لغة الرثاء عند ألكسندريا أوكتازيو كورتيز (الملقبة بـ AOC) رخيصة وهزيلة، لا تصبو لأن تُقارن بلاغياً بكناية بسيطة مثل «دموع التماسيح». علماً أنّ تشبيه الأنف، بكل ما يرمز من خساسةٍ ونفاق، يُشكل لازمة لمعنى الكسندريا اوكتازيو كورتيز نفسه. معجمها لا يحتاج لأكثر من عينين مغرورقتين وكاميرا، ثم خُذ! خُذ دراما على طول ناظريك، بكمية كافية ووافية يمكنك أن تخزّن منها كمية وافرة تغنيك حتى الشتاء المقبل. نحسِب على كفّة اليد: إنها المرة الرابعة، في أقل من عامين، التي تطل فيها العضو السياسي في الحزب الديمقراطي ألكسندريا أوكتازيو كورتيز على العلن متجهمة ومتقهقرة، تجفف الدموع عن وجهها بأداء اعتادت على تأديته، يليق بصغر سنّها، ما يضفي على أدائها بعداً واقعياً، ويتم تفعيله على الشكل التالي: دغدغة الشعور الباطني لتغليب الرعونة والهشاشة في محاكاة درامية تستهدف براءة المُتفرج، بوضعه في موقف المُتعاطف مع المتوغل في عالم الكبار بغية الانحياز «للإنساني»، الذي تمثله AOC، المُتصادم مع نقيضه «السياسي»، الفظ والفج كقساوة العالم الذي تواجهه يومياً في حياتها المهنيّة. دور تمثيليّ هجين ومقنّع، يعمد إلى شحذ المشاعر بالسلب، في سرقتها خلسة من المتفرج للحصول على الشرعية فشحنها في الفضاء العام و...بانغ! هاك صورة سياسية حديثة مرصعة بالإنسانية (في لبنان نسميهم «اليونغ»).

لعبة سياسية سائدة، لعبٌ حرّ ومفتوح، تعرقله عين راصدٍ عندما يستمع إلى خطابها الناقد للشعبية بينما يراها، في الوقت عينه، تبني سرديتها على قرارات شعبوية بل تستمد دورها من هذا الفضاء الذي تزعم أنها على نقيضه. شيء من الطفيلية يمكنك أن تقول. هذا ما يُسمى بالتموضعات القشورية، أما التعريف بمن حذا هذا الحذو واستقى موقفاً «بالسياسي الإنساني» فيبقيه سياسياً، بكل ما يحمله الأخير من دناءة فيما صفة الإنسانية تزيده خطورة.
يوم الجمعة في الرابع عشر من سبتمبر، ومن داخل الكونغرس الأميركي بدت ألكسندريا أوكتازيو كورتيز حزينة وباكية، بوجوم يأكل الوجه. إلا أن ملامح الوجه لا تدلّ على ندم الفاعل أبداً. حدثت «الفاجعة» بعد تصويتها إيجاباً على قرار مفرط في وحشيته، كانت قد رفضته في ما سبق ـــ ويصب بامتياز لصالح الشعبوية ـــ وهو تعزيز ميزانية الدعم العسكري التي تقدمها الولايات الأميركية المتحدة سنوياً لصالح إسرائيل بقيمة مليار دولار (من ٣ مليارات دولار إلى ٤ مليارات دولار سنوياً). لم تنبس AOC ببنت شفة. ولا حتى بصرخة تأتي مجاناً مع كل من يجهش بالبكاء، بل وضعت رأسها في الأرض، ومارست واجب الغفران: دمعة، دمعتان، قُل «هاي للكاميرا»، «أنا أبكي يا كاميرا صوّريني»...
مرد ذلك لا يعود، على الأرجح، إلى الجريمة التي وافقت عليها، فالضمير هنا نائم ومستكين لا يشعر بالوخز ولا يمكن أن توقظه رائحة الجثث أو القنابل الهيدروجينية، إنما يعود إلى استحالة تسويغ قرارها الجديد الذي أتى مُعاكساً ومفاجئاً لما كان عليه سابقاً، وبالتالي، وقوعها بشرك الفضيحة، ما يعني الشناعة التي أصابت صورتها، وهذا ثمنٌ باهظ جداً. هكذا، تأتي الدمعة كمسحوق تجميل، وكممحاة للإثم، وهذه خدعة عالمية يتقنها أهل السياسة، يجيدونها سبيلاً سهلاً للهروب، للفرار، للنجاة. إذ ليست كل الخطايا سواسية، فبعضها مثل الموافقة على قرار دعم السلاح الذي سيقتل الفلسطينيين لا يغتفر، وعليه، تأتي الدمعة كشيء من التوسل غير اللفظي لتفعيل النسيان عوضاً عن تفعيل الذاكرة، أو محو سريع لما حدث «الآن»، بهدف القبول بالزاني واستقباله كمغفورٍ له، ولو بشكل خجول ومتردد، كعلامة على النقص في الرضى، لكن على استعداد للمسامحة.
أتى تصريح AOC لمجلة «اندبندنت» في ما بعد على شاكلة لغتها في الرثاء، مثلها «كسياسية إنسانية»: هزيلاً ورخيصاً. «ما رأيناه كان مخيباً للأمل في التصميم على القضاء على مجتمعاتنا ووضع حياة الأفراد الآخرين في خطر» قالت. خيبة أمل AOC تُعتبر بالنسبة لنا، نحن المتورطين كضحايا إجرامها، مادة استهزاء كبيرة عليها (من قال تنمر؟) ولحظة مكثفة تختزل الكثير وتقطع  شوطاً بعيد المدى في تاريخ الخطاب السياسي الأميركي في جعلنا نلتمس دجَلهِ. 
في الأسابيع الفائتة في مكان آخر، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل الواقع الافتراضي ـــ وهو ساحة افتراضية تترسخ واقعيته يوماً بعد يوم وتصبح واقعاً بديلاً ـــ بحفل Met Gala الذي استحوذ على العقول، وكانت نجمته كل من Aoc وكيم كارداشيان، أكثر بكثير من حدثٍ حاسم بقي مستمراً لمدة ٢٠ عاماً ملطخاً بالدم أي انسحاب أميركا من أفغانستان وسيطرة طالبان على البلاد. هل هذا يعني أن حدثاً ثقافياً ما (الموضة مثل الذقن والجوارب أشكال ثقافية) هو أعلى شأناً أو أقوى تأثيراً من الحدث السياسي؟ سأوفر عليك اتصالاً بصديق وأجيبك: قطعاً وحتماً نعم! ولو أن الأول يؤسس للثاني أو يُسخّر نفسه خدمة له. وليست الإجابة بالإيجاب على السؤال الفائت مقياساً دقيقاً وخالصاً، بل تسلسل الأحداث القادمة في هذا المقال.
يُقدم اليوتيوبيون الجدد، أحفاد Met Gala وأنصار «الإنسان الحديث» الذين يعتنقون المثالية بعد رسمهم إياها على معايير عالية من الاستهلاك، أنفسهم كأولياء الأرض وأسيادها. لكن سرعان ما تضيق بهم الذاكرة ويتناسون أن هشاشتهم فاقعة ومكشوفة، لأن تناقضهم الداخلي والخارجي، على الصعيد الشخصي أو في السياق العام، هو تناقضات لا تتضافر ولا تخفيها حجة الانسجام مع الذات أو ذريعة الاختلاف مع الآخر. تخيّل: تطالب إحداهنَ بضرائب على الأغنياء وما تلبث أن تصوّت لصالحهم، هل يصدقها عاقل؟ على هذا المنوال، تتفسّخ هذه المثالية وتتشظى لتفتح طريقاً أمام مشاهد عبثية، فوضوية، وفاقدة للتماهي بين قائل الشيء وقوله. يطلق بعض السلميين على هذه الحالة لقب «التلوّث البصري» فيما الجذريون يطلقون لقب «صنّاع الكذب». هذا هو شأن العالم، خصوصاً عقب بزوغ الألفية الثانية، ما يجعل أحدنا يتمسك بفوكو ودعوته الشهيرة لموت الإنسان ـــ والمعني به هو إنسان مدّع للمثالية والذي لا يشلح رداء «الإنسانية». إذ حسب قوله، إنّ «موت الإنسان أقل وطأة من انقراض آخر إنسان»، فنختتم هذه التراجيديا المعاصرة وتحدَّد الوجهة من جديد. فمسار هذه الوجهة مشوّش بالزيغ ومليء بالغطرسة، مختلّ بنيوياً ما يجعل العامل الثقافي ينتصر على العامل السياسي، علماً أن مخلّفات وآثار الأخير أفدح من نظيره، لكنه مجرّد، بينما يوفر «الثقافي» فسحة تعبيرية لحاملهِ، مع حرية مطلقة في استعراض مكنوناته وإعطائه ثقة عمياء بنفسه، ولو جاءت على شاكلة الوهم، ما تساعده على نيل المرتبة الأولى.
