ماذا يعني أن تكوني زوجةً لإرنست همنغواي (١٨٩٩-١٩٦١)؟ الكاتب الذي عاش باريس عيداً في حياةٍ بوهيميّة رائعة، والمحارب ضد الفاشيّة في الحرب الأهلية الإسبانية، وبطل الملاكمة والصيّاد الذي من احتكاكه بالموج والأعماق كتبَ رائعته «الشّيخ والبحر»... هو السّاحر الذي وقعت في غرامه كثيرات وتزوّج بأربع نساء، كلهنّ سُحرن بكاريزما لا تقاوم لصاحب «ولا تزال الشمس تشرق»: إنطلاقاً من صور لأرشيف الكاتب في مكتبتَي جامعتَي «بوسطن» و«يال»، ونصٌّ مؤثّر بصوت الفنّانة أناييس دوموستييه، ترسم الكاتبة والمخرجة الفرنسية فيرجيني لينهارت (١٩٦٦) بورتريهاً شخصياً تختلط فيه التفاصيل الحميمة بالإبداع والكتابة... بورتريه للروائي الأميركي الأشهر عبر الغوص في زيجاته الأربع، في وثائقي «إرنست همنغواي: أربع زيجات ودفن» الذي يعرض حالياً على قناة arte الفرنسية لغاية الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر). تنطلق المخرجة من سؤالٍ مركزي: ماذا لو نطق الزمان عن الحب، وبخاصّة عند شخصية خارج الأعراف مثل همنغواي؟ ترجع لينهارت إذن إلى «السيدات همنغواي»، لتشرح كيف أن الرجل المسكون بانتحار والده وبشعورٍ عاصف بالكآبة والوحدة، لم يكن يتورّع عن الزواج بكلّ من يقع في غرامها، وماذا يعني بالتالي هذا الوثاق والعيش في دائرة شعاعٍ أو في ظلّ كاتبٍ عملاق ومغامر من طينته، لتثبت كما قالت الكاتبة البريطانية ناعومي وود في كتابها «زوجات همنغواي»: «كل واحدة أحبّته كما يعتنق المرء إيماناً أو عقيدة»، وكيف أثّر فيهن هذا الإيمان، إيجاباً، وسلباً في معظم الأحيان، حين يتوارى دوره كزوج أو حبيب أمام أدواره كزير للنساء وكصائد في أعماق البحار، وكمراسل يغطي الحروب. اللّقاء الأول كان تحت شمس الجنوب الفرنسي اللّاهبة، عام ١٩٢١، مع اليزابيت هادلي، الرقيقة والعطوف التي ستدخل في حياة همنغواي لينجبا بعد خمسة أعوام ولدهما بامبي ويعيشا في باريس الفترة التي تشبه عنوان روايته «باريس عيد». حياة أشبه بإيقاع أغنية فرنسية في الحي اللاتيني و«كنيسة مونمارتر»، و«حديقة اللوكسمبورغ» حيث يلتقيان بسكوت وزيلدا فيتزجيرالد، وعزرا باوند وجيمس جويس، ووجوه الحياة الأدبية والفنية والثقافية الفرنسية والعالمية ممن كانوا يحجّون إلى عاصمة الأنوار زرافاتٍ ووحداناً، ويعرفان النجاح معاً بصدور «وداعاً للسّلاح»: «الحياة سجن ومعاً سنشرّعها على كل ريح» تقول عازفة البيانو وزوجته الأولى إليزابيت. لكن هذا الحلم الوردي لم يدم طويلاً، إذ «انسلّت بينهما امرأة مثل شَفرَة»: إنها فيف، عشيقة إرنست، أو بولين بفايفر، التي تنازعت وهادلي قلب صاحب «رجال بلا نساء». ستحسم المعركة لمصلحتها، بثروتها وتسريحة شَعرها القصيرة، ويرحل معها إلى أميركا عام ١٩٢٨، حالماً بأن يشيّد مجده الروائي والفني، وتحمل لقب «السيدة همنغواي» حتى عام ١٩٣٨، حين ظهرت «مارتي» في الفيلا الفخمة للكاتب في كي ــ وست، في فلوريدا.
بورتريه للروائي الأميركي الأشهر عبر الغوص في زيجاته الأربع

ومارتي ليست سوى مارتا غيلهورن، الروائية ومراسلة الحرب ذائعة الصيت، التي عرفت «نيستو»، المقاتل الشرس في الحرب الأهلية الإسبانية: الحب والحرب، وقد جُبلا بحميميّة، ألهما الكاتب الذي انخرط قلباً وروحاً في صفّ الكفاح الجمهوري. ستكون مارتي الوحيدة من بين النساء الأربع التي تتّخذ القرار من جانبها هي، بترك همنغواي عشية تحرير باريس عام ١٩٤٤، لكن من دون أن تعرف أن صاحب «لمن تُقرع الأجراس» التي كتبها في فترة زواجهما، كان قلبه قد قُرع لامرأة أخرى، الصحافية الشقراء ماري ويلش، التي كان يكتب لها قصائد الحب على أوراق تواليت «فندق الريتز». ستلازمه حتى انتحاره عام ١٩٦١ وتكون إلى جانبه أثناء تتويجه بجائزة نوبل عام ١٩٥٤ عن رائعته «الشيخ والبحر».
المخرجة التي أنجزت أفلاماً وثائقية ملفتة حول فرانسواز دولتو، وجاك دريدا، تواصِل إذن مع هنغواي سلسلة وثائقياتها حول الشخصيات الأدبية والثقافية، لتبرز بأجلى صورة كيف كان همنغواي بارعاً في دور الحبيب وفي حفر القبور للحب بدفنه في الزواج. عبر الشخصيات المختلفة للزوجات الأربع، وفي بلادٍ مختلفة من الأنتيب إلى كوبا وفوريدا وإسبانيا، تظهِر لينهارت كيف اختبرت كلّ من اليزابيت وبولين ومارتا وماري تقلّبات مزاج صاحب «رجال بلا نساء»، وتوتّره، ونوبات سُكره، وخياناته القذرة، والاكتئاب الذي يعوده مراراً وجنون العظمة الذي تملّكه... ولكن أيضاً سحره الذي لا لُبس فيه، والرغبة من زوجاته في حبّه كضرب من الإيمان. مرّ زواج إرنست دوماً بمراحل أربع: الإغواء، فالارتباط، فالملل، ثم الهجران أو «الدفن». متتالية ليست غريبة عن الرجل الذي لم تثبت قدمه على بَرّ، باحثاً في الحب، كما في مسيرته الأدبية، على أن يجد في «مكان آخر»، في أحضان امرأة أخرى، إلهاماً أدبياً وتجربة وجودية جديدة، أو أن يخون بالتّحول واللاوصول، عشيقته الأدبية الأكثر وفاءً: افتتانه بالموت.

وثائقي Ernest Hemingway, quatre mariages et un enterrement على قناة ARTE حتى 3 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل