الفنّان الملتزم والموسيقي أحمد همداني يستلّ طموحه الشاهق حساماً، إن في الغياهب أو في أغوار الصعاب والمشاقّ. أنجز خُطى تعبق بالإصرار في رحلة الألف ميل. مثابرٌ يجرّ نفَسه الطويل عرَبةً. يتجشّم عناء الأشياء بجلَدٍ بيّن. بسيطٌ جداً، متمهّلٌ، عميقٌ في اكتناهه الأهمية الحيوية للموسيقى، ومرهفٌ هو أحمد. في تعريفه غير الكلاسيكي بنفسه، يقول إنه «محارب» في الصفوف الأمامية في المعركة الثقافية والفنية. أطلق مقطوعته الجديدة أخيراً ضمن فيديو كليب نشره على مواقع التواصل الاجتماعي... وقد أحبَّ أن يتوّج المقطوعة بعنوان «كونشرتو للفلوت والأمواج». علماً بأنّ تنفيذ الفيديو استغرق حوالي عامين (2019-2021). كذلك، أطلق همداني فيديو كليب في 4 آب 2021 في الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت. رغم أنّ عنوان مقطوعة «كونشرتو للفلوت والأمواج» غير مطابق للكونشرتو بالمعنى المتعارف عليه موسيقياً والمكوَّن عموماً من حركاتٍ ثلاث، وقد يُفهم العنوان على الأرجح في هذا الإطار بالمعنى المجازي، صرّح همداني لنا من إيران حيث يقيم حالياً، متسائلاً: «لماذا لا يكون الاستخدام المتعارف عليه هو «المجازي»؟». مُفسّراً وجهة نظره، أضاف في التأويل: «إذا كانت كلمة «كونشرتو» تشير إلى الحوارية المتآلفة والمتناغمة بين وحدةٍ جمالية صوتية من جهة، ومنظومةٍ أشمل، تذوّب بجماليتها كل جمال تلك الوحدة من جهةٍ أخرى، ففي تلك المساحة الفردوسية من طبيعة عالمنا يتجلّى المصداق الحقيقي لهذه التسمية «الكونشرتو». تناغماً من تأليف الفنّان الأكمل ــــ مبدع الوجود ـــ وما عليك إلا التفاعل الفطري مع هذا الفيض الجمالي لكي تجد لنفسك الدور المناسب في تلك المقطوعة الخالدة».
عن ظروف تصوير العمل وكيفية الربط فنّياً بين الموسيقى والجانب البصريّ، أكّد همداني أنّ كلّ شيء كان عفوياً. كانت رحلته سياحية، وخاصة أساساً إلى المالديف. ومن عادته أن يحمل معه في كل أسفاره السياحية آلةً موسيقية، والفرصة كانت لآلة الفلوت تلك المَرّة. لم يكن لديه أيّ قرار مسبق بالتصوير ولا بتأدية مقطوعة محدّدة. غير أنّ الروح المسيطرة على جمالية المكان هناك، أيقظت «فنّاناً جديداً بداخلي» كما يقول لنا، و«امتدّتْ يدها إلى العمق مع عزف الموجة الأولى، فتحرّكت آلة الفلوت من حقيبتي لتُجاوب تلك الموجات». في البداية، تمّ التصوير بشكلٍ تلقائي يشفّ عن مجرّد هوايةٍ وهُواة. لكنّ همداني استعان في ما بعد بمشاهد أرشيفية للمكان، و«حرصَ على إيقاعها على النغمات وفقاً لما بقي بداخله من أثرٍ لتلك الروح»، على حدّ تعبيره. يمكن الجزم بأنّ هذا الكليب مريحٌ نفسياً، والمناظر الخلابة تُدخل المتلقّي في الهدوء والطمأنينة سيكولوجياً. ردّاً على سؤالٍ عن احتمال إعادