مسلسل Hit & Run أو «اضرب واهرب» الذي قدّمته نتفليكس عالميّاً هذا الشهر، هو آخر أعمال ليور راز وآفي إيساشاروف، الجنديّين السابقين في قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي ومنتجي مسلسل «فوضى» (عدّة مواسم) على نتفليكس أيضاً، الذي يتناول بطولات جهاز الـ «شين بيت» في فلسطين المحتلة ضد الهنود الحمر الفلسطينيين. رغم الزخم الهائل الذي يبنيه المسلسل في حلقته الأولى، فإنّ كل وعوده تتبدّد مع تقدّم الأحداث بسبب التطورات السردية المتكلّفة والمحاور المفكّكة، والاستعراضات المفتعلة، فيما الخاتمة ضحلة وتجاريّة الطابع، لينتهي العمل كأنّه مجرّد عملٍ أميركي رخيص آخر مخصّص للاستهلاك السريع
لم يستفد أيّ من منتجي أعمال الدراما المحليّة عبر العالم من تواجدهم على نتفليكس الأميركية كما حال المنتجَين الإسرائيليين. إذ إنّ هؤلاء الذين لطالما اقتصرت أسواقهم على جمهورهم المحليّ المحدود وبعض الجاليات اليهوديّة حول العالم، وعانت منتجاتهم من عيوبٍ بنيويةٍ تتعلق بطبيعة تعقيد حياة المُستعمرين في مستوطنتهم الدينيّة المعزولة، وجدوا أنفسهم بلا مقدّماتٍ كثيرة برعاية مُقتنٍ أميركي ثريّ لأعمالهم، لا يبخل عليهم لا بالنّقد الأخضر ولا بالخبرات، ويتولى نقلها من دون جهد يذكر من جانبهم إلى «العالميّة»، وحتى أحياناً قبل عرضها في «إسرائيل» ذاتها.
هذه العلاقة ـــ غير الاستثنائيّة في نطاق التداخل العضوي بين المشروع العبري في الشرق والإمبراطوريّة الأميركيّة ـــ لم تخدم نتفليكس كثيراً، لكنّها في المقابل أسهمت - ولا تزال - بشكلٍ ملموس، في تقديم وجهة نظر الدولة العبريّة منفردةً بشأن مسائل السياسة والثقافة والتاريخ والديموغرافيا وطبيعة الصراع في فلسطين إلى جمهورٍ عالمي (قد يتجاوز مليار مشاهد)، وترسيم الإسرائيليّين كمجتمع إنسانيّ طبيعيّ وجزء ذي نكهة محبّبة من الجمهور الاستهلاكي المعولم، في مقابل أبلسة الفلسطينيين، أو حتى إلغائهم بالكامل. أمرٌ ــ شئنا أم أبينا ــ يمنح نقاطاً إضافيّة يوميّة من القوّة المعنويّة (الناعمة) للكيان العبري، ويحصّن الأسطورة التي تعتاش منها تلك التجربة الشاذة في الهندسة البشريّة، بعدما أفلست أو كادت.
مسلسل Hit & Run أو «اضرب واهرب» الذي قدّمته نتفليكس (من إنتاجها) عالميّاً هذا الشهر، يأتي في قلب هذا السياق تماماً. آخر أعمال ليور راز وآفي إيساشاروف، الجنديين السابقين في قوّات النخبة في الجيش الإسرائيلي ومنتجي مسلسل «فوضى» (مواسم عدة) على نتفليكس أيضاً، الذي يتناول بطولات كاوبوي جهاز الأمن الإسرائيلي الداخلي «الشين بيت» في فلسطين المحتلّة ضد الهنود الحمر الفلسطينيين، يحكي في تسع حلقات مغامرات سيغيف أزولاي الجندي السابق في القوات الخاصّة في الجيش الإسرائيلي (يلعب دوره ليور راز بنفسه) الذي تقاعد ليمارس عملاً حرّاً كمرشدٍ سياحي متواضع في تل أبيب يُسمح له بأن يعتني بابنته الصغيرة (نيتا أورباخ) من زواجٍ سابق، وزوجته الأميركية راقصة الفنّ التعبيريّ، دانييل (كايلين أوم). أزولاي كان سعيداً إلى اليوم الذي قُتلت فيه دانييل في حادث دهسٍ مروع، بينما هي في طريقها إلى المطار للذهاب إلى نيويورك من أجل تجربة أداءٍ هامّة لها هناك. حزن الأرمل أزولاي، سُرعان ما يتحول غضباً متفجّراً عندما يدرك مع مرور الوقت وبعد اتصال غامض على تلفون زوجته الراحلة بأن ذلك الحادث الذي قلب حياته - وفرّ مرتكبوه بلا أثر - كان مرتَّباً. كما بطل إغريقي مخلّد، ينطلق في رحلة مطاردات دوليّة تأخذه من تل أبيب (الحالمة) إلى نيويورك الصاخبة، وتتقاطع فيها عصابات الجريمة المنظمّة وأجهزة الشرطة والحكومات ودوائر الاستخبارات (بما فيها بالطبع الموساد والمخابرات المركزيّة الأميركية)، مع حساء خليط من الوفاء، والخيانة، والغدر، والشجاعة، والثّقة، والوهم.