الأفكار المناهضة للرأسمالية باتت ترسيخاً للرأسمالية ذاته


لا شك إذاً في أن هنالك اعتلالاً في العلاقة بين الثقافي والسياسي. وهذا الاعتلال يأخذ مجده في العالم الجديد والشجاع، ينزح نحو اللامحدود مستفيداً من المجالات المفتوحة وفقدان المكابح، فليس هنالك من يردعه ولا إشارة حمراء توقفه. تابع أدبيات الشيء وابنِ عليها مقتضاه. لديك في المشهد الأول: بوليس الكرة الأرضية مشغول باله ليلاً نهاراً بسلام العالم وسلامته. لا يترك مناسبة دون إيهامنا بتصاريحه حول ضرورة الحفاظ على شرعة الإنسان والحق في الحياة، وغيرها من الإنشائيات التي تخرج عن طورها أحياناً، فتفتح المجال أمام التدخل العسكري المباشر للإطاحة بالحكومات. ها هو قد خرج خاسراً من البلد الذي قد غزاه لمدّة عشرين عاماً غير آبهٍ بأعوانه الهاربين معه، الملتجئين إليه للحماية، فعمد إلى التخلي عنهم وعن وعده السابق، ليتركهم يطيرون من على متن الطائرة ـــ كعصافير سارحة في السماء. واقعة تشبه تماماً ما ذكره غراهام جرين في روايته الأميركي الهادئ «إننا نخوض نيابة عنكم كل حروبكم، بيد أنكم تخلفون لنا إثمها» لكن الإثم أحياناً لا يُغتفر، فيكون ثمنه موتاً بشعاً.
ولديك المشهد الثاني: ذقن طويلة وكلاشينكوف، لباس فولكلوري غير مألوف، غير نمطي، يُذكّر بموضة الهيبيز، محاربون مستعدّون أن يفجروا أنفسهم في أي لحظة في حال تعرضوا للهجوم أو استُفزّوا، يعشقون الكهوف ـــ والكهف في حالتهم عكس أسطورة أفلاطون حيث إن دلالته أقرب إلى الداروينية في البقاء للأقوى ـــ مع قذائف على أكتافهم يلهون ويلعبون في مدينة الملاهي. مشهد تراجيكوميدي، سريالي للعظم، وما يجعله هكذا هو عدم التكلف أو التصنع، إنما العفوية والقصدية، أي الحقيقة متجلّية في لحظة تاريخية ما. والحقيقة في هذه الحالة تقول إنه انتصار للتقليد على حساب الحداثة ـــ وهي حداثة هامبرغر، معطوبة أصلاً وواهنة ـــ والتشبث بالأصالة عوضاً عن التدجين أو رضوخ التقليدي لصيغة المفعول به. والتقليد بجوهره ينتمي إلى الثقافي عكس التنظيم الذي تفرضه الدولة والتي هي بدورها اجتراح الحداثة وصنعتها. إنها البداءة مقابل المدينة، ولو أنها مدينة غير مكتملة، حيث تعمد إلى الإقصاء والتهجير بدلاً من تقبل التعددية والتفاعل معها، ما ساعد في هزيمتها. 
يغدو المشهد الثاني حقلاً محشوّاً بالرموز؛ من الانعتاق، أو النكوص أو حتى العودة إلى الطفولة في سلوك صاخب أعشى.. إلا أنه يبقى صادقاً وواضحاً يتمظهر معناه جلياً في الشكل التالي: التحرير الذي يقوده الثقافي مقابل التغريب الذي يخوضه السياسي. يغدو المشهد الأول مخادعاً وغير علنيّ، ويقول عكس ما يفعل، حتى إنه لا يتجرأ على إكمال جملته بل تفصح عنها وعن جدوى حدوث الحرب امرأة أفغانية للـ«نيويورك تايمز»: «لم يمنحنا الأميركيون أيّاً من الحقوق. أتوا إلى هنا، حاربوا، قتلوا، ومن ثم ذهبوا». كأن كل تلك الحرب تؤكد صحة مقولة بودريار «حرب العراق لم تقع»، لكن في سياقٍ مختلف ومعاصر، فيما المشار إليه هذه المرة هو بن لادن، المعني الأول بتهديد الكرة الأرضية. «لم يكن هنالك بن لادن» فإذاً، هكذا تصح المقولة البودريارية الجديدة، لم يوجد كأكبر قصة رعب في تاريخ البشرية كما أشاعوا ورهبوا وأعطوا لأنفسهم ذريعة للحرب.
