صحيح أنّ هناك عدداً من كتّاب القصة القصيرة سبقوا محمد علي جمال زاده في كتابة هذا الشكل الأدبي، لكن الصحيح أيضاً أن قصّة الفارسية «سُكّر» التي قرأها جمال زاده على عدد من المثقفين الإيرانيين الذين اجتمعوا في شارع لايبنيتز 64 في منطقة شارلوتنبورغ في برلين حيث مسكن السيد حسن تقي زادة ومقر المثقفين الإيرانيين المدافعين عن قيم الحرية هي نقطة انطلاق الأدب الفارسي الحديث وبداية القصة القصيرة الإيرانية، بحكم تكثيف العناصر الحداثية والاهتمام بالأساليب الفنية للسرد والتركيز على دراسة الأبعاد المختلفة للشخصيات عوضاً عن المضامين الوعظية والأخلاقية الرائجة في التراث النثري الفارسي بكل أصنافه العرفانية والمذهبية والأسطورية والشعبية.
صادق هدايت في بيت صديقه رضا جرجاني وبعدسته.

إن دراسة التحديث في النثر الفارسي بمنأى عن الحركة الدستورية (المشروطة) دراسة منقوصة، لا تأخذ في الاعتبار الدور الكبير الذي لعبه صحافيّو الحركة الدستورية في تبسيط اللغة الفارسية وربطها بالحياة اليومية للفرد. لأجل هذه المهمة، فتح جمال زاده باباً للأدب الفارسي، بكتابة شكل أدبي يتحدث عن هموم الناس بلغتهم الرائجة في الشارع والسوق والبازار، وهو ما كان يُعدّ وصمة عارٍ على جبين الأديب الإيراني، خصوصاً أن حركة التحديث أعقبت مباشرة مدرسة العودة في الشعر الفارسي، التي احتكرت التمثيل الأدبي بالشعر، وارتأت أن يكون صدى للعصور الذهبية رغم المسافة الزمنية. بعد جمال زاده، أولى صادق هدايت اهتماماً أكبر للعلاقات الإنسانية والأفعال وردود الفعل في ما بينها. هدايت، ككاتب، تنحّى جانباً وأعاد بناء الفضاء السردي، تاركاً حكم القصة للقارئ. بسبب الشخصيات الموجودة في الداخل، تجنّب استخدام الشخصية النمطية في قصصه. كتب قصصه الأولى بين 1929 و1930، ويتغيّر مسار شخصياته حسب الظروف الاجتماعية. لكن نظرته للحياة والموت لم تتغير بشكل جذري سواء في أعماله الأولى أو الأخيرة، من مجموعته القصصية «المؤوودة»، انتهاء بمجموعته الأخيرة. اعتمد هدايت أكثر من غيره على عنصر واحد هو الشخصية في القصة. تؤدي الحوارات دوراً مؤثراً في قصصه، ومن خلالها تتضح معالم الشخصيات الرئيسة. من خلال معالجة التناقضات، يحوّل شخصيات جمال زاده النمطية إلى شخصيات فردانية ذات طابع داخلي. لهذا، فإن نثره أكثر سلاسة وحساسية لزيادة قدرته على تسجيل التجربة البشرية. الناس في قصص هدايت يرفضون التعبير عن الحب. الحب وضّاء وجميل في حياتهم؛ لكن عندما تقترب منه شخصية القصة، فإنه يدرك مآسيها في وهجها. رغم أن شخصيات أعمال هدايت تنتمي إلى أزمنة وطبقات مختلفة من ثقافة المجتمع؛ لكنها تخشى دائماً العلاقات العاطفية. كل هذه الخصائص تبلغ ذروتها في عمله الأكثر شهرة «البومة العمياء»: قصة جديدة، معاصرة ومستقبلية، ترتبط أماكنها وشخصياتها بالعالم العقلي للراوي، حيث يحقق أحلامه بهدوء.
— المترجِم —

أمس، تم عزل غرفتي، ترى هل تمت معالجتي حقاً كما وعد الناظر، وهل سيتم إطلاق سراحي الأسبوع المقبل؟ هل كنت مريضاً، طوال عام بأكمله؟ لم يزودوني بالورقة والقلم رغم تضرعي لأجل ذلك. كنت أعتقد أنني سأكتب أشياء كثيرة إن حصلت على الورقة والقلم، وهو ما كنت أطمح إليه كثيراً وانتظرته طويلاً. ولكن، ما الجدوى؟ منذ أمس لا يخطر في ذهني شيء أكتب عنه. يبدو الأمر كما لو أن شخصاً ما يمسك بيدي أو أن خَدَراً أصاب ذراعي. الآن بعدما ألقيت نظرة فاحصة على الخطوط المختلطة التي أرسمها على الورقة، الشيء الوحيد الذي يمكن قراءته هو: «ثلاث قطرات من الدم».
السماء لازوردية، والحديقة خضراء والزهور متفتحة على التل، النسيم لطيف يجلب رائحة الزهور إلى ها هنا. ولكن ما الفائدة؟ لم يعد بإمكاني الاستمتاع بأي شيء، كل هذا جيد للشعراء والأطفال وأولئك الذين يظلون أطفالاً طوال حياتهم ــ لقد كنت هنا منذ عام، أستيقظ ليلاً على أصوات القطط، هذا الأنين الرهيب، هذه الحنجرة المجروحة التي أفسدت حياتي، وقبل أن أفتح عينيّ في الصباح هذه الحقنة اللعينة! يا لها من أيام طويلة وساعات مخيفة قضيتها هنا، في ارتداء قمصان وسراويل صفراء؛ نجتمع في الطابق السفلي في أيام الصيف، ونجلس تحتَ الشمس أمام الحديقة في الشتاء، كنت أعيش بين هؤلاء الأشخاص الغرباء منذ عام. لا شيء مشتركاً بيننا، فأنا مختلف عنهم اختلاف الأرض والسماء، ولكن أنين وصمت وبذاءات وبكاء وضحك هؤلاء الناس ستملأ نومي دائماً بالكوابيس.
تفصلنا ساعة واحدة عن تناول العشاء، من نفس الوجبات فاقدة المذاق: حساء العدس، أرز بالحليب، أرز، خبز وجبن، كل ذلك قوت لا يكفي لسد الرمق. كل ما يتمناه حسن هو تناول حساء البيض المسلوق مع أربعة أرغفة من الخبز المطهي على الحصى. عندما يحين وقت إجازته، يجب أن يحضروا له طنجرة البيض المسلوق بدلاً من الورق والقلم. إنه أحد المحظوظين هنا، قامته القصيرة، وضحكته الغبية، ورقبته السميكة، ورأسه الأصلع وذراعاه النحيفان يؤكدان أنه خُلق خصيصاً لحمل طاسات البناء. لو لم يحضر محمد علي لتناول طعام الغداء والعشاء، لتسبّب حسن في انتقالنا إلى العالم الآخر، ولكن محمد علي نفسه مثل أهل هذا العالم، بمقدور الناس العاديين هنا أن يقولوا كل ما يرومون قوله، أن يعبّروا عن عالمهم، ولكن دائماً ثمة عوالم أخرى في أذهانهم. معنا هنا طبيب لا يؤمن بمشيئة الله، لو كنت مكانه كنت سأدس ذات ليلة السم في الطعام وأمنحهم إياه لتناوله، كنت مهووساً بتفادي التسمّم، لم أتناول العشاء. أما الغداء فقد تناولته بعدما تذوقه محمد علي، ثم أكلت، استيقظت خائفاً في الليل، ظننت أنهم جاؤوا لقتلي. إلى أي مدى تلاشى كل هذا! دائماً نفس الأشخاص، نفس الطعام، نفس الغرفة الزرقاء، زرقاء لغاية منتصف جدرانها.
قبل شهرين، رموا رجلاً مجنوناً في ذلك السجن عند نهاية الباحة، مزّق بطنه بقطعة رخامية مكسورة، اقتلع أمعاءه، وكان يلعب بها. قيل إنه جزار، اعتاد على بقر البطون. لكن الآخر، الذي فقأ عينيه بأظافر أصابعه، كانت يداه مقيّدتين خلف ظهره. كان يصرخ وقد تيبست الدماء في عينيه. كنت أدرك أن الناظر هو من يقف وراء كل هذه الأحداث: ليس الجميع هنا على هذه الشاكلة. سيكون الكثير منهم بائسين إذا تم علاجهم وإطلاق سراحهم. لنأخذ أصغر سلطان من قسم النساء مَثَلاً: أرادت الهرب مرتين أو ثلاث مرات، ولكن تم القبض عليها. إنها امرأة عجوز، تطلي وجهها بجص الحائط، وتضفي اللون الأحمر على وجنتيها بزهرة إبرة الراعي. تعتبر نفسها فتاة تبلغ أربعة عشر عاماً، إن عولجت ونظرت في المرآة، فإنها ستصاب بجلطة دماغية. الأسوأ من ذلك كله هو صاحبنا تقي الذي أراد أن يقلب العالم رأساً على عقب، وعلى الرغم من اعتقاده أن النساء هن السبب في بؤس البشرية وأن كل امرأة يجب أن تُقتل لتحسين وضع العالم، فقد وقع في حب أصغر سلطان.