لا وجود لفلسطينيين هنا إطلاقاً، و«المجتمع» العبري مكوّن من شبان وشابات مرتاحين مادياً


ورغم الزّخم الهائل الذي يبنيه المسلسل في حلقته الأولى، فإن كل وعوده تتبدد مع تقدّم الأحداث بسبب التطورات السردية المتكلّفة وغير المقنعة، والمحاور الكثيرة المفككة، والاستعراضات الحركيّة المفتعلة، فيما الخاتمة ضحلة وتجاريّة الطابع، لينتهي العمل بخيبة أمل تامّة، كأنّه وجبة طعام أميركيّة سريعة بدت شهيّة وهي ساخنة، ثم فقدت كل طعم لها بعدما أن بردت قليلاً. وللحقيقة، فإن تيه المسلسل يبدأ تحديداً من لحظته الأميركيّة، أي عندما تحطّ الطائرة بأزولاي في مطارٍ في نيويورك لاستكمال بحثه المحموم عن «الحقيقة». هنا تبدأ الانعطافات الحادة المتلاحقة بإفقادنا لأيّ منطقٍ يمكن الاهتداء به لفهم الحبكة (من الصعب مثلاً ازدراد أن إسرائيلياً خلفيته العمل العسكري السري عبر الحدود لم يبحث مطلقاً - ولو بدافع الفضول - عن أيّ شيء يتعلّق بماضي زوجته). ويظهر البطل العبرانيّ الفرد قادراً على مقارعة المافيات والشرطة والمخابرات والدّول معاً، وملاعبتها ضد بعضها مع جرعة مكثّفة من استعراضات فنون القتال ومطاردات السيّارات، وتبدأ عندها الشخصيّات بالتصرّف بغباءٍ غير مفهوم، بينما في هذه الأثناء تبدو جهود كاتبي النص للإمساك بالخطوط المتعددة للسرديّة عبثيّة وبلا طائل. كأنهما في مهمّة سيزيفيّة (لا نهاية لها كما في الأسطورة الإغريقيّة) لتجميع المفكّك: إذ لا نصل إلى ذروة تريحنا من عناء التقلّبات العنيفة الأخيرة إلّا ونعود لنهوي من جديد إلى قعر وادٍ آخر وهكذا.
رداءة القسم الأميركي من «هيت أند رن»، لا يعني أن القسم العبراني منه أفضل حالاً. بغير لحظات التأسيس الدرامي حول حادث الدّهس قبله وبعده مباشرة، فإن هذا الجزء كان يمكن أن يكون في أيّ فضاءٍ مكانيّ غربيّ المزاج حول العالم. هنا تلّ أبيب أقرب لأن تكون أيّ مدينة أميركيّة هادئة حيث لا معالم سوى الأبراج الزجاجيّة الصاعدة وشبكات الطرقات، ولا يدلّنا على أننا نتابع الأحداث في العاصمة الاقتصاديّة للكيان سوى نثرياتٍ شكليّة وحروفٍ عبرية هنا أو هناك.
في القسم العبري هذا، يقتصر عمل الشريكين راز وإيساشاروف على تطبيع الجمهور العالميّ – ولا سيّما الأميركيّ – مع الكيان الملفّق عبر صورة مبسترة تخفي أكثر مما تُظهر: لا وجود لفلسطينيين هنا إطلاقاً في أيّ وقت، والمجتمع العبري مكوّنٌ من شبانٍ وشاباتٍ مرتاحين مادياً، ليبراليّين وإنسانويين، يرتدي جميعهم الجينز، ولا ملمح فيه لأيّ من اليهود الأرثوذكس (نسبة وازنة من السكان) أو ثقافتهم المتطرّفة، بل إن الخبرات الإجراميّة في القتل الذي مارسه أزولاي قبيل تقاعده من الخدمة العسكريّة لم تُكتسب في عمليّات القمع الإسرائيلي للفلسطينيين في الأرض المحتلّة (الهادئة بسبب عدم وجود فلسطينيين)، وإنما مع العصابات في المكسيك.
لا يكلّف راز وإيساشاروف نفسيهما بذل جهدٍ يُذكر في بناء الشخصيّات المساندة ـــ ربما باستثناءٍ جزئي لشخصيّة ابنة عمه المحقّقة في الشرطة الإسرائيلية (موران روزنبلات) ـــ، فتأتي جميعها مسلوقةً ومسطّحة ذات بُعدٍ واحد، رغم أنّها تبتلع جزءاً كبيراً من الوقت. كما يكثر استنادهما إلى كليشيهات مستنفدة سواءً في الأجزاء الدراميّة أو مشاهد الحركة، ولا تحقّق النتيجة المعلّقة في النهاية سوى تنبيه المشاهد لنوايا صانعي المسلسل بالتفاوض مع الراعي الأميركي الحنون نتفليكس على إنتاج موسمٍ ثان.
مع ذلك كلّه، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّه رغم كل هناته الفنيّة، وتحذلقه الثقافيّ، وفقدانه الملحوظ للهويّة، فإن الإشارات الأولى حول شعبيّة Hit & Run تشير إلى أنّه حَظي بإقبالٍ واسع من قبل جمهور نتفليكس عبر العالم. وفي بريطانيا مثلاً، صعد فور إطلاقه إلى الأكثر مشاهدة على نتفليكس لأيّامٍ قبل أن يتراجع، لكنّه بقي ضمن قائمة العشرة الأكثر مشاهدة إلى الآن. ومن الواضح أن غالبيّة الجمهور المعولم تحت مظلّة الإمبراطوريّة الأميركيّة يتعاطى مع المنتجات الثقافيّة على عمومها بوصفها مواد سريعة الاستهلاك من دون التعمّق في خلفياتها وحرفيتها، وهو ما التقطه راز وإيساشاروف بذكاء فقدّما مادةً لن تعجب النّقاد حتماً، لكنّها تحظى بإقبال الجمهور، وتلك موهبة تجاريّة كبيرة قد تعوّض – كما نرى - غياب أي موهبة فنيّة حقيقيّة.