نعود إلى AOC التي هي علّة من علل هذا المقال وجملته الأولى. إن ما يصح خارج أميركا يصح في داخلها أيضاً. يأتي معرض Met Gala  لعام ٢٠٢١ تحت ثيمة «معجم الموضة». كان مقرراً  أن تكون الثيمة «الاستقلال الأميركي» في العام الفائت لكن كورونا منع حدوثه، أو على الأقل هكذا يقولون. ولمن لا يعلم، فالحفل عبارة عن عرض أزياء فخم ونخبوي، يحضره رجال أعمال وسياسة، بالإضافة إلى فنانين ومشاهير ويصل سعر البطاقة الواحدة إلى ٣٥ ألف دولار ويذهب ريعها لدعم المؤسسات الخيرية. يكاد يكون MET GALA في هذا العام خصوصاً، بسبب ثيمته، سيركاً سيميائياً بامتياز، يمزق غشاوة العلاقة بين «السياسي» و«الثقافي» ويوقع AOC مجدداً في الفخ.
بإطلالة خالية من الدموع وبرداء أبيض وضحكة عريضة، تدير ألكسندريا أوكتازيو كورتيز نصف ظهرها نحو الكاميرا. تأخذ صورة تذكارية وتؤدي مهمتها بتبيان ما هو مكتوب على خلفية فستانها: «ضرائب على الأغنياء». الفتاة في قاعة طويلة عريضة، مع مئات المشاركين، وأنت وبدون الاستعانة بآلةٍ حاسبة ما عليك سوى احتساب ثمن ملابس الموجودين فقط، دون عدّ قيمة ساعات اليد والذهب على الأعناق، لتأخذ فكرة بسيطة مفادها أن هناك مليارات من الدولارات متناثرة، بينما هي، في وسطهم، تريد خوض صراع طبقي وإحلال العدالة في معرض نيويورك. بطريقةٍ حمقاء، يظهر «السياسي» مجدداً، مع دعوته الواضحة والمباشرة، لكنها (دعوة) مضللة، مستعينةً بجملة مارشال ماكلوهين الشهيرة «القناة/ الوسيط هي الرسالة»، واضعة إياها كتعريف تحت صورتها على إنستغرام، غافلةً عن مقصد ماكلوهين نفسه. فالأخير  أَولى القناة/ الوسيط اعتباراً أكثر من المضمون ذاته، كونه يؤطر المحتوى ويعطيه شكله، وبالتالي يكوّنه. من هذا المنطلق، يأتي الشعار كفاضح لصاحبته، فالشكل الذي أتى به لا يشبه مغزاه، بل على نقيضه، ما يجعل الرسالة الأصلية المزعوم إيصالها، مبتورة بل فارغة. الاستعراض هو ما يجعلنا نفهم، عن كثب، أسلوب AOC. إذ أن دعوتها لوضع ضرائب على الأغنياء، لا تغدو تمييعاً للقضايا وامتصاصاً لجوهر الاحتجاج وجعل الدعوات المناهضة للرأسمالية خاوية عبر زجها في سياقات مسفّة، أو مثلما قال مارك فيشر «الرأسمالية الواقعية أسرت العامّة بفكرة أن الأفكار المناهضة للرأسمالية لم تعُد تعمل كنافية لها إنما باتت وظيفة هذه الأفكار ترسيخاً للرأسمالية ذاتها». ليس هذا فحسب، بل أيضاً في إعلائها من شأنها الفردي على حساب المقولة، مستغلّة إياها كإشارة على نفسها لتكون بذاتها محطاً للأنظار. 
أما على العكس، في للمقلب الآخر، يجيء «الثقافي» متخفياً. ينسل ببطء، يتسلل إلى اللاوعي ويخاطب رمزياً. بفستان أسود وطويل، منقب ويحجب الملامح، يحتاج إلى مرافقين أو أكثر كي يهتموا بطول القماشة وعرضها، يبدأ بإثارة الجدل والتساؤل حيال هوية الشخص القادم: هل هي ترتل نينجا؟ كلا إنها كيم... هل هي كارداشيان؟ إذا كانت كارداشيان لم لا أراها؟ هل هذه تجربة حقيقية من لوحة ماغريت «هذا ليس غليوناً»؟ لكنها حقاً كيم كارداشيان التي أطلّت، بغرابة، مثل شبحٍ أسود، حتى إن البعض تخوّف من أن يكون حدسه صائباً حيث اعتبروا أن في مظهرها إحالة لطالبان. وهذا صحيح نوعاً ما، لكن ليس المظهر هو الجسر الجامع مع طالبان إنما الظاهرة. 