وراء كل هذه التفاصيل، يقف الناظر فيه من الجنون ما يفوق جنون كل المعتوهين هنا: ذو أنف كبير وعينين صغيرتين تجعلانه أشبه بمدمني المخدرات، يسير في الحديقة عند سفح شجرة الصنوبر. أحياناً ينحني وينظر إلى الشجرة، من يراه يقول كم هو فقير بائس وقد ابتلي بحفنة مجانين، ولكني أعرفه. أعلم أن هناك ثلاث قطرات من الدم على الأرض تحت الشجرة. ثمة قفص معلق أمام نافذته، القفص فارغ، لأن القط أمسك بالكناري، وهو من ترك القفص للقط ليدخل فيه ومن ثم ينقض عليها.
بالأمس كان يبحث عن قطة مرقطة، ما إن تسلقت القطة المسكينة شجرة الصنوبر أمام نافذته، حتى أمر الحارس أن يفتح عليها النار. هذه القطرات الثلاث من الدم تخص القطة، ولكن عندما سئل عن الأمر، قال إنه دم البومة.
الأكثر غرابة من كل هؤلاء صديقي وجاري عباس. أحضروه إلى هنا منذ أسبوعين، وهو في غاية الود معي ويعتبر نفسه نبياً وشاعراً. يقول إن كل شيء وخاصة النبوة، يعتمد على الحظ والطالع. من كانت جبهته عالية (جبينه بارز)، سيحظى بالنجاح وإن لم يكن يملك شيئاً، وإن كان علامة العصر لكن دون جبين عريض سيكون مصيره نفس مصيري، يعتبر عباس نفسه أيضاً عازفاً ماهراً. وضع سلكاً على لوح واعتبر ذلك آلة تَارٍ ولثمان مرات في يوم واحد قرأ لي القصيدة ذاتها. لعل هذا هو سبب إحضاره إلى هنا: نظم أشعار غريبة: «يا للأسى، حل المساء مرة أخرى/ والكون برمته تحوّل إلى اللون الأسود/ السكينة عمت قلوب الخلق/ أنا وحدي تفاقم حزني وتضاعف ألمي/ ليس إلى السعادة يتوق الناس/ ولا علاج لحزني إلا الموت/ ولكن في تلك الزاوية عند سفح شجرة الصنوبر/ ثلاث قطرات من الدم على التربة».
كنا نتمشى أمس في الحديقة، وكان عباس يردد الأبيات ذاتها، جاء لزيارته للمرة الخامسة رجل وامرأة وبصحبتهما فتاة شابة، أعرفهم جيداً إذ سبق لي أن رأيتهم هنا، كانت الفتاة تحمل باقة ورد، تنظر إليّ بين حين وآخر وتضحك في وجهي، كان واضحاً أنها تحبني، بل جاءت خصيصاً لأجلي، فالجدري هو ما يطبع وجه عباس القبيح. وفيما كانت تتحدث المرأة مع الطبيب، رأيت عباساً يسحب الفتاة جانباً ويقبّلها.
حتى الآن لم يأت أحد لرؤيتي ولم يحضروا لي الزهور، لقد مر عام على آخر زيارة لسياوش، كان من أعز أصدقائي. كنا جيراناً، اعتدنا الذهاب إلى دار الفنون معاً كل يوم، وكنا نعود معاً ونتناقش حول دروسنا. وخلال أوقات فراغي، كنت أقوم بتدريسه العزف على التّار. غالباً ما كانت تنضم إلينا رخسارة ابنة عم سياوش وكانت خطيبتي، وكان سياوش يحلم بالزواج من أختها، لكنه أصيب بمرض قبل عقد القران بشهر، وقد ذهبت مرتين أو ثلاثاً لزيارته لكنهم أخبروني أن الطبيب منع التحدث إليه، وهي إجابة تكررت ولم أُصِرَّ بعد محاولتين أو ثلاث.
أتذكر جيداً، عند اقتراب أيام الامتحان، ذات مساء عندما عدت إلى المنزل، وضعت كتبي على الطاولة مع بعض الكتيبات المدرسية. كنت أستعد لتغيير ملابسي، كان هناك صوت إطلاق رصاص. كان صوته قريباً جداً لدرجة أنه أثار فيّ الرعب، منزلنا كان خلف الخندق مباشرة وحدث أن قام لص بسرقة بيت مجاور لنا. أخذت المسدس من درج الطاولة ووقفت في الفناء، أستمع باهتمام، وذهبت إلى السطح ولم يلفت شيء هناك انتباهي. عندما عدت، نظرت إلى منزل سياوش ورأيته واقفاً في منتصف الباحة مرتدياً قميصه وسرواله. قلت بدهشة:
ـــ أهذا أنت يا سياوش؟
عرفني وقال:
ـــ هيا، ادخل، لا أحد في منزلنا.
ـــ هل سمعت صوت إطلاق النار؟
وضع إصبعه على شفتيه وأومأ برأسه، فأسرعت إلى الطابق السفلي وطرقت باب دارهم. جاء وفتح الباب أمامي. عندما كان رأسه منخفضاً وكان يحدق في الأرض، سأل:
ـــ لماذا لم تأت لرؤيتي؟
ـــ أتيت مرتين أو ثلاثاً، ولكنهم قالوا إن الطبيب لن يسمح.
ـــ يعتقدون أنني مريض، لكنهم مخطئون.
سألت مرة أخرى:
ـــ هل سمعت صوت إطلاق الرصاص؟
دون إجابة، أمسك بيدي وأشار إلى شجرة الصنوبر وأراني شيئاً. نظرت عن كثب: ثلاث قطرات من الدم الطازج تقطر على الأرض.
ثم أخذني إلى غرفته، وأغلق جميع الأبواب، وجلست على كرسي، وأشعل الضوء، وجاء وجلس على الكرسي المقابل لي جوار الطاولة. كانت غرفته زرقاء اللون مع جدار أزرق. تار في إحدى زوايا الغرفة. كما كانت هناك عدة مجلدات من الكتب والنشرات المدرسية على طاولة. ثم أخذ سياوش مسدساً من درج المكتب وأظهره لي. كان أحد المسدسات القديمة ذات المقبض الصدفي، وضعه في جيب بنطاله وقال:
ــــ كانت لدي قطة، كان اسمها نازي. ربما تكون قد شاهدتها، لقد كانت واحدة من هذه القطط العادية المرقطة. بعيون كبيرة مثل العيون الكحلية. ونقوش منتظمة. على قفاها يبدو كما لو تم سكب الحبر على صفائح فولاذية ثم تم تجفيفها وطيها من منتصفها. في النهار حين كنت أعود من المدرسة، كانت تركض إلى الأمام، وتموء وتتمسح بي، وعندما أجلس كانت تتسلق كتفي، وتفرك أنفها على وجهي، وتلعق جبهتي بلسانها الخشن وتصر على أن أقبلها. يبدو أن القطة أكثر دهاءً ولطفاً وحساسية من الهر. كانت نازي في علاقة جد طيبة مع الطباخ، فهو مصدر الطعام، لكنها كانت تبتعد عن السيدة العجوز التي تقضي أوقاتها في الصلاة وتتجنب شعر القطط. لا بد أن نازي تخيلت البشر أكثر دهاء من القطط، وأنهم احتفظوا بكل الأطعمة اللذيذة والأماكن الساخنة والمريحة لأنفسهم، وأن القطط يجب أن تكون أكثر تملقاً، متملقة بما يكفي لتكون قادرة على المشاركة معهم. تستيقظ المشاعر الطبيعية لنازي وتفور حين تمسك برأس ديك ملطخ بالدماء، تتحول حينها إلى حيوان مفترس. تجحظ عيناها وتلمعان وتكشف عن مخالبها، مهددة أي شخص يقترب منها بخرخرة طويلة، ثم تشرع باللعب كما لو أنها تخدع نفسها. فعلى الرغم من سعة مخيلتها، تظن أن رأس الديك حيوانٌ حي، تصفعه وتتحفز ضده، تخبىء نفسها ثم تنصب