة شرسة من لدن الراي، الذي كان آنذاك سيّد المرحلة يعيش مرحلته الذهبية مع رموزه الكبرى التي أسّست مسار وعي فني وجماليّ في قلوب كلّ من عاشوه وأحبّوه. لم يكُن للسُلطة السياسية الرسمية أيّ مشكل مع الراي، لأنّه في أصله كلام معسول يطرح أسئلة الحبّ والعشق والموت والغربة والواقع، أي أنّ أغانيه لم تخرج من البُعدين الوجداني والاجتماعي. مع العلم أنّ أغلب رموزه، ظلّت أسيرة أغاني الحبّ باستثناء فئة قليلة رفضت أنْ تنصاع إلى هذا المُنطلق الفنّي، فقامت بتوسيع ريبرتوارها الغنائي وقدّمت أغنيات صادمة للرأيّ السياسي آنذاك، كما هو الأمر مع المطربة المغربيّة سعيدة فكري (1971) أجمل أصوات الراي المغربي.
تكمن خصوصية فنّ الراب (أبرز رموزه في المغرب: «مسلم»، والبيغ، إلى جانب فرقتي «آشكاين»، «الفناير») وأهميّته في كونه يُمارس سحراً منذ أوّل احتكاك بالمُستمع ويجعله يُقبل عليه وينصاع إلى أغانيه وما يرتبط بها من سلوكٍ ولباسٍ وتفكير. إلى جانب فتنته الموسيقيّة وحدّة تأليف كلماته، تتميّز بعض أنواعه (الهيب هوب) بنوعٍ من التزاوج والتعانق بين فنّ يعتمد على الصوت، وآخر يُراهن على الجسد (الرقص). وهذا السرّ الفنّي هو ما سيؤدي لاحقاً لحظة إلى بروز فنّ «الفيديو كليب» كصناعةٍ مُستقلّة، ويجترح لنفسه أفقاً موسيقيّاً رحباً تمتزج فيه سُلطة الخطاب بصخب الموسيقي وثورة الجسد داخل الصورة.
ورغم مظاهر النجاح التي رافقت سيرة فنّ الراب داخل المغرب والجزائر وتونس، إلاّ أنّ ثمّة أوصافاً قدحية ظلّت مُلتصقة به، بسبب التنميط البصري الذي وجد نفسه فيه في الآونة الأخيرة. لكن لاحقاً، سيصبح للراب داخل المنطقة المغاربيّة مهرجانات موسيقيّة تُسهم فيها الدولة سنوياً وتُثمّن مُنجزه الفنّي.
كل هذا بعد سنوات من الاعتقالات والتجريح في حقّ بعض فنّاني الراب. فقد تميّزت البدايات بلغةٍ مُباشرة واحتجاجية على الوضع الذي تعيشه المنطقة سياسياً. لكنّ تفاقم استعمال الموسيقى الإلكترونية عربياً والطفرة البصريّة جعلا فنّ الراب، يأخذ منحى آخر قائماً على التجريب الموسيقيّ موضوعاً وآلةً وصورة. هكذا تحوّلت أغاني الراب من بُعدها السياسي إلى ارتياد آفاقٍ اجتماعية غدا فيها التأليف يبدأ من أحراش الجسد وينتهي داخل أدغال المجتمع. والحقيقة أنّ هذا الانتقال الأنطولوجي، الذي عرفه فنّ الراب وخفوت سُلطة كلمة أغانيه لصالح عذوبة الموسيقى وجماليّات فيديو كليباته ورومنسيتها، قد طال الثقافة المَغاربيّة بمفهومها المُركّب ككلّ، بعد مرحلة التسعينيات. هكذا، تحوّلت إلى هدنة مع السُلطة وأجهزتها القمعية، رغم أنّ مرحلة الربيع العربي، أسهمت إلى حد كبير في إحياء فنّ الراب وجعل سُلطته السياسيّة تعود في نقد الواقع وأجهزته السُلطويّة. لكنّ سرعان ما سينخفض وَهج هذه الأغنيات لصالح تأليف مُرتبك في مُنطلقاته الفنيّة والجماليّة، لأنّه يستند إلى خطاب رومانسيّ حالم، لا يتماشى مع خصوصية فنّ الراب، كما برز وتبلور داخل البلدان المغاربيّة، لا سيما في المغرب والجزائر، حيث برزت فرق عدة أضحى لها اليوم طابع الشهرة والنجومية والتداول داخل المهرجانات العالمية. رغم هشاشتها، هي تُحقّق شهرة واسعة بارتكازها إلى مختلف أشكال تجريب الموسيقى الإلكترونية، بوصفها خطّة موسيقيّة سحرية، تجعل بعض الأشخاص الذين تنعدم فيهم شروط الموهبة الفنية، يُصبحون من نجوم غناء الراب ويحضرون داخل مهرجانات مغربيّة وعربيّة، رغم ما تُعانيه أغانيهم من هشاشة وارتباك وانتماء لهذا الفنّ المُؤسّس على نقد السُلطة ومُتخيّلها القمعي في حقّ الناس.