إنه، مجدداً، الثقافي مقابل السياسي وفي MET GALA يتقابلان نديّاً وجهاً لوجه، في لغتين مختلفتين ولنا أن نقتفي أثر كل منهما. إذا ظهرت AOC للتزييف، فقد جاءت كارداشيان للتصريح. هكذا، تحوّلت كيم كارداشيان، بردائها «الطالباني» الحالك، إلى طوطم رمزي متفجر ينتظر التأويل، فاتحةً المجال لمعاني جمّة مختلفة ومتنوّعة، مشروطة بذاتية كل متلقٍّ على حد سواء، ستخرج جميعها باستنتاجات متشائمة على الأرجح، لكنه الواقع بوجهه الحقيقي. يبدأ الموضوع من اختيارها للون الأسود (عذراً إذا بدوت كخبير في الموضة) ما يحيل إلى تعانق الدال والمدلول، فنحن عندما نقول كيم كارداشيان يأتي المعنى تلقائياً إلى الذهن: مؤخرة كبيرة، والتصوّر في أننا في خضم عصر ثقافي داكن. هكذا، يعلن الثقافي عن نفسه، بطريقته غير المباشرة، فيه جمالية الاستعارة غير الآبهة بالالتفات نحو مقولات معرفية والركض وراء استغلالها. يأتي موقف كارداشيان على الضفة الأخرى من قول فارغاس يوسا في ملاحظاته حول موت الثقافة «التذمر من موت الثقافة هو تذمر من موتك أنت» حيث الثقافي هنا، كما تدل بنفسها إليه، يعلن موت السياسي، في تعرية اللحظة، والراهن، والسياق بأسره، أو بعبارة مختزلة: الواقع، بكل ما يشهده من حرائق ووباء وإسفاف وسمسرات سياسية، والإنسان، وحتى في إثبات وجود للعرق الأسود كتعويض لغض النظر على بطشه من السياسي. إنه إعلان الحداد بطقس جنائزي على حالة العصر، بمواربة حذقة، غير مخادعة إنما صادقة تماماً كحالة النشوة عند طالبان، ولو تطرقت إلى نفسها، أي إلى كارداشيان نفسها ـــ على طريقة نفي الذات ـــ وأعلنت موتها في رفسها لدلالتها: كمؤخرة كبيرة جداً في خضم عصر ثقافي حالك، وجعلت من نفسها كبش فداء في هذه الحالة، فقد سخرت نفسها كوسيلة لتحقق الغاية على عكس ألكسندريا أوكتازيو كورتيز في تسلقها فوق مضمون الرسالة لمنفعتها خاصة.
يُعرّف الجيل الحالي، وهو جيل الألفية الثانية، بآخر حروف الأبجدية. يقال عنه جيل Z (Generation Z والـ Z تعني ياء). وها نحن نشهد وإياه تداعي السياسي واحتضاره، إلا أنه، وهنا تجدر الملاحظة، لا يمكننا الاحتفاء بانتصار ما هو ثقافي ولو كانت مؤثراته ممتعة: كصدقه في الإفصاح في وسط كل هذه العتمة. فالارتكاس نحو الطفولة ومن ثم تقمصها، مع بندقية متاحة للاستعمال كفيلة للقضاء على جنس بشري برمته، فيما كيم كارداشيان، مهما صدحت بدلالات عميقة من كواليس هوليوود، فتبقى كيم كادراشيان. مشهد اليوم هو مشاهد متفرقة، ومتناقضة، متنافرة ومنفرة، لكنها تخلق سياقاً حقيقياً يتطابق بشكل تام مع قول بول نيزان: «بماذا يمكن أن نشبّه عالمنا؟ إن له ملامح العدم الذي كان الإغريق يعيدون إليه أصل الكون، عبارة عن غيوم معدة للتحويل. كنا لا نأمل أكثر من رؤية بدء النهاية، النهاية الحقيقية، وليست تلك النهاية التي هي بدء البدء».