لم تكن الفتاة رخشندة اعتصامي (1907 ــــ 1941) الابنة الوحيدةَ فقط لأهلها وسط إخوتها الذكور الأربعة، فإنّ نشأتها وظروف حياتها في اللحظة التي قُدّرَ لموهبتها أن تولد، تُعلِمُنا بأنّها كانت امرأةً نموذجيّةً في زمانِها، ومظهراً من مظاهر التقدّم الفكري، وسط حقبةٍ من الظلاميّة والجهل السائدين. في قصيدةٍ لها خطّت على قبرها، تقول:
عينُ الحقيقةِ فلترَ الدنيا بها/ هذي الحياةُ انظر إليها واعتبِر
لا فرقَ مَن كنتَ وما قد صرتَهُ/ منتهى الرحلةِ في هذا الممرّ
المرءُ فيها لو تباهى قوةً/ بلغَ النهايةَ ثمَّ مسكيناً عبَر
حينما يغدو مصيرُكَ واقعاً/ أيُّ الدروبِ تحميكَ من هذا القدَر

ولدت هذه الشاعرة التي اختارت لنفسها لقباً شعريّاً هو «پروین» أو بروين، في مدينة تبريز الإيرانية، عام 1907، حين كانت الثورة الدستورية في ذروتها، وكانت النهضة ضدّ الانحطاط الذي خلّفته المرحلة القاجارية في قمّة صعودِها. نشأت بروين في هذه الأجواء الحماسيّة الداعية إلى نهضة الفكر وإصلاح حال الإنسان والمرأة تحديداً بعد حقبةٍ طالت من أسر المرأة في بيتها ومنعها من التعلّم والتقدم وكافة أنواع الجاهلية. تربّت في بيتٍ مثقف كان يشهد لقاءاتٍ واجتماعاتٍ فكرية وشعرية، في كنفِ أبيها يوسف اعتصامي آشتياني (اعتصام الملك) الكاتب والمترجم الشهير في أواخر المرحلة القاجارية، وكانت له مجلة ثقافية شهرية تصدر باستمرار في تلك الحقبة. أمها، أختر فتوحي، كانت ابنة شاعر بارز من شعراء العهد القاجاري كذلك (ميرزا عبدالحسين مقدم العدالة).
تلقت بروين دروسها في المنزل على يد أبيها وكبار الشعراء وأساتذة اللغة الفارسية والعربية. لكنها أكملت مراحل دراساتها الثانوية في المدرسة الأميركية في طهران، حيث بدأت بمزاولة التعليم. تزوجت بروين، لكن الحياة شاءت لها أن تكملَ مسيرتها الأدبية وعمرها القصير وحيدةً. لقد كان ابن عمّ أبيها الذي كان يعمل في السلك العسكري بعيداً كل البعد عن شاعرية بروين وخيالها وإحساسها المرهف، ولم يستمرّ هذا الزواج سوى شهرين ونيّف، بعدما عانت الكثير – وفق مقولة أخيها- من إدمان زوجها على الكحول والمواد المخدرة ومزاجه الصعب.
بعد انفصالها عن زوجها، عملت بروين أمينةً على المكتبة الوطنية، وألّفت أكثر من 2500 بيت من الشعر، ثمّ توفيت على أثر إصابتها بمرض الحصبة، عن عمرٍ يناهزُ 35 عاماً.
عَبرةٌ من طَرفِ هُدبٍ سقطَت/ دحرجتها العينُ ولهَى فهَوَت
نفخت في ظلمةِ العرشِ كما/ نجمةٌ تنثرُ ضوءاً، وهَوَت
قلبُها البحرُ وما إن ظمأَت/ رشفَت قطرةَ دمٍّ وهوَت
لم تكن حياة بروين القصيرة زاخرةً بالأدب والشعر والروح الأصيلة فحسب، وإنما كانت حاملةَ قضيةٍ حتى آخر لحظات حياتها، فلقد كانت رافضةً لاستبدال الجهل القاجاري بالانحطاط والعبودية البهلوية للغرب، وحين طلبَ إليها الملك رضا شاه أن تبدأ بتعليم زوجته الملكة، رفضت ذلك، وعندما منحها وسام الرتبة العلمية الثالثة، رفضت الجائزة والوسام واعتبرته إهانةً في حقّها. وعند وفاتها، رفضت حكومة رضا شاه أن تقيم مراسم عزاءٍ لأبرز شاعرةٍ في البلاد، حتى تمّ دفنها في مقام السيدة المعصومة في مدينة قم.
تقولُ في إحدى قصائدها في العرفان:
يا صديقي أنتَ من أهل القلوب/ أنتَ روحٌ فذَرِ الجسمَ لتعلو
إنّ عيني لا ترى من قيمةٍ/ لترابٍ يزدريهِ الثوبُ يهفو
روّضِ الجسمَ لترقى الروحُ فيك/ هذّبِ الإيمانَ في قلبكَ يسمو.
