علمتُ بوفاة صديقي المبدع المؤرخ وأستاذ الملاحم والثقافة الشفاهية عبد الرحمن أيوب، عن طريق صديق مشترك، اتصل بي من ليبيا، وكان صوته متوتراً. قال: «لديّ أخبار سيّئة! توفّي صاحبك اليوم، وعرفنا هذا عن طريق الفايسبوك! يوم 12 أغسطس 2021».صُدمت بالخبر، وقلت لصديقي: «لا أستطيع الحديث الآن». وأعترف بأنني لم أستطع تأبين صاحبي طوال هذه الفترة، لكنّني قرّرت أن أكتب هذا النص حتى أخفّف حدادي عليه، وأعرّف الآخرين في تونس الحبيبة والعالم العربي عن هذا الباحث والعالم والإنسان الفذّ الذي هُمّش كثيراً في بعض الأحيان، لكنّه كان مليئاً بالحيويّة والحياة والأمل، ولم ينكسر في مجاهل المرارة واليأس والبحث عن خصوم.
سي عبد الرحمن كان أكثر من صديق، هو أخ، كأنني ولدت من نفس الأم، بالنسبة لي هو أخ أكبر، وعبقري لم تعرف قيمته لا تونس ولا البلاد العربية!
لكنّه برغم ثقافته العالية، ومعرفته بلغات عالمية عديدة، لم يكن نخبوياً أو فرنكوفونياً، بل شعبياً منهمكاً في جذور ومشاعر الثقافة الشعبية، وبالذات في دراساته وفهمه لأهم ملحمة في منطقة البلاد المغاربية «الملحمة الهلالية»، وكيفية انتشارها، وتجدّدها الشعبي من جيل إلى آخر.
ولكن لم يكن شوفينياً متعصّباً في منهجه وافتراضاته، بل ظلّ عربياً إسلامياً وإنسانياً من غير أن يلبس جبّة الإسلام والعروبة، وأن يدّعي الأصالة، أو يطلق لحيته، وهذا سرّ عبقريته ونبوغه.
كان باختصار مفكّراً عضوياً بالمفهوم الغرامشي وبعمق وإبداع في فهم التاريخ الشفاهي والثقافة اللامادّية وحيويتها وتجدّدها في البلاد الشمال أفريقية والمغاربية.
أصل عائلة سي عبد الرحمن أيوب من جزيرة قرقنة، ولهذا أحب دائماً أن أقول له: يا «قرقني»، وتعلّم في مدينة صفاقس في الجنوب التونسي، ولكنه درس في ثانوية تجريبية تدرّس باللغة العربية، ولهذا قال لي في أحد أحاديثنا الطويلة إنه لم يدرس الفرنسية حتى انتسابه للجامعة التونسية، وكان تحدياً كبيراً له.
درس اللّغويات والأدب وعلم الاجتماع في فترة خصبة وثرية في تونس والعالم بشكلٍ عام.
وبعدها، أرسل كما هو الحال في البلاد المغاربية بحكم التأثير الاستعماري الفرنكفوني إلى فرنسا للدراسة العليا.
نبغ سي عبد الرحمن وتخصّص في دراسة موضوع الملاحم، وبعدها تزوج من سيدة فرنسية، وأصبح أستاذاً في إحدى جامعات السوربون.
هذا الجنوبي التونسي ظلّ منفتحاً على الثقافات الأخرى، لكنه لم يتخلّ عن جذوره العربية الإسلامية، لكن بشكل أعمق وأشمل، وليس معنى الإسلام السياسي الذي كان لا يميل إليه ولا يراه مقنعاً.
وبالرغم من اطّلاعه العميق على الثقافة والإنتروبولوجيا الفرنسية وتكلمه باللغة الإنكليزية والعلوم الاجتماعية والإنسانية الأنغلو أميركية، ظلّ حتى وفاته معتزاً بعربيته وإسلامه، ولم يكن فرنكوفونياً، التيار المهيمن في تونس منذ قرن ونصف.
ولأنه لم يكن يرغب في الخلاص الفردي والشخصي، قرّر مغادرة فرنسا، لكن النظام التونسي آنذاك لم يكن يروق له، ولهذا قرّر التدريس في بلد عربي آخر، وهذا متسق مع فكره ووجدانه العربي، وبالذات اختار الجامعة الليبية لأسباب عديدة، للقرب الثقافي والاجتماعي بين الشعبين، وبالذات الجنوب التونسي.
قال لي يوماً: «لم أشعر بالغربة في طرابلس وليبيا على الإطلاق». ولهذا قضى أربع سنوات في جامعة طرابلس، ومعه ابنته الصغيرة كلير وزوجته الفرنسية.
هناك درس السيرة الهلالية، وساعد «مركز دراسات جهاد الليبيين» على تجميع وفهم التراث الشفاهي للسيرة الهلالية.
بعد تجربته الثرية في ليبيا، درس صاحبي القرقني في جامعة الأردن لفترة مشابهة.
ولأنه كان يجيد العربية والفرنسية والإنكليزية، بدأ في نشر بحوثه الأصلية والمبدعة عن السيرة الهلالية التي كانت كل اهتمام الجامعات الأميركية.
ولهذا، ليس غريباً أن يدعى كأستاذ زائر في جامعات مرموقة مثل: لوس أنجلوس، وبيتركللي، وأخيراً جامعة واشنطن في سياتل.
قابلت د. عبد الرحمن أيوب في نهاية الثمانينيات في مدينة سياتل، حيث كان أستاذاً زائراً مع زوجته المبدعة أيضاً، وجميلة الاسم والشخصية، جميلة الأستاذة المعروفة والفنانة التشكيلية في تونس.
قبل أن ألتقي به وبالسيدة جميلة، كنت قد قرأتُ ما كتبه عن السيرة الهلالية، وتعرّفت إلى منهجه ودراساته العلمية التي تميّزت بطرح جديد لفهم الثقافة الشعبية والشفاهية، يجمع ما بين الفهم التّعددي اللّغوي والسّياق الاجتماعي، وكيف يعاد إنتاج وتجديد فهم السيرة أو الملحمة من جيل إلى جيل.
ولكن ما أثارني وشدّ اهتمامي هو فهم الحداثة والإبداع من منظور عربي إسلامي مغاربي، وليس كالمعتاد في الدراسات الغربية والحداثة العربية دائماً من الخارج، كأن المجتمع ساكن ومحنّط، والخلاص يأتي من الخارج إبّان أو بعد مرحلة الاستعمار.
سي عبد الرحمن طرح أسئلة جديدة ودرس الثقافة الشعبية خارج إطار التوظيف السياسي للدول العربية والأطروحات الاستعمارية وبالذات الفرنكوفونية.
وهذه الأسئلة هي أسئلتي في أطروحتي للدكتوراه عن الأصول الثقافية والاجتماعية لحركات المقاومة والتواطؤ مع الاستعمار إبان المرحلة الاستعمارية الإيطالية.
ما زلت أذكر كيف اتسعت عيناه عندما قرأ فصل «خرافة الغزو الهلالي لشمال أفريقيا» في أطروحتي التي كان عنوانها «من أجل الله الوطن القبيلة».
والأهم أنني شعرت بأننا قريبان منهجياً وثقافياً وإنسانياً. كلانا جاء من الجنوب التونسي والليبي، وكلانا تربّينا في بيئة اتسمت بقيم اجتماعية متشابهة ومتداخلة.
ولهذا كنت أقول له إننا «إخوة»، وهو الأخ الأكبر، برغم ذلك كان متواضعاً مع فارق السن بيننا.
توطدت العلاقة واستمرت بعد عودته إلى تونس، وتواصلنا عن طريق الهاتف. ولأنني لم أستطع أن أزور ليبيا دائماً بحكم الظروف السياسية، وبعد الإفراج في نهاية الثمانينيات، كنت أزوره في تونس وأقيم معه وجميلة، ونقضي لياليَ في نقاش وحديث عن المنهج والثقافة والتحولات في بلادنا العربية والمغاربية.
وفي نهاية التسعينيات، حصلت على منحة بحثية تتعلق بالأرشيف التونسي عدة شهور، وكانت فرصة لفهم التاريخ والثقافة التونسيين، وعبد الرحمن أيوب كان يعطيني المفاتيح المعرفية والتاريخية لفهم التجربة التونسية بعمق.
عمل سي عبد الرحمن في «المعهد الوطني للتراث»، لكن الجامعة التونسية لم تهتم بهذا العبقري والمبدع، برغم أن منظمة اليونسكو أعطته كرسي التاريخ الشفاهي في الجامعة، وظلّ يدرّسه حتى تقاعده.
ولهذا، أنشأ دار نشر صغيرة باسم استوحاه طبعاً من السيرة الهلالية والتاريخ والثقافة العربية الإسلامية سماه: «تبر الزمان».
وفي عام 2007، كرمته اليونسكو برئاسة مؤتمر عالمي كبير عن التراث اللامادي في العالم، دعاني لتقديم ورقة في هذا المؤتمر، واخترتُ شعر المعتقلات الفاشية في ليبيا، والذي كتبه الليبيون الذين أرغموا على دخول معتقلات جماعية أدت إلى إبادة بين عام 1929 و 1934. وعقد هذا المؤتمر في مدينة المهدية الجميلة، وحضره 100 باحث من جميع أنحاء العالم، وكلهم كانوا يعرفون ريادة وعبقرية هذا الأستاذ العربي من تونس.
ولكن للأسف ـ وأرجو أن أكون مخطئاً ــ كثيرون من الشباب التونسي لا يعرفون من هذا الباحث والمؤرخ الفذ، بسبب تجاهل النخبة والدولة التونسية في الماضي على عكس الدارسين خارج تونس وبالذات دراسي الملاحم والثقافة الشعبية غير الرسمية.
لكن عبد الرحمن صاحبي القرقني سيظلّ معي طالما حييت. وسيظل تفكيره النقدي المرتبط بالناس والفئات المهمشة نبراساً للمستقبل ينير التائهين وبالذات في هذه الفترة الصعبة من الحروب الأهلية والانتهازية والسذاجة في التعامل مع التحديات الداخلية والأجندات الخارجية.
رحم الله أخي العزيز وصاحبي سي عبد الرحمن.
سيظلّ دائماً معي، وأدعو الله أن يعطي ابنته كلير والسيدة الفاضلة جميلة الصبر والسلوان، وكما نقول في ليبيا: «عزانا واحد».
* أكاديمي وباحث ليبي