في مستقبلٍ قريب، ميامي (كرمزٍ للولايات المتحدة) تعيش ديستوبيا سوداويّةً بعدما تسبّبت مصاعب المناخ في انقسام طبقيٍّ حادٍّ بين فقراء انتهوا للعيش في جزءٍ شبه غارقٍ من المدينة (أشبه بالبندقية الإيطاليّة) وأثرياء انعزلوا وراء سدودٍ وحرسٍ خاص تجنباً للفيضان و«حثالات» البشر معاً. على هذه الخلفيّة الواعدة، تقدّم ليزا جوي (الآتية من تجربة إنتاج «ويست وورلد» الهائلة)، أولى تجاربها المستقلّة كتابة وإخراجاً. «ريميسينس» حكايةٌ تتقاطع فيها التكنولوجيا مع الواقع المظلم، والحقيقة بالخيال، والحاضر بالماضي. لكن الفيلم يتحطّم تحت ثقل وعوده، ويسقط في فخّ الاستعارات من أفلامٍ سابقة، ويقصّر عن اختيار محورٍ محدّد للطرح، ويفشل فشلاً ذريعاً في استثمار إمكانات الإطار الديستوبي للحكاية عن زمن ما بعد الكارثة.
ماذا يفعل جنود الجيش الأميركي عندما يتقاعدون من الخدمة؟ بعضهم يجترّ ذكرياته عن أيّامٍ جميلة عاشها قبل التحاقه بالحرب (وعودته منها لاحقاً بلا أطرافٍ أحياناً)، والبعض الآخر يهرب من واقعه البائس وإنسانيته التي التهمتها مهمّات قتل «الغوييم» المعادين للإمبراطوريّة إلى إدمان الكحول والمخدرات، أو ينتهي إلى وظائف متواضعة كمساعدين وموظفي حراسة وأمنٍ خاص بالكاد تكفي أجورهم لسد الرّمق وإزجاء الوقت. لكن ليزا جوي، تقترح في أوّل فيلم تكتبه وتخرجه على عاتقها، أنّه في مستقبلٍ قريب سيمكن لبعض الضباط على الأقّل العودة إلى بلادهم بعد انقضاء خدمتهم وكسب العيش من نقل التكنولوجيا العسكريّة المتقدّمة إلى حيّز الاستخدام المدني في أجواء شراكة نيوليبراليّة الطابع بين القطاعين العام والخاص.
في Reminiscence أحد هؤلاء الضباط السابقين، نيك بانيستر (يلعب دوره هيو جاكمان)، يفتتح دكانةً لاستعادة الذكريات بالإفادة من جهاز عسكري متطوّر يستخدم عادةً لاقتحام أدمغة «الإرهابيين» الذين يتم اعتقالهم وسرقة محتويات ذاكرتهم عبر تحويلها إلى شريط هولوغرام يمكن للمحقّقين مشاهدته والاحتفاظ بنسخٍ منه في ملف السجين التعيس (مما ينفي الحاجة للخوض في تحقيقات واستجوابات غير حاسمة أو مضمونة النتائج). زبائن بانيستر أساساً أجهزة الشرطة المحلية التي قد تستعين بخدماته أثناء التحقيق مع المتهمين، لكنّه أيضاً يقدّم خدماته للزبائن الأفراد الذين منهم بعض رفاقه قدامى المحاربين ـــ أحدهم معدمٌ فقد رجليه في الحرب ويمنحه بانيستر تجربة استرداد ذكرياته بلا بدلٍ مادي ـــ، كما كلّ راغبٍ بالقبض على لحظاتٍ هاربةٍ من زمانٍ مضى. ويبدو أنّ كثيرين يكرّرون زيارتهم لدكّانة بانيستر لاجترار اللّحظات ذاتها، مع أنّهم يحصلون على نسخةٍ من شريط الهولوغرام أوّل مرّةٍ لأنهم في الحقيقة لا يريدون مشاهدة تلك اللحظات، وإنّما عيش مشاعرهم حينها وهو ما يمنحه إياهم جهاز بانيستر الذي يتضمن الاستلقاء في حوض ماءٍ وربط الدّماغ بشرائط مع كمبيوترٍ متقّدم يأخذك إلى هناك. تتلخّص القصّة بأن بانيستر يلتقي أثناء عمله بماي (ريبيكا فيرغسون) المغنّية الحسناء الحزينة في علب قاع المدينة والباحثة عن الذكريات - لأسباب عمليّة - والتي ما تلبث وتملك عليه قلبه وعقله في حكاية غرامٍ ملتهبٍ غير مفهوم، قبل أن تختفي بعد أشهرٍ بلا أثر ولا كلمة وداع. هكذا يقضي بائع الذكريات معظم وقت الفيلم في رحلةٍ صعبةٍ جبليّة - كادت تكلّفه حياته - للبحث عن حبيبته، كاشفاً في طريقه عن أسرار وفظائع وزوايا مظلمة من الواقع ودواخل البشر، لينتهي، مثل زبائنه، مدمناً على تعاطي أفيون الذكريات كطريقةٍ وحيدة لتحمّل العيش في عالم متوحش.
