في «مستشفى الرسول الأعظم»، دخلَ قلبُه هدأتَه الأبديّة وغفَت عيناهُ للمرة الأخيرة، في بيروت التي أحبَّها حبّاً خاصّاً، بين أحضانِ الشعبِ المقاوِم الذي طالما كان له محباً ومدافعاً وداعماً. رحلَ عبد المطّلب الكاظمي، وزير النفط الكويتي الأسبق، يوم السبت الماضي عن عمرٍ يناهز 83 عاماً بعد صراعٍ طويل مع المرض العضال. شُيّعَ خلال الأيام الماضية في موطنه الكويت، ثم ووريَ الثرى في مدينة النجف كما كان قد أوصى. لم تفقد الكويت فقط بو هاشم، بل إنّ رحيله خسارةٌ كبيرة لكثيرين في المنطقة والعالم، بالنظر إلى دورِ الكاظمي البارز والكبير على صعيد الوحدة والتقارب والحوار في منطقتنا على وجه الخصوص.
كان الكاظمي شخصيةً وطنيةً بارزةً في الكويت، اعتركَ الحياةَ السياسيةَ بخطواتٍ ثابتة ومبادئ أخلاقية راسخة، فكان خير من تبوّأَ المناصبَ التي خدمَ بلادَه منها، وهو الذي نشأ في أسرةٍ لها باعٌ طويل في العمل الخيريّ ورعاية الفقراء ومساعدة الآخرين. كان أول وزير كويتي يستلم وزارة النفط عام 1975 وكان مدير مكتبه السيد عدنان عبدالصمد آنذاك. كان الكاظمي أول وزير لهذه الوزارة بعد فصلها عن وزارة المالية، حيث لعب دوراً كبيراً في تطوير مصافي البترول وفي اجتماعات منظمة أوبك وكان حضورُه يفرضُ نفسه بين رجالات السياسة. الإنجاز الأكبر كان توقيعه اتفاقيات تأميم النفط، حيث أعاد لوزارة النفط الكويتية سيادتها وشكّل هيكلها الإداري عام 1975، فكانت تلك علامةً فارقة في عطاءات الكاظمي لبلاده، تلك العطاءات التي لم تخلُ من المخاطر والتهديدات لحياته، فلا ننسى حادثة اختطافه مع وزراء نفط منظمة أوبك، ولا ننسى تعرضه للخطر المباشر وهو يقفُ بجانب الملك فيصل لحظة اغتياله، وحوادث أخرى عديدة.
غير أنّ الحديث في هذه المناسبة الحزينة بوفاته، هو عن شخصيته بكافة أبعادها الثقافية والاجتماعية والإنسانية. فقد كان بو هاشم يتمتع بشخصيةٍ اجتماعيةٍ محبوبةٍ نظراً إلى تواضعه وإخلاصه وإيمانه الذي كان يتجلى في سلوكه. جمعَ بو هاشم شمل الكويتيين في لندن خلال فترة الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 وهذا كان خير دليلٍ على وطنيته ورباطة جأشه في مواجهة الاحتلال.
كان بو هاشم إلى جانب ذلك، عضواً فاعلاً في رابطة الصداقة الكويتية – الإيرانية، التي كان يرأسها الدكتور عبدالرحمن العوضي الذي توفي عام 2019 الذي أشرتُ إليه سابقاً في كتابي «جرح وزيتون»، ثم خلفه الوزير الأسبق محمد السنعوسي. كان الكاظمي نائب الرابطة منذ تأسيسها، بعد اعتذاره عن عدم استلام رئاستها بسبب وضعه الصحي، غير أنه كان أول من رحّب بهذه المبادرة الأولى من نوعها بتشكيل أول لجنة صداقة بين البلدين، وقبلَ النيابةَ بسرور. فكان مؤسساً لها إلى جانب ١٥ آخرين من كبار رجال السياسة والثقافة والتجارة، ومن كل مكونات المجتمع الكويتي. كان دوره عظيماً في نشر أهداف ومبادئ الرابطة، وبقي في حياته داعياً مخلصاً للوحدة الوطنية في بلاده ولا يفرق بين مكونات مجتمعه. فكان يستقبل الشخصيات الإيرانية التي زارت الكويت حينذاك، كما كانت له بصمات في إرساء الوحدة الوطنية فلم يكن ليفرق بين مكونات المجتمع الكويتي سواءً من الجانب الطائفي أو القومي أو السياسي.
شارك في الكثير من الأعمال الخيرية، فلقد بنى أبو هاشم مؤخراً مسجداً ضخماً في منطقة جابر الأحمد شمال مدينة الكويت حيث يعد صرحاً دينياً وإسلامياً كبيراً، لتعليم القرآن والدروس الفقهية بإسم «جامع الرسول الأعظم محمد بن عبد الله»، وهو يعتبر من أضخم المساجد في المنطقة. ولقد كان محبّاً لأهل البيت عليهم السلام، يتخلّقُ بخلُقِهم وسجاياهم الحميدة. وليس ذلك كل شيء، فلقد انضوت شخصية الكاظمي على جانبٍ ثقافيٍّ لا يمكن الإغفال عنه. فلقد كان من النخب الثقافية، محبّاً وحافظاً للشعر، لا يخلو حديثه من استشهادٍ بأبياتٍ من الشعر في المحافل الكويتية أو في ديوانيته، حيث يجذب حديثه الصغير والكبير. فكان الشباب والكهول يحبونه لتواضعه وعلمه وثقافته. خلال فترة مهمتي في الكويت التي استمرت أربع سنوات، حيث كنتُ مستشاراً ثقافياً منذ عام 2010 حتى 2015، كانت زيارة أبو هاشم في ديوانيته في سلّم أولوياتي، فكنّا نجتمع بآل الكاظمي والمرحوم زيد الكاظمي شقيق المرحوم الأكبر، حيث كانت هذه اللقاءات تتشكل أسبوعيّاً في منزل أبو هاشم. في الواقع، كانت هذه الديوانية بمثابة الملتقى الثقافي الذي ترتاده الوفود السياسية والعلمية والنخب الثقافية كافةً من سائر الأطياف والطوائف، من الداخل والخارج، للمشاركة والاستئناس بالتلاقي الاجتماعي الودّي والحوار المنفتح والعميق. ديوانية أبو هاشم كانت عبارة عن «فسيفساء» اجتماعية تشكّلُ مرآةً لوحدويته ودوره التقريبي للمذاهب، وحرصه على مبدأ الحوار سبيلًا للتفاهم. يشهد على ذلك تكريمه للمولوي إسحق المدني في الكويت، بصفته مستشار رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لشؤون أهل السنّة وهو من كبار أهل السنّة في إيران. فاستضافه في ديوانيته حيث أقام له حفلاً ومأدبة عشاءٍ وسط جمعٍ من النخب العلمائية وأعضاء من مجلس الأمة الكويتي. ورغم ظروفه الصحية، غير أنه حرص على إقامة هذا اللقاء التقريبي خدمةً لدينه وحرصاً على توحيد صفوف المسلمين لمواجهة المؤامرات الأجنبية. شخصيّاً، لطالما كنتُ حريصاً على زيارته برفقة ضيوف بلدي الوافدين إلى الكويت، فكان يقفُ أمام زائريه تواضعاً واحتراماً، وكان خيرَ مستمعٍ لهموم الأمّة، هو الذي تشهدُ مسيرته على حبّه للإمام الخميني الراحل وقائد الثورة السيد الخامنئي، واحترامه الخاصّ والكبير للثورة وقيمها وخطّ المقاومة. كان يطعّمُ حديثه حين زيارتنا لديوانيته بكثيرٍ من المصطلحات الفارسية معرباً عن حبّه وشغفه بثقافة بلدي وحضارتها. وكان يلفتُنا خلال زياراتنا، احترامُ شباب آل الكاظمي لأبو هاشم وإصغاؤهم لحديثه بشغفٍ وإعجابٍ كبيرَين.
هكذا رحلَ عبد المطلب الكاظمي، تاركاً خلفه سيرةً طيّبةً حافلةً بمحبة الناس وعمل الخير وتطوير البلاد ومقارعة الاحتلال والعبودية، والإخلاص في المهنة حتى الرمق الأخير. والأهم أنه رحل تاركاً أسرةً كريمةً لها باعٌ طويل في العمل الخيري والإنساني. أما نحن الذين كنا بعيدين عن هذا الرجل بالجغرافيا، لكننا عرفنا بوهاشم عن قرب، فعرفناه رجلَ القضية والموقف، المقدام الذي وضعَ الأخلاقَ الحميدة والقيم الإسلامية العليا نصبَ عينيه في كافة حواراته وقراراته وتعييناته ومفاصل السلطة التي كانت بين يديه. وكان حبيبَ الأيتام والفقراء الذين كان يقدّم لهم المساعدات دون منّةٍ بل إحساساً بالواجب الإنساني تجاههم.
عبد المطلب الكاظمي، وداعاً أيها الطيّبُ الخلوق، صاحبَ اليد البيضاء والقلب المحيطيّ!
* المستشار الثقافي الإيراني في لبنان