كان اللقاء أمام بوابة «الجامعة الأميركية في بيروت». ثلاثون مشاهداً لعرض مبتكر وخاص لموقع site specific performance. للوصول إلى الجهة المحدّدة، توجب على المشاهدين الثلاثين ركوب الباص. ربع ساعة كانت كافية للوصول تخللها بعض الإرشادات من قبل فتاة ترتدي قميصاً أسود طلبت منّا عدم التصوير بسبب إشكال حصل في العرض الأول بين المشاهدين وأهل المنطقة.
لدى الوصول إلى الموقع، تتجاور على الحائط صور لشهداء ورسمٌ دائري كبير لعلبة «بيكون» بالقرب من بوابة حديدية صغيرة، وبعض الرفوف الخشبية الخاصة بفرن الكعك. على الجهة الأخرى من الحي، وُجدت عربة الكعك فارغة. هنا، بدأت جولتنا في الخندق الغميق الذي تحوّل موقعاً لعرض «أنت وراجع لورا... انتبه» من إنتاج كلية الفنون الجميلة وتاريخ الفن في «الجامعة الأميركية في بيروت» من إخراج الممثلة وأستاذة المسرح سحر عساف يعاونها روبرت مايرز في كتابة النص وعدد من الممثلين تنوعوا بين طلاب جامعيين ومحترفين.
مرشدان سياحيان (رافي فغالي وساني عبد الباقي) يتقاسمان المشاهدين، ويذهبان في اتجاهين معاكسين. لكل مجموعة شارتها الخاصة (جزء من العلم اللبناني). اذاً، أصبحنا كمشاهدين جاهزين للغوص في الخندق الغميق: اقتسمنا العلم ودخلنا.
في لحظة اقتسام العلم، أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من لعبة هذا العرض. يحيلنا المرشد السياحي الى أبنية ذات قيمة تراثية وهندسية متنوعة. توقفنا عند أكثر من مبنى في هذا الحي الضيق. قليلة هي المباني التي تشبه بعضها. يكثر كلام المرشد ويسرد تاريخاً لكل مبنى. سرعان ما يكتشف المشاهد أنّ مرشده يتخيّل التاريخ، يركبّه على هواه، ويساوره الشك في ما إذا كانت المعلومات ــ أقلّها الهندسية ــ حقيقية أم لا. لا يكتفي المرشد باختراع الماضي وتركيب تاريخ لم يكن، بل ينكر وقع اللحظة الآنية، ينفي وجودها من الأساس، ويسعى دائماً الى تجميلها. وحده المرشد يرى سقفاً لكنيسة السريان الكاثوليك التي تم بناؤها عام ١٨٧٨ ويرى مقاعد أمام المذبح بينما لم يبق من تلك الكنيسة سوى حائطين.


تبقى الحرب طيفاً حاضراً في
العرض وجزءاً من مشهدية متقنة

يتقن المرشد صنعة «التركيب». في كل لحظة، يرتجل أموراً لن يصدقها المشاهد ولا يترك له فرصة العودة الى الوراء والاسترسال في مشهدية الماضي. هنا ينتفي العرض لصالح اللحظة الآنية أي الجولة: لن يتمكن المشاهد من متابعة مشهد العرس الذي تحول مأتماً في الكنيسة، وهرب سريعاً من مشهد الميليشياويين في إحدى غرف ما سماها المرشد «مبنى غاودي»، وانشغل عن المرأة المصدومة ببلاط الشرفة وأحد الأعمدة الأثرية في غرفة في مبنى آخر.
في كل مرة، يترك المشاهد مشهداً أو حقبة ويتقدم نحو موقع آخر، يفوته خلاف بين طرفين لا يتأتى منه إلا الصراخ. تغيب كل الخلافات الحاصلة في «العرض- جولة» عن عين المشاهد، والمرشد يستعجل دوماً، عليه المضي إلى الأمام. مع ذلك، تبقى الحرب طيفاً حاضراً في ثنايا العرض وزواياه. أصبحت جزءاً من مشهدية كثيرة الإتقان ولا يسمح بالكلام في الموضوع. الالتباس الذي يفتعله المرشد والتسطيح المقصود لبعض معالم المكان، يحيلاننا دائماً الى عدم التصديق والسخرية. وحده المشهد الراقص المصحوب بعزف حي لآلة التشيلو بدا مختلفاً: كما لو أن هذا المشهد يمثّل لحظة الحقيقة الوحيدة في العرض برمزيته العارمة.
امرأة بفستان أحمر تعنَّف من قبل شاب لكنها ليست بخانعة. تجابهه حتى يصبح العنف متبادلاً بين كل منهما على حدّ سواء. يُحاصر المشاهد بلعبة الكر والفر بينهما، فيصبح خط تماس فاصلاً. لوهلة، يشعر المشاهد بالدهشة والاختناق. إنّها المرأة المدينة. إنّها بيروت النازفة المعنّفة من قبل رجل الحرب الأهلية أو حتى انسان اللحظة الآنية، والجمهور فاصل بينهما. لم يكن محض مصادفة وضع الجمهور في هذا الموقف. لقد أريد لنا أن نكون جزءاً من لحظة التراجيديا الأقسى. هي أيضاً لحظة «التحسيس» القصوى في العرض. الجمهور يصبح «الآن» الفاصل بين الحرب الأهلية والمدينة، لكن هذا الفصل يبدو عاجزاً. يزيد من عجز الجمهور تدخّل المرشد السياحي مجدداً لاستكمال الجولة واستمرار حفلة تحريف معالم المكان والتكاذب.
لدى خروجنا من مكان المشهد الراقص، يلتفت المرشد الى شجرة زيتون مربوطة بجنزير ويطلق خرافة جديدة، فيحار المشاهد مجدداً: إنّها اللعبة المفضّلة والمبالغ في اعتمادها منذ بداية العرض. لعبة التحريف، تحريف التاريخ، تحريف الوقائع المعمارية. السخرية الناتجة من هذا التحريف ولعبة الإنكار الدائم. هذا الإنكار المفرط والمقصود لآثار الحرب الأهلية وتردداتها على الأفراد. هذا الغياب عن كل الخلافات الحاصلة. هذا «الجهل» و«التجاهل» الجماعيان لتاريخ المكان. قد يحتاج كل ذلك إلى بعض لحظات «الحقيقة» و«الإدراك».
لقد أجادت المخرجة استثمار عناصر المكان وبنت مشهدية رائعة، وأفسحت مجالاً لتدخّل سكان الحي في العرض، ما أضفى جماليةً نادرة وفائقة العفوية. هذا العمل المتقن في ابراز وتطويع جمالية الفضاء، قد يحتاج الى مزيد من البحث حول المكان والتطوير في دراماتورجيا النص: قد لا تحتاج المدينة الى هذا الكم من الإنكار. السخرية هي فعل حماية للذات. يحتاج العرض لسرد بعض الوقائع الحقيقية والقليل من الانفعال والإدراك الإيجابي. لربما حان الوقت لإنصاف المدينة.