في «يوم باتمان العالمي» (ثالث سبت من شهر أيلول/ سبتمبر)، يأتي البطل المتّشح بالسواد واحداً من أكثر شخصيات «الكوميكس» واقعيةً، وقرباً من الناس. «فارس الظلام»، «المحقق» «ماتشس مالون»... تسميات مختلفة لشخصية «بروس واين» أو «الرجل الوطواط» (باتمان) الأثيرية التي خلقها الكاتبان والرسّامان بوب كاين وبيل فينغر في عام 1939 (ويُقال إنّ الشخصية تعود لسنوات قبل ذلك). إذاً لماذا عاشت شخصية باتمان حتى يومنا هذا، فيما اختفت شخصياتٌ كثيرة، فضلاً عن قربها «الكبير» من الجمهور؟ يمكن تقسيم الحكاية إلى نقاط بسيطة عدة:في البداية، شخصية باتمان «مكسورة». شخصية «بطولية» أفادت من «مأساتها»، وحوّلتها إلى وقودٍ كي تتفوّق على نفسها، وتصبح مثالاً أو رمزاً للدفاع عن المساكين. محلياً، عُرف عن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني نجاحه في تقديم بطلٍ من نوعٍ خاص: أبطال شبيهون بباتمان: أبطالٌ مكسورون، ورغم تلك «الكسور» في أرواحهم، فإنهم يتفوقون وينتصرون على أعدائهم، وإن لم يفعلوا فإنهم على الأقل يحاولون. هذه الشخصية المكسورة جعلت باتمان، قريباً من جمهوره، فهو أيضاً مكسور، كلٌ مكسورٌ على طريقته الخاصة، والكلّ يحلم بالتفوّق على هذا الشرخ داخل روحه. النقطة الثانية هي أنَّ باتمان، بشري من دون أي قوّة خارقة.

ومع هذا، فإنه يقف ندّاً لجميع أبطال عصره. في عوالم الأبطال الخارقين، حيث الجميع يمتلك تقريباً قوةً خارقة للمعتاد (قوة جسدية خارقة، جسد خارق، نفس خارق، نظر خارق، قدرات تخاطر، وسواها من القوى...)، لا يمتلك باتمان أي قوة بخلاف ما تحصّل عليه من التدريبات التي قام ويقوم بها. ما لديه هو استعداده الجسدي والعقلي للمعركة التي سيدخلها. هذا «التدريب/ الاستعداد» جعل كثيرين، في الحياة الواقعية ومن جمهور باتمان، يحلمون بأنّهم قادرون على أن يكونوا «باتمان» يوماً ما. إذاً باتمان قابلٌ للحدوث. النقطة الثالثة أن باتمان عائلي. قد يستغرب كثيرون ممن يعرفون قصص باتمان أو قرؤوا عنه في السابق هذه الصفة. نعم: باتمان يحب العائلة، وهو كائنٌ عائلي. لطالما أحاطت بباتمان شخصيةٌ أشبه بالوالد هي ألفريد بينيورث (سميت الشخصية «عبدالعزيز» ضمن ترجمات «دار المطبوعات المصورة» اللبنانية التي ترجمت قصص باتمان محلياً؛ فيما سمي باتمان بـ «صبحي»، ومدينة غوثام بـ «جرجر»). بينيورث، خادم العائلة، الذي خلف والده في تلك الوظيفة، كان يمتلك سجلاً عسكرياً مشرّفاً، إلا أنّه فضّل رعاية «الطفل» (بروس واين) الذي قُتل أهله أمام عينيه. ظلّ الوالد هذا، جعل باتمان دائماً متوازناً، كونه عرف حناناً موازياً لحنان والديه. لم يكتفِ باتمان بذلك، بل إنه لطالما أضاف أطفالاً إلى عائلته القريبة. هو لطالما احتفظ بـ«روبن» حوله. وروبن لمن لا يعرفه، هو مساعد باتمان، وقد حملت اللقب شخصيات عدة من ديك غرايسون (أول روبن)، إلى جايسون تود، وتيم درايك، وستيفاني