(إلى ليليان عطالله)
صديقتي،
سأكون شفافاً وأقول إنّي تردّدت طويلاً قبل أن أعزم على الكتابة. وحين خُيّل لي، وكان ذلك بعد لأي مضن، أنّي نجحت، في تجاوز تردّدي وعبور شراكه، وقعَ ما فاتني حسبانه، إذ اكتشفت أن فرحي بتجاوز التردّد، أو لأقُل نجاحي في الالتفاف عليه، لم يكن في محلّه أبداً. بل مجرّد وهمٍ من أوهام الإنسان، وما أكثرها في هذه الأيام. فالموضوع، وخلافاً لما ظننت بدايةً، كان أعقد من التردّد المألوف وأشقّ منه. فكان عليّ نسيان ما كابدته، ولم يكن بقليل، والعودة إلى النقطة التي سبقت اعتزام الكتابة وربّما إلى ما قبلها. وأظنكِ تعرفين، أكثر مني، معنى المحاولة من جديد، وما يرافقها أو يتخلّلها من مصاعب سبق لنا تناولها في غير حديثٍ ومناسبة. فمرارة الإخفاق لا تطاق، وآثاره لا تُمحى بسهولة، وإن فعلت، فلا بد من أن تترك ما يُذكّر به. لكن، وحيث أن التحدّي لا يقابل إلا بتحدٍّ لا يقلّ عنه بل يزيد، قرّرت، هذه المرّة، أيضاً، أن أعمل بهدي ما أخذته عنك من دروس الإصرار والمعاندة، لا لأكون عند حسن ظنك وحسب، وهذا هدفٌ دائم لا شكّ فيه، بل لأُريكِ حقيقة إضافاتك التي تسرّبت إلى طبقات الروح وتلافيف القلب وسكنت الأعماق والدواخل. وعليه، لم أجد بدّاً من قبول التحدّي واستئناف ما امتنع عليّ قبل قليل. وهنا، ومن جديد، برز تحدٍّ لا تقلّ صعوبته عن صعوبة التردّد وإنّما ضاهاه في الثِقَل والمشقّة: أأكتب لليليان أم عنها؟ وأيهما هو الأسهل؟ والسؤال هنا، ليس عن قدرة التعبير عما يجيش في الخاطر أو يعتمل في الوجدان، فهذا ممّا لا مشكلة فيه، وتدبّره من أسهل ما يكون. ففي الخاطر الكثير من المكنونات وأغلبها مما لم يُقل بعد، أما الوجدان فعامر وفيه من الحبّ وفائض المشاعر ما لا ينضب. بل عن تأثيرات الإجابة، هذا إن تيسّرت، على الروح المسكونة، والحنايا المزدحمة والشغاف العابقة. فآثار إقامتك ما زالت على حالها الذي خبرته، بل وراسخة رسوخ اللّقاء الأول الذي لم أزل، وبرغم مرور الوقت، أحرص على استعادته في كلّ آن وحين، خصوصاً حين تضيق بي الأحوال، وما أكثر ما صارت تضيق بي بعيداً عنك يا ليليان. وهو اللقاء الذي أوجب نفسه بالضد من «المسلّمات» البليدة، فضلاً عمّا ظهر لنا لاحقاً من حقيقة أن إمكانية تفاديه أو تجنّبه كانت مستحيلة لا لكثرة المشتركات وعمقها فحسب، بل لما هو أبعد من ذلك بكثير. صحيحٌ أن لقاءنا تأخر لكن المهم كان في أنه تمّ، وبتمامه في صباح «جونية» الخريفي ذاك، وعلى مقربةٍ من خليجها، أوقدتِ ناراً عاتية لا تخبو إلا لتتأجّج، ولا تشتعل إلا لتردّ الصّقيع اللّابث أو الزاحف.
