ليست مفارقةً أن تتماشى نصوص أحد عمالقة الأدب الواقعي الروسي نيقولاي غوغول (1809 – 1852)، مع وقتنا الراهن. أعطى غوغول في مسرحية «المفتش العام» (1840)، صورة بانورامية لواقع روسيا القيصرية، التي كانت غارقةً في الظلم، والجهل والفاقة. صوّر الإنسان المسحوق، وفساد هرم الموظفين، والحكّام. هذا النص المسرحي، أعادت خرّيجة قسم المسرح في الجامعة اللبنانية، ماريان صلماني، توليفه وإعداده، في عرض مسرحي بعنوان «ثماني شخصيات تمثّل المفتش العام»، يُعرض على «مسرح دوار الشمس» في بيروت، يومي الجمعة والسبت الحاليّين.
خلال البروفات

غوغول، الذي يُعدّ من أبرز روّاد «المدرسة الطبيعية»، نادى بضرورة طرح أفكار ثورية، وتصوير البسطاء، وإعطاء الأدب مسحةً ديمقراطية في عصره. جهوده تلاقت بعد عقود من الزمن، مع دعوات رواد المسرح في العالم العربي. «عايزين مسرح فيه ريحة الطّعمية والملوخية، مش مسرح هوت دوغ». قالها المسرحي المصري نجيب الريحاني. تستند ماريان صلماني، إلى هذه المراجع عبر التاريخ، التي نادت بضرورة نزول المسرح والأدب إلى الشارع. عملت على بلورة النص، وإضفاء صبغة شعبية لإعادة تكييفه مع الواقع المعاش. يندرج العرض المسرحي «ثماني شخصيات تمثل المفتش العام» تحت إطار المسرح الشعبي الذي يتماشى مع كل الفئات المجتمعية. «الشعبية لا تعني الابتذال» تقول ماريان، التي تتمسك بالأسس الأكاديمية والمهنية في العمل.
المسرحية تعكس حقيقة ما يعيشه الجمهور، في قالب كوميدي ساخر، بعيد عن النزعة الخطابية في المسرح. الهدف وراء ذلك، هو التأثير على المتلقّين، لإحداث تغيير ما. «كأنّنا نضحك على واقعنا»، يقول الممثل المسرحي أحمد خطاب، أحد المشاركين في العرض. «ننتقد النظام البيروقراطي والفاسد، ونذهب إلى نقد أنفسنا الغارقة في الفساد أيضاً، حيث هناك تزامن منطقي بين النص الأصلي، وما نعيشه اليوم».
كوميديا خفيفة، لكن عميقة تندرج ضمن تقنية «المسرح داخل المسرح»


تبدأ مسرحية غوغول بتجسيد الخوف والقلق من وصول المفتش العام إلى المدينة الغارقة في الفساد. هذه الحبكة، تم تأويلها في عرض «ثماني شخصيات تمثل المفتش العام»، حيث يسعى ثمانية ممثلين، إلى تقديم نصّ غوغول، فتتمظهر أشكال الفساد، والرشوة، التي تطبع شبكة علاقاتهم، وتجعلها مهترئة إلى أقصى الحدود. إنها لعبة «المسرح داخل المسرح» الإخراجية. كوميديا خفيفة، لكن عميقة، سعت إلى تقديمها ماريان بلغة محكية، وشخصيات مسرحية قريبة من الواقع. يتماهى المتفرج معها، حتى يحسب أنه يرى نفسه على المسرح.
سينوغرافياً، حوّل القيّمون على المسرحية، فقر الإنتاج وعدم قدرتهم على التمويل، إلى طريقة تهكّمية في تجسيد السينوغرافيا. «لا قدرة لدينا على صناعتها»، تقول مخرجة العمل. على الخشبة، يُستبدل الأثاث، بين الحين والآخر، لكنه ليس قطعاً حقيقية مصنوعة من القماش أو الكرتون، بل إنّ الأثاث هو شكل لوحات مرسومة بطريقة رديئة، تتغير مع «زمكان» سير الأحداث. تؤكد مخرجة العرض أنَّ غياب الإنتاج ترافق مع تحديات صعبة، فالعمل في المسرح لم يعد يقتصر على التفرّغ للإبداع. فالوقت الذي يُهدر لتأمين المازوت للمسرح، والمواصلات، يأتي على حساب التفرغ لأمور أخرى.
على صعيد آخر، لم تقتصر وظيفة المشاركين في العرض، على تطبيق الرؤية الإخراجية، والإكتفاء بما يمليه النص. «لقد كان عملاً جماعياً، تفاعلياً». يقول أحمد خطاب، «كلٌّ شارك في العرض المسرحي على طريقته الخاصة». الممثلون خطاب، حمزة عبد الساتر، فاطمة بزي، حمزة يزبك، حسين محسن، فكتور حجار، لؤي غشام، وملاك بزّي. يأتي هؤلاء كل يوم من البقاع والشوف، وغيرهما من المناطق البعيدة، لحضور البروفات التي تُقام في صالون أحد بيوت المشاركين في العمل.
أين الفضاءات المسرحية؟ على مدى عقود، والعاملون في مجال المسرح يسألون عن غياب المساحات والفضاءات التي تمنكّهم من خلق إبداعاتهم المسرحية، والقيام بالتدريبات والتمارين على العروض، والورش المسرحية. على مدى عقود، لم تنجح وزارة أو نقابة، في إنشاء فضاء مسرحي حرّ. لا في المدن ولا الأرياف. حصيلة هذا الفساد، هو ما يعيشه اليوم المشاركون في مسرحية «ثماني شخصيات تمثل المفتش العام».
«ثماني شخصيات ومخرجة، تبحث عن مساحة مسرح في هذا الخراب»، يكتب رئيس قسم المسرح في الفرع الأول لمعهد الفنون في الجامعة اللبنانية وليد دكروب على صفحته على فايسبوك، تعليقاً على ما يعيشه الخريجون والطلاب. يحلم العاملون في «ثماني شخصيات تمثل المفتش العام»، أن يتمكن الجمهور من ملاقاتهم والوصول إلى صالة المسرح، ومشاركتهم الأسئلة التي تحتم مصيراً مشتركاً. حتى اليوم، عرضان لا أكثر. «قد نقدم العرض في وقت لاحق على خشبة «مسرح المدينة»، وقد يكون هذا العرض الأخير لنا»، تختم ماريان حديثها، حول عرض مسرحي، تلتقي مفرداته مع بيروقراطية السلطة، والنفوس الميتة، واللصوص، التي تحدّث عنها غوغول عام 1840.

«ثماني شخصيات تمثّل المفتش العام»: غداً وبعده ــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/381290