يتميز شعر بروين بمحاكاته لقضايا الإنسان والأخلاق والعلم، وليس الغزل، وذلك يعكس تأثرها بالشاعر ناصر خسىرو. كما عرفت بأشعارها التي تحكي قصصاً، فبرز هنا تأثرها بسعدي الشيرازي. وقد كانت مبتكرةً ومبدعةً في صياغة الشعر الكلاسيكي القديم، فأحدثت عليه تغييراتٍ أنزلته من عرش الكليات والماورائيات إلى كفّي المجتمع، رغم أنها حافظت على رهافة هذا الشعر وأصالته وموسيقاه، فتميزت قصائدها بنمط المناظرات (ما بين الخير والشر، الحق والباطل، الجسد والروح..) التي تعرضها بروين من خلال استخدام التمثيلات (العاقل والسكران، الأفعى والنحلة، الهرة والأسد، الجوهر والحجر وغيرها..).
تقول:
قالت البجعةُ للسمكةِ البعيدة
ماذا تريدين من هذا البحر المالح
ضعفكِ وهشاشتك من عذاب السباحة
هذا ليس طريق حياة بل طريق فناء
عجبي! إلى متى تائهةٌ أنتِ
ليل نهار في هذه المياه الآسنة
حان الوقت لتتدبري في أمرك
وتشیدي قصر عمرك
نحن حصّنا عالمنا من الفتن
وأضأنا آلاف الشموع
فلا نخاف صنارة الصياد أبداً
ليس هنا طوفانٌ ولا سيلٌ ولا ريح
إذا جئتِ إلى جوارنا هنا
ستدركين كم كنت بعيدة عن عالم الفكر
إن قضيتِ معنا نصف يوم
ستغرقين في بحر إحساننا.
تناولت بروين في شعرها قضايا الأيتام والفقراء، الحرية والعمل، العدالة والطبقية الاجتماعية، وقضايا المرأة بشكلٍ أساس.
يقول الشاعر والباحث في الأدب الفارسي الدكتور سعيد نفيسي، إنّ بروين كان لها وجهٌ هادئُ الملامح يزيّنه الحياءُ ونظرتها الشهيرة إلى أسفل دائماً عند الحديث، ومنطقٌ وقورٌ وفصيح، حتى أنها لم تكن لتبديَ أيّ عُجبٍ وفخرٍ بذاتها حين يمتدحونها، بل كانت لا تسعى للظهور والشهرة أبداً.
يعدُّ نمطُ شعر بروين اعتصامي كلاسيكيّاً معاصراً، إذ يبدو أنّ الشاعرة قد وضعت الحجرَ الأساس لبناء القصيدة الحديثة بشكلها الجديد وحبكتها الحديثة، لدى رواد الشعر الحديث وقصيدة النثر لاحقاً. فهي بذلك تكون قد أحدثت ثورةً على الشكل القديم للقصيدة الكلاسيكية، فأضفت عليها عناصرَ جعلتها أقربَ للإنسان في مجتمعها وفي لحظتها الزمنية، رغم شهرتها بكونها الشاعرة الملتزمة التقليدية التي يحضر في قصائدها الإرث الإسلامي والأخلاقيات والقيم بقوة، حتى راح بعضهم إلى القول بأنها اكتفت بالروح القديم للشعر ولم تتجرأ أن تفصح عن مكنونات المرأة كما فعلت فروغ فرخزاد، غير أن المقارنة، وفق ما يرى النقاد، منتفية. ذلك أن اعتصامي تنتمي إلى حقبةٍ تعدّ ظلاميةً على مستوى حالة المرأة الاجتماعية وحضورها في الساحات الثقافية والفنية. اليوم، لا يُنظَرُ إلى بروين اعتصامي على أنها شاعرة زمانها الأولى، وإنما يجمع النقاد على أنّها حقّقت في قصائدها، ما لم يستطع الكثير من الشعراء الذكور تحقيقه، سواءً لجهة محتوى القصيدة وقضاياها أم من جهة الجمالية والتركيب الشعري والحبكة والسياق. غير أنّ ما يقدّرُ لبروين، أنّها طلعت وتألقت في برهةٍ كانت المرأةُ فيها لا تزالُ مقموعةً وممنوعةً عن ممارسة مواهبها وإبداعاتها، والبوح بأحاسيسها على شكلِ نصٍّ وقصيدة.
تقول بروين:
القلبُ الطاهرُ مرآةُ وجه الله
هي مرآةٌ لا تصدأ
الجسدُ الذي امتطى حصان الهوى عمراً
لم يدرك يوماً أنه کان بلا سرج
(الأبيات المختارة ترجمة مريم ميرزاده)