هذه المرّة، لن تشاركيني في احتفال ميلادك، أو في قطع قالب الحلوى المزيّن بصورتك


وهنا، أصارحك، أنّ صعوبة السؤال وامتناع الإجابة، لم يلبثا أن فرضا نفسهما وأجبراني، مرة جديدة، على... التراجع، والسقوط، مجدداً، في حبائل التردّد اللّعين إيّاه، ذاك الذي لا يتراجع إلّا ليتقدم والذي ما انفك، في خفية عنا، ينسج خيوطه الغليظة. أما المفاجأة التي لم أفكّر فيها ولم أتوقّعها، فكانت في اكتشاف بداهة وحقيقة أن الكتابة لك هي كتابة عنك. لكن المؤسف أن بداهة وبساطة الحقيقة هذه التي غابت عني، وخلافاً لما أمِلْت وتمنيت، لم تنسحب على المهمة، بل جاءت لتفاقم من صعوباتها. فلو كانت الكتابة لك حصراً لكان ذلك متيسراً، خصوصاً أنّ هناك، في سوابق الكتابة إليك أو عنك، ما يساعدني وينقذني. فضلاً عن يقيني المجرّب في أنك، وكما هي عادتك معي، ستتساهلين مع عجز الكلمة وفشل العبارة وإخفاق الجملة لا لسبب إلا لمعرفتك بصدق الرّغبة وحرارتها، وعظيم الحب ونُبله، وديمومة الشوق والاشتياق. أمّا الكتابة عنك، فهي الأخرى مما يمكن تدبّره، خصوصاً أن فائض رسوليتك وآثار حضورك في كل المساحات أو الفضاءات التي تسنى لها لقاءك أو ملاحظتك، توفّر ما لا ينضب من القول والتعبير. أمّا الكتابة عن الاثنين معاً، أي عنك ولك، فيرقى إلى مرتبة المُحال، ولا أظنّني بقادرٍ على تحدي المحال. فلا القلم بقادر ولا الخيال بحاضر ولا القلب بمستعد. إنّها لمعضلة فعلية ولا حلّ لها إلا بالتواضع وارتضاء المُتاح، وهو ما سأفعله آسفاً ومرغماً، مع وعد التعويض في أقرب فرصة ممكنة. لذلك، وأمام يقين العجز، وحتى لا أفوّت فرصة اللقاء ومناسبته، أجدني ملزماً بتكرار بعض ما تعرفينه، وبعض ما وصلك مني في غير مناسبة. فكأني بالأيام لا تمضي. وكأني بك، كما كنت دائماً وأبداً، حاضرة بيننا ومعنا ولنا. حاضرة، بالحب الذي ميّزك، والغيريّة التي طبعتك، تنفخين الأمل في هذا الصديق، وتشحذين همّة تلك الصديقة، تكفكفين دموع من خانه الحظ أو كسرته الظروف، وتُواسين من عاكستها الموهبة وأتعبها الانتظار... ولا ترتاحين إلّا حين تنجحين في جعلنا كما تشتهين لنا أن نكون، سعداء، أقوياء ممسكين بزمام أمورنا. وحينها فقط كان وجهك يضيء بابتسامة لا تُنسى، فتنسحبين من غير أن ترفعي ناظريكِ عنّا لعلمك بحاجتنا المستمرة إلى حنوّ قلبك وعطف روحك، وهي حاجات لا غنى لصديقٍ عنها. وكل ذلك بصمتٍ رسولي، يقتصر وجوده على ما وصلنا من سير الثوّار المؤكدة، أو أخبار القديسين المزعومة.
أعلم أنك هذه المرة أيضاً لن تشاركيني، ومعي الأصدقاء، في احتفال ميلادك، أو في قطع قالب الحلوى المزيّن بصورتك. وأعلم أيضاً أن ذريعتك هذه المرة ستكون أقوى مع تردّي أحوال البلد وفقدان البنزين وندرته، لكن من المهم أن تعلمي أن ذخائرك حاضرة ومنثورة هنا وهناك وهنالك، في الشوارع والحانات، على النواصي وتقاطعات الطرق، في الروائح وغناء العصافير، في الأماكن التي عرفتك وتلك التي فاتها أن تعرفك... وهو ما نعيشه مع كل إشراقة شمس وولادة قمر وارتفاع نخب ولقاء عاشقين وتفتّح زهرة وابتسامة صبيّة ورفرفة جناحين في مستهل الطيران. يبقى أن أكرر القول إن مقعدك في الـ «كازابلانكا» ينتظرك وكذلك الحال مع كأس الفودكا الذي اشتاق إلى لثم شفاهك العذبة وتذوّق رحيق لعابك الطيّب. لذلك، أراكِ عائدةً لا محالة، وستجدينني أنتظرك في المكان الذي رعى صداقتنا وحضن لقاءاتنا، وهو المكان الذي لن أغادره ما حييت. وهذه المرّة، أعدك أن أنتظر وأنتظر من غير تأفّف، بل وأعدك ألا أملّ من الانتظار... مهما طال.