اختارت جوي خلفيّة لفيلمها مناخاً ديستوبياً سوداويّاً لأميركا (ميامي نموذجاً) في مستقبلٍ قريب بعد كارثة مناخيّة كرّست انقساماً طبقيّاً حادّاً بين من يملكون ومن لا يملكون (بمن فيهم الفقراء الجدد الذين سقطوا إثر التحولات المناخيّة من هشاشة الطبقة الوسطى إلى الدرك الأسفل مع الفقراء المعتّقين). الذين لا يملكون انتهوا للعيش في جزءٍ شبه غارقٍ من المدينة تغطّي شوارعه طبقةٌ من المياه، فكأنّه «فينيسيا» أميركيّة للقرن الحادي والعشرين، فيما انعزل الأثرياء والإقطاعيّون الجدد وراء سدودٍ مُحكمة وحماية شركات أمن خاصة تجنباً للفيضان و«حثالات» البشر معاً. في هذه الأجواء الكئيبة، فإنّ هناك سوقاً متّسعةً لتعاطي الذكريات كما أفيونٍ للشعوب – مادة مخدّرة للهروب من الواقع والتحليق في حالات أخف وطأة على الرّوح من أيّام ما بعد الكارثة (للمدنيّين) أو ما بعد التسريح من الخدمة العسكريّة (للعسكريين).
هذه الخلفيّة الواعدة لـ Reminiscence كحكايةٍ فلسفيّةٍ ذكيّة - يمكنها التحليق في فضاءات التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والعقل البشري، وبين التكنولوجيا المتفوّقة وواقع العيش الكالح في ظل الرأسماليّة المتأخرة، وبين المتخيّل والحقيقيّ، وبين الحاضر القاسي والماضي المستلّ من ذكريات أيّامٍ أفضل - انتهت على يد جوي، الآتية من خبرة المشاركة في صنع ثلاثة مواسم من West World الهائل، إلى ما يشبه كتلة هلاميّة تمتد لحوالي مئة دقيقة من دون أن تُعرف لها شخصيّة محددة، أو ثيمة محوريّة تمنحها نوعاً من عمودٍ فقري تستند إليه للوقوف على قدميها. فلا نحن نقرأ مجادلة لمالآت العيش البشري في ظل تعملق قدرات الذكاء الاصطناعي، ولا حواراً متفلسفاً بشأن معنى تسليع الذاكرة وتعهيرها، ولا نحن بصدد قصة تستنطق أقدار القتلة العائدين من الحرب، أو تقطيرٍ لرحيق حكاية حب بين روحين منكسرتين، بل مزيج غير متجانسٍ من ذلك كلّه... من دون أن يتاح لك التعمّق في أيّ منها. ولعلّ جوي/ المخرجة هنا تعرّضت للخيانة من جوي/ الكاتبة: فالأدوات الشكليّة لسينوغرافيا الفيلم لا بأس بها، ويمكن أن تسند حكاية متماسكة، لكن السيناريو تاه في مربعات مفتعلة مُلئت بعناصر منقولة من أفلام سابقة معروفة للجمهور المعاصر، مما جعل متابعته أمراً شبيهاً برحلة استعادة ذكريات بصريّة وحكائيّة ملفّقة من هنا وهناك على النّسق الفرانكشتايني، وعلى نحوٍ يمنع الاستمتاع بالسّرد المتعلّق بالحكاية المطروحة لـ Reminiscence. هناك أشياء كثيرة مستعارة بفجاجة من كلاسيكيّات الخيال العلمي مثل «بليد رانر» و«مباريات الجوع» وغيرهما، ناهيك بأجواء السينما الـ Noir في أربعينيات القرن الماضي وألوانها الرماديّة الداكنة.
ارتباك السرديّة وترددها في اختيار صوتها الذاتي، وهذا القصّ واللّصق غير المقنّع من الكلاسيكيّات، تتسبّب سريعاً في تسرّب الملل بعد ثلث الفيلم مهما كانت قدرة المتلقّي على تقبّل التّفاهة (الأميركيّة). ومع ذلك، يمكن جدلياً أن نغفر لجوي على قاعدة أنها تجربة أولى لولا فشلها المطلق وغير المبرّر بالإفادة ولو بربع درهم فضّة من فكرة الكارثة الديستوبيّة التي ألمّت بدولة العالم العظمى وجعلت منها إطاراً كليّاً لمادة الفيلم من دون أن تتمكّن من ربطها - بأيّ صيغة – بالأحداث. يا لها من خسارةٍ فادحة لا تعوّض.
ولا يساعد الحوار أو أداء الممثلين الرئيسيّين على إنقاذ الفيلم من نفسه. النصوص تبدو أقرب لكليشيهاتٍ متوقعة، والكيمياء بين بانيستر وماي لا تعمل كما يجب، وهيو جاكمان نفسه يبدو في أدائه للشخصية الرئيسة كما لو كان موظّفاً يؤدي عملاً لا يحبّه، ولا تنجح ثانديو نيوتن (القديرة عادة) في تقديمها شخصيّة وات (مساعدة بانيستر في دكانة الذكريات) كما يفترض بعسكريّة متقاعدة من الجيش عادت محطّمة الروح تمرّر أيّامها بتعاطي الكحوليّات.
تكاد الأثافي تكتمل بشحوب الموسيقى التصويرية التي أنجزها رامين دجواني (الملحّن العبقريّ وراء موسيقى «لعبة العروش» و«وويست وورلد») للفيلم.
Reminiscence يتحطّم أمام عين المشاهد تحت ثقل وعوده الكبيرة التي لا تتحقق. إنّه شريطٌ سينمائيّ عن الذكريات يستحقّ الرّمي في سلّة النسيان.

Reminiscence: في الصالات حول العالم وعلى HBO Max في الولايات المتحدة