منذ بداياتها، حاولت «غاليري أليس مغبغب» تخصيص مساحة لجميع الفنانين من مختلف الأجيال والتوجهات الإبداعية والجمالية. لم يكن الغرض افتتاح مجرد صالة عرض بالمعنى التقليدي. كان الهدف تحويل هذه الفكرة إلى مؤسسة ثقافية متكاملة، تنفتح على العالم عبر خطاب إبداعي متجدد، وتكون قادرة على تأسيس مفاهيم فنية معاصرة وجديدة، مهما كانت الالتباسات والمعوقات التي تواجه عادة أي عمل ينحو هذا الاتجاه إذا كان في مناخ ما زال في طور التأسيس على صعيد الثقافة الحديثة وأسئلتها الإشكالية وواقعها المدني. في مشاركاتها ومعارضها، تطرح «أليس مغبغب» نفسها وفق منظور حداثي متطور ومثير للجدل. تتعاطى مع فنانين وتجارب تتسم مشاريعهم بالخصوصية والتفرد، وتقدم أسماء تعيد قراءة الواقع والمحيط من منظور بصري خصب وإشكالي. ها هي اليوم تحتفل بـ 20 سنة من اهتماماتها بالفن التشكيلي عبر تخصيص مساحة من الضوء للمرأة وواقعها. خطاب مباشر ودعوة إلى التمسك بمستقبل تأخذ فيه المرأة المكانة التي تستحق. بين الرسم والنحت والفوتوغرافيا، تتحرك مدارات الأعمال التي تعود إلى فترات زمنية وحساسيات وطموحات مختلفة.

لكنّها تتآلف عبر علاقة عضوية لخلق تأثير حميم عند المتلقّي. معرض «السلام عليك يا مريم» لا تخلو أعماله من سطوة روحية ما، ولا يمكن التخلّص من تأثيره إلا بالامتثال لنوازع عاطفية عدة.
المتتبع لأنشطة «غاليري أليس مغبغب» التي تحمل اسم صاحبتها، يكتشف سريعاً الجهود التي تبذلها في سياق التأسيس لمشاريع وأنشطة هدفها فتح باب الحوار مع الآخر وإعادة تشكيل وعي جديد. برز اسم هذه الصالة في ملتقيات وتجمعات كثيرة، وبدا مشروعها قابلاً للاستمرار والتجذر بفضل الحيوية والقدرة على التواصل مع ما يحدث في العالم من تحولات وتطورات، خصوصاً في مجال الفنون البصرية. المرونة كانت سبيلاً للتميز بين الصالات الأخرى. متعة الاكتشاف والاعتماد على تجارب جديدة تحمل نكهة مختلفة في الفنون المعاصرة، كانا قراراً حكيماً جعل الغاليري نواة لمزاج وأسماء استطاعت الوصول إلى صياغات بصرية لافتة في السوق الفنية.
أكثر من 150 معرضاً بين بيروت وهونغ كونغ ولندن وميامي وأكثر من 20 تظاهرة دولية... مسيرة طويلة أعطت فيها الغاليري الكثير وعملت مع رموز وأسماء ضمن آليات مهنية وتسويقية لم تكن سهلة، حتى أصبح حضورها في المشهد التشكيلي اللبناني واضحاً وملموساً. لم يقتصر دورها على عرض الأعمال فحسب، بل لعبت دوراً في تنظيم فعاليات ثقافية وإبداعية عدة.

معرض «السلام عليك يا مريم»
فرصة للتعرف إلى تجارب أساسية في مسيرة الغاليري

دخلت أيضاً عالم المطبوعات والنشر، فأصدرت سلسلة من المطبوعات والكاتالوغات المهمة. في المنظور العام، تأتي خيارات الغاليري من رسامين ونحاتين وفوتوغرافيين لتؤكد رؤيتها الحداثية للفنون. غالبية التجارب التي تتبناها تتعاطى مع الفن من منظور تحليلي للكثير من القيم والمفاهيم والإشكاليات التي تفرض حضورها في حياتنا الراهنة. وفي استعراض للأسماء التي تنضوي تحت عباءتها، نجد تجارب متفردة استطاعت أن تؤسّس لنفسها نهجاً مستقلاً ولافتاً. مثلاً، لفتت الأنظار أعمال جون غوفدر، وسمير ثابت، وإيما رودجرز، وشارل بيل، وباسكال بيرنيه، وباسكال كورسيل وهدى قساطلي... معرض «السلام عليك يا مريم» فرصة للتعرف إلى تجارب أساسية في مسيرة الغاليري حيث فنانون استطاعوا تأجيج فعل الخيال باعتباره مادة صلبة وثابثة لإعادة قراءة العالم.
اختيرت أسماء تنتمي إلى أجيال زمنية مختلفة. هكذا نرى أعمالاً لبعض الرواد، إلى جانب تجارب مخضرمة وأخرى أحدث سنّاً. الواقع أن تجاور هذه التجارب في لحظة واحدة يمحو الفوارق الزمنية بينها ويفسح المجال لمعاملتها كأعمال منفردة سعى أصحابها إلى خلق بصماتهم الشخصية أكثر من سعيهم إلى صنع هوية عامة. التنوع والاختلاف بين الأجواء وآليات الإنجاز وخامات هذه التجارب لا يعيقان تقاربها في خلق مناخ بصري ينقل المرأة الأم من راهنها المباشر إلى فضاء يعزز بُعدها الرمزي. هذا ما نلاحظه في معظم الأعمال إذ تبدو أقرب إلى تكوين الأيقونة، وقد وُضع الجسد تحت إضاءة خافتة وتمت صيانته وفقاً لطقس ديني، كأننا أمام انتقاد للصورة النمطية التي يحاول المجتمع الاستهلاكي وديكتاتورية صناعة الموضة فرضها على المرأة. تذكرنا أليس مغبغب في تقديمها للمعرض بمقولة جبران خليل جبران: «إن أعذب ما تحدثه شفاه البشرية هو لفظة الأم، وأجمل مناداة هي يا أمي» جبران الذي عشق أمه إلى حد التماهي معها، حمل بداخله بعضاً من الأنوثة التي تجلّت في وهم الحمل الذي سيطر عليه: «أنا المرأة الحامل: ليس لي إلاّ أن أضع بين أيدي الحياة ما أحمله في أحشائي».
الفن والأدب لا يريان النور إلا بعد آلام المخاض، والفنان واهب للحياة، لا نجد أي نزوع لإقحام ما هو خارج عن هذه الثيمة. ثمة سكون مفرط في الأعمال، ومتواليات تتكشف عن حالات المرأة وهي تحضن صغيرها، كأن كل فنان مضى لإنجاز عالم داخلي نفسي مربك وغاص عميقاً في عالم طفولته ليكتشف الفكرة الغائمة للأم.
يلفت انتباهنا أن الصنعة الماهرة لم تستدرج الفنان البلجيكي باسكال كورسيل (1956) إلى لجم أعماله. لا يزال إحساسه بالحياة وافراً ومتّقداً. يشتغل كورسيل على مقاربة تعتمد إلى الدمج بين الفن الكلاسيكي والمعاصر ضمن سيرورة معقدة وسريّة لخلق تجانس طوّره عبر العمل لسنوات على وسائط مختلفة. هذا المزج بين التقنيات والاطلاع على المنحوتات القديمة أمر يتبينه المشاهد في عمله «العذراء وطفلها» الذي يقدمه وفق منظور بصري ورؤيوي يحتفي بالأمومة.
نحن على موعد مع تجارب متنوعة تنتمي لأجيال وحساسيات مختلفة تقوم بوظيفتين: ترجمة جزء من خصوصية أصحابها وإظهار سياق عام لتطور وتراكم تجارب «غاليري أليس مغبغب» التي تحولت في العقدين الأخيرين إلى مساحة فاعلة في الحراك الثقافي.



«السلام عليك يا مريم»: حتى 13 حزيران (يونيو) ـــ «غاليري أليس مغبغب» (الاشرفية ـ ساسين) ــ للاستعلام: 03/210424 ـــ 01/204984