بروان، وصولاً إلى داميان واين، ابن باتمان الحقيقي وليس بالتبني من زيجته السريعة بتاليا الغول ابنة أحد أعدائه المعروفين. كانت جميع هذه الشخصيات تحمل تقريباً الملامح نفسها: أطفالٌ عانوا من طفولةٍ قاسية للغاية، ومع هذا فإنه بداخلهم كانت هناك قوة شخصيةٍ وشكيمة جعلتهم يتفوقون على تلك الصعوبات. يُضاف إلى روبن وألفريد شخصياتٌ ثانية مثل «الفتاة الوطواط» (التي حمل اسمها كما شارتها عددٌ كبير من الشخصيات). النقطة الرابعة: المأساة. لا يمكنك أن تقرأ قصص باتمان، أو أن تعرف حياته، ولا تشعر بأنه شبيه بالأبطال القدريّين التراجيديّين في المآسي الإغريقية. إنه محكوم بالمأساة. لا يخرج «فارس الظلام» من مأساةٍ إلا ليغرق في مأساة أشد وعورةٌ وحزناً: من مقتل والديه، إلى مقتل ثاني روبن (جايسون تود في القصة المعروفة «موت في العائلة» على يد الجوكر – عدو باتمان اللدود- الذي كان وراء مأساة أخرى حين تسبب في شلل باربارة جوردن - الفتاة الوطواط - حين أطلق النار على عمودها الفقري)، وصولاً إلى موت داميان واين، وألفريد لاحقاً.
عُرف عن الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني نجاحه في تقديم أبطال شبيهين بباتمان

هنا يثبت باتمان أنه مثل «أخيل» و«عليس» و«هرقل» وحتى «جلجامش». على الرغم من كل ما يملكه، ويستطيعه عبر تدريبه ومهاراته، إلا أنّه عاجز عن مواجهة القدر. مع ذلك، هو لا يحيد، ولا يتوقف. النقطة الخامسة: أن باتمان قانوني وأخلاقيٌ للغاية وهو خيالي ورومانسي وحالم في هذه القضايا. إنه هكذا - وسيظل هكذا - مهما تغيّرت الدنيا، وتغيرت الصراعات. باتمان لا يقتل، لا يستخدم السلاح، ولا يعتبر نفسه قاضياً أو جلاداً. هو يلقي القبض على المجرمين ويسلّمهم للعدالة. يحارب من أجل العدالة، لا الانتقام. يرفض تماماً أن يكون أداة للانتقام، وهذا ما يجعله بطلاً بعيون جميع من يقرأ القصص، وإن كان اللوم على هذه الرومانسية و«شهامة الفرسان» المفقودة في الحياة كما في غالبية قصص الكوميكس. حتى في المشهد الشهير من قصة «ثلاثة جوكر»، يلتقي بقاتل والديه جو تشيل بعد سنوات، فيسأله تشيل إن كان يريد قتله، ليجيب البطل: كلا. هذا المشهد الذي تكرر في قصص كثيرة سابقاً، أصبح أشبه بالثيمة المعهودة من «العفو عند المقدرة» التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من حب الناس لهذه الشخصية. النقطة السادسة أنه متحضّر دائماً. هذه الصفة ربما هي الأكثر تحبّباً لجميع عشاق الكوميكس. إذا ما وضعت باتمان في مواجهة أي شخصية من الكوميكس، من سوبرمان إلى «هالك»، لا يكون السؤال بالنسبة إلى قراء الكوميكس: هل سينجو، بل «هل سيربح»؟. ذلك أن باتمان جاهزٌ دوماً لكل الاحتمالات، ومتحضر للأسوأ دائماً. يكفي أنَّ سلسلة كوميكس نشرت كانت قائمة على شخصيات باتمان أصبحت شريرة في «عوالم موازية». معظم هذه الشخصيات أصبحت كذلك لأنّها «تحضّرت» أكثر من اللازم، أو لأنّها «قاومت شراً بشرٍ مشابه»، فأصبحت أكثر من هذا الشر. تحضير باتمان، وتحضّره للأسوأ يجعله ببساطة لا مجرّد بطلٍ ذكي ومجتهد، بل أيضاً منتظراً للأسوأ. النقطة السابعة أن باتمان لديه أعداء لا يفوقونه قوة وشكيمة ووحشية وجنوناً فحسب، بل إنه لا قانون لديهم، لا ضوابط، وفوق كل هذا يستعملون كل ما لديهم لكسره، ولكنهم لا ينجحون. في قصة «سقوط الفارس» نلاحظ كيف استطاع «باين» (أحد أعداء باتمان) الضغط على البطل حتى اللحظة التي يصبح فيها قابلاً للكسر: ساعتها يهاجمه ويكسر ظهره فعلياً. هذا المشهد -مشهد كسر ظهر باتمان- أصبح علامةً مهمة في تاريخ الكوميكس، لكن باتمان، استطاع بعد عامٍ كامل (من تاريخ الكوميكس بالطبع) من العودة. الأمر نفسه انسحب حين قتله «دارك سايد» (أحد ممثلي الشر الأهم في عالم دي سي للكوميكس) بأن شتت روحه عبر العصور والأزمنة. مع ذلك، فإن إصراره وقوته النفسية والروحية أعادته إلى عصره.


كل هذا يؤكد أنه مهما زادت الصعوبات، استطاع هذا الفارس الصمود والعودة. النقطة الثامنة أنه «حساسٌ» وحنون، وهو أمرٌ قلّما يظهر لديه في الخارج. ففي مسلسل «باتمان المستقبل» وتحديداً في حلقة Epiloge، نرى باتمان يجلس بجوار «ايس»، وهي طفلة تمتلك قدرات خارقة تعرف بأنها «ستموت»، فيجلس باتمان بجوارها في لحظاتها الأخيرة، مودعاً إياها ومخفّفاً عنها. كذلك الأمر حين يعرف بأن روبن الأول قد مات، فنراه مكسوراً، أو حين يحاول عكس موت ابنه «داميان»، فنراه أباً حقيقاً لا يريد تكرار تجربة «جايسون تود» (روبن الذي قتل). نجده أيضاً في علاقته مع «المرأة الهرة» (كات وومن) التي يفهم أنها «ليست مجرمة» رغم أنها تقوم بسلوك إجرامي. النقطة الأخيرة: أنّ باتمان هو الأصل، وليس بروس واين. وهذه النقطة هي واحدة من أكثر النقاط التي يحبها عشاق هذه الشخصية ويعتبرونها الأهم بالنسبة إليهم. إن باتمان ليست الشخصية الثانية، فيما «بروس واين» هو الأصل. باتمان هو الأصل، فيما بروس واين الشخصية الثانية. نجد تأكيداً على هذا أيضاً من مسلسل «باتمان المستقبل» حين يتعرض باتمان لهجوم عقلي من أحد الأشرار الذي يوحي له بأنه «قد جنّ». باتمان يتغلّب على هذا الشرير لأنه «كنت أعرف بأن هناك شيئاً ليس على ما يرام، فالصوت في داخلي كان يناديني بروس، وهو ليس الاسم الذي أنادي نفسي به». الأمر نفسه أيضاً حين زار باتمان، النار المقدّسة. نار «تحرق» أي «كاذبٍ» أو أي شخص «يضع قناعاً» أمامها. باتمان لم يخلع قناعه فاستغرب الحضور، ليُشير حارس النار: هذا وجهه الحقيقي. أيضاً، حين يمسك باتمان، وسوبرمان، والمرأة المدهشة، بحبل المرأة المدهشة الذي يجبر من يمسكه على قول الحقيقة: ينطق كل واحدٍ بإسم شخصيته الحقيقية، لينطق باتمان: أنا باتمان.
لهذه الأسباب مجتمعة، يحب الناس وسيحبّون باتمان إلى الأبد. ربما لا لشيء حتى من هذه الأسباب مجتمعة، بل لسببٍ بسيط واحد لم يذكر: أنه باتمان.