كميناً له وتهاجمه بكل شراسة، وهي بذلك تكشف عن كل مهارتها وخفة حركة الفصيل الذي تنتمي إليه في القفز والقتال والهرب. بعد أن تسأم من العرض، تلتهم رأس الديك الدامي بشهية مفتوحة، بعد دقائق تبحث عن بقايا الرأس، إنها تتخلى عن تَحَضُّرِهَا الزائف لساعة أو ساعتين، ولهذا تنأى عن الجميع، لا تتملق أحداً ولا تقترب منه، ولا تتغنج. تبدي نازي الود، ولكنها في أحايين أخرى، تبدو وحشية وانطوائية، متكتمة على أسرار حياتها، حريصة كل الحرص على بيتها، وإن اقتربت قطة من بيتها، فلن ينقطع صوت هرير ونفخات الغضب. إن الصوت التي تطلقه نازي للإعلان عن موعد الغذاء ليس الصوتَ ذاتَه وقت الدَّلال، والصرخة التي تطلقها حين يشتد بها الجوع ليست هي نفسَها عند العراك، وتتمايز عما يصدر عنها أثناء الإثارة الجنسية، ثمة اختلاف في اللحن وحدة الصوت، فالأولى تجرح الفؤاد والثانية صرخة حقد وغضب والثالثة أنين ووجع من باب الحاجة إلى الزوج (القرين)، ذات مغزى أكثر من أي شيء آخر. نظرات نازي، إنها تظهر أحياناً مشاعرَ إنسانية، لذلك يتساءل المرء: وراء كرة الفراء هذه، وراء هذه العيون الخضراء الغامضة، ما الأفكار والمشاعر التي تتماوج؟
في ربيع العام الماضي، وقع ذلك الحادث المروع. في هذا الموسم، وكما هو بديهي تهتاج جميع الحيوانات وتتجول مضطربة هنا وهناك، كما لو أن رياح الربيع تهب شغفاً بالجنون في جميع المخلوقات. لقد صُدمت نازي، لأول مرة، بشغف الحب، وبسبب رعشة هزت جسدها بالكامل، كانت تطلق أنيناً حزيناً. سمعت القطط أنينها واستقبلتها من كل مكان. بعد معارك وصراعات، اختارت نازي أحدهم زوجاً لها، وهو الأقوى والأعلى صوتاً. للرائحة مكانة خاصة وأهمية فائقة في حب الحيوانات، وهذا هو السبب في أن القطط المنزلية الأصيلة لا تؤثر على إناثها. على عكس قطط الجدران، فإن القطط الضالة والجائعة التي تدل رائحة جلدها على سلالتها الأصلية هي محور اهتمام الإناث. لأيام وخاصة طوال الليل، غنت نازي وزوجها أغاني الحب بصوت عالٍ. سوف يتمطى جسد نازي الرقيق والناعم، بينما ينحني الجسم الآخر مثل القوس ويطلقان سوية تأوهات الفرح. يستمر هذا الطقس حتى الفجر. ثم تدخل نازي الغرفة بشعر أشعث متعبة ولكن سعيدة.
لم أستطع النوم ليلاً بسبب غراميات نازي، استيقظت أخيراً، ذات يوم كنت أمام هذه النافذة. رأيت الحبيب والحبيبة غارقين في غراميات الحب وسط الحديقة. من على بعد ثلاث خطوات، بنفس المسدس رأيتها أطلقت الرصاصات نحو الزوجين النازيين. بدا الأمر كما لو أن ظهره مكسور فقد قفز طويلاً وهرب بعيداً عن الممر دون أن يصدر صوتاً أو أنيناً، وسقط أمام سور الحديقة ومات.
كان مساره كله يقطر بالدم. تبعته نازي لبعض الوقت وعثرت على آثار أقدامه، كانت تشم دمه وتوجهت مباشرة إلى جثته. أمضت ليلتين ويومين في حراسة جثته. أحياناً كانت تلمسها بيدها وكأنها تقول:
ـــ استيقظ، إنه أول فصل الربيع. لماذا نمت أثناء المغازلة، لماذا لا تتحرك؟ انهض، انهض.
لم تكن نازي تدرك معنى الموت ولم تكن تعلم أن حبيبها قد فارق الحياة.
في اليوم التالي، ضاع أثر نازي وجثة قرينها، كان من غير المجدي أن أسأل أي شخص. هل غضبت نازي مني، أم ماتت، هل عادت إلى ممارسة الحب؟ إذن ماذا حدث لجثة قرينها؟
ذات ليلة سمعت الهر ذاته، حتى الصباح، نفس الصوت في الليلة التالية، لكنه ينقطع في الصباح أيضاً. في الليلة الثالثة، حملت المسدس مرة أخرى وأفرغت الرصاصات دون تصويب نحو رأس شجرة الصنوبر هذه التي تراها أمام نافذتي. كان ضوء عينيه يلمع في الظلام، أطلق آهة عميقة وانقطع صوته. في الصباح، كانت ثلاث قطرات من الدم تتساقط على الشجرة. من تلك الليلة حتى الآن، يأتي كل ليلة ويتأوه بنفس الصوت. وآخرون لا يسمعون فنومهم ثقيل. إنهم يضحكون في وجهي عندما أخبرهم، ولكنني أعلم، أنا متأكد من أنه نفس الهر الذي قتلته. لم أنم منذ تلك الليلة، أينما ذهبت، وحيثما نمت، هذا الهر الظالم يبكي طوال الليل بحنجرته المخيفة ويدعو زوجته.
اليوم، عندما كان المنزل مهجوراً، أتيت إلى المكان الذي يجلس فيه الهر وينتحب كل ليلة، لأنني عرفت من نور عينيه في الظلام مكان جلوسه. صوبت نحوه، سمعت الهر يئن وثلاث قطرات من الدم تقطر منه. لقد رأيتَ ذلك بأم عينيكَ، كنتَ شاهداً على ذلك.
حينها، فتحت رخسارة الباب ودخلت الغرفة مع والدتها. نهضتُ وحييتهما، لكن سياوش قال بابتسامة:
ـــ بالطبع، أنتما تعرفان السيد ميرزا أحمد خان أفضل مني. ليست هناك حاجة لتقديمه. يشهد أنه رأى ثلاث قطرات من الدم بعينه عند سفح شجرة صنوبر. قلت:
ـــ أَيْ نعم، لقد رأيت ذلك.
تقدّم سياوش وضحك بصوت عالٍ وأخرج المسدس من جيبي ووضعه على الطاولة وقال:
ـــ لاشك في أنكما تعلمان بأن السيد ميرزا أحمد خان لا يعزف التار بمهارة فحسب، بل يكتب الشعر الرائع أيضاً، إنه صياد جيد، تسديداته صائبة دائماً.
ثم أشار إلي، فقمت وقلت:
ـــ نعم، لقد أتيت هذا المساء لأخذ كتيب المدرسة من سياوش. صوّبنا على شجرة الصنوبر للتسلية لبعض الوقت، لكن قطرات الدم الثلاث هذه لا تخص الهر، إنما هي للبومة. هل تعلمون أن البومة أكلت ثلاث حبات قمح من ممتلكات اليتيم وأنها تبكي كل ليلة حتى تساقط ثلاث قطرات من الدم من حنجرتها، أو أن قطة اصطادت كناري الجيران فأطلقوا عليها الرصاص، الآن انتظروا أغنية جديدة كتبت كلماتها مؤخراً، غنتها، التقطت التار ودوزنت اللحن: «يا للأسى، حل المساء مرة أخرى/ والكون برمته تحوّل إلى اللون الأسود/ السكينة عمت قلوب الخلق/ أنا وحدي تفاقم حزني وتضاعف ألمي/ ليس إلى السعادة يتوق الناس/ ولا علاج لحزني إلا الموت/ ولكن في تلك الزاوية عند سفح شجرة الصنوبر...»
غادرت والدة رخسارة الغرفة، رفعت رخسارة حاجبيها وقالت:
ـــ هذا مجنون.
ثم أخذت سياوش من يده وضحك كلاهما وخرجا من الباب وأغلقاه بوجهي.
من خلال زجاج النافذة رأيتهما في باحة الدار، تحت الفانوس، يتعانقان ويتبادلان القبلات.