رحل اللّامبالي، المتمرّد، اللّعوب، الملاكم، العفوي، المجنون... مات «الماتشو» القوي البليد الذي يمكنه استخدام قبضته، لكنه يفضل أن يتراجع قليلاً ويرى أين يمكن أن تأخذه الحياة، أو أن تأخذه امرأة. مَن منّا لم يُرِد أن يكون جان بول بلموندو (1933 ــــ 2021)؟ أن يمشي في شوارع باريس مثله، أن يكون له وجهٌ معبّرٌ مثله، أن يدخّن مثله، أن يُدحرج السّيجارة بين أصابعه مثله، أن يعدّل قبّعته مثله، أن يضرب بإبهامه على شفتيه مثله، أن يحدّث النساء مثله، وأن يقبّل ويمارس الجنس مثله. عندما شاهد جان لوك غودار فيلم كلود شابرول À double tour عام 1959، لم تكن عيناه إلّا على شخصية ثانوية واحدة، ذاك الشاب النحيل ذو أنف الملاكم والأسنان المتداخلة. تساءل: «ولكن من هو هذا الرجل الذي يأكل كل الممثّلين من حوله؟». ذلك الرجل كان بلموندو، وكان اللقاء الذي عقداه بعد فترة وجيزة حاسماً لكليهما، ولتاريخ السينما. بشعره الكستنائي الأشعث وبنتيه الجسديّة وابتسامته وصوته الناعم، تمرّد بلموندو على عائلته البرجوازية، ترك المدرسة الثانوية، تخلّى عن بدايته الواعدة كملاكم، ووجد في جان لوك غودار روحاً مخالفةً للقواعد. لا يمكن تخيّل الموجة الفرنسية الجديدة من دون جان بول بلموندو. هو روح هذه الموجة، كانت تشبهه بمشاهد أفلامها، بحواراتها السّاخرة وشخصيّاتها. بلموندو لم يلعب أدواراً في السينما، كان هو نفسه على الشاشة الكبيرة. كان الشخصيات التي لم تتمكّن السينما من كتابتها. عندما قبل بلموندو الدّور في «مقطوع النّفس» أو «لاهث» (À bout de souffle ـــ 1960) فيلمه الأول مع غودار، أعطاه السينمائي الفرنسي ثلاث صفحات صغيرة كتب عليها: «إنه يغادر مرسيليا، يسرق سيارة، يريد أن ينام مع فتاته مرّة أخرى، هي ترفض في النهاية، إما يموت أو يرحل، أنت قرّر». هذا تماماً ما أراده بلموندو، الارتجال، أن يكون نفسه، هو الذي قال «إذا قيل لي كيف أفعل شيئاً ما، أصبح قاسياً وغير مرتاح».
كان المتهوّر، رجل العصابات، الشرطي الفاسد، رمزاً للتمرد والفوضوية


لم يكن بلموندو البطل في الأفلام، كان المتهور، رجل العصابات، الشرطي الفاسد، رمزاً للتمرد والفوضوية. كان من نجوم السينما الذين لا يتمتعون بوجهٍ جميل. عندما ظهر في «مقطوع النفس»، كان يبلغ 26 عاماً، وأصبح نجماً بين ليلة وضحاها. أبهر بلموندو أساتذة الإخراج الجدد، قاتل غودار، وكلود سوتيه، وفرنسوا تروفو، وكلود شابرول، وفيليب دو بروكا، وجان بيار ميلفيل، والآن رينيه، وداك ديري، وكلود لولوش، وإدوار مولينارو من أجل الشاب الذي يرتدي الجينز الضيق والسترة الضيقة وصاحب الابتسامة العريضة ووجه الملاكم الخاسر المبارزة للتّو. أصبح بلموندو الشخصية الرئيسية لمتمرّدي السينما وجسّد روح الفوضوية. كان يترك بصمته على الأفلام بالإيماءات، خاطر بحياته من أجل السينما، كان يقوم بالمشاهد الخطرة بنفسه. من ينسى الشاب الذي يقود الدراجة والسيجارة في فمه، في فيلم «رجل من ريو» (1956) لفيليب دو بروكا، أو المعلَّق من مروحية فوق البندقية في فيلم le Guignolo (1980) لجورج لوتنر.
«الحياة، الحياة، الحياة، الحياة» هذا ما طلبه بلموندو في عيد ميلاده الثمانين، كان يحب الضحك والأكل والشرب والحديث عن الأفلام وكره القدم، وكان يعشق النساء. لا أحد يمكن أن يكون جذاباً بالطّلاء الأزرق على الوجه مثل بلموندو في فيلم «بيارو المجنون» (1965). في الفيلم ،لم يحتجّ غودار لتحريك الكاميرا، كان وجود بلموندو في المشهد يغيّر النغمة. بدلاً من تحريك الكاميرا، كان غودار يحرّك عيني بلموندو، ليؤكّد الشعور
والمزاج.
بلموندو يتمتّع بروح الدّعابة المتغطرسة، تلك الخاصة بالمغازلة القبيحة. كان لصوته فقط تأثيراً عظيماً. صوته لا يُنسى، بلهجته غيّر نبرة اللغة الفرنسية، غيّر طريقة الكلام، وكيف نسمع اللغة الفرنسية. هذا الصوت الذي يغلّف وينتشر في بقعةٍ زاهية. «لقد سحرني صوت بلموندو الرائع، وهو يقول أشياء حزينة. كنت أغيّر الحوارات لتتناسب مع لهجة ونبرة بلموندو. كنت أعلم أنه سيكون جيداً جداً كل ما سيقوله» قالها فرنسوا تروفو. حين نشاهد بيارو (بلموندو) في فيلم «بيارو المجنون»، وهو يقرأ القصيدة، نشعر أنّ اللحظة كلّها استحالت أشبه بعرضٍ كامل بسبب صوت بلموندو وطريقة إلقائه.
رحل وجه الموجة الفرنسية الجديدة، الذي شرح معنى الكاريزما، رمز الأناقة والجمال، مات «بيبل» الذي قالت له آنا كارينا:
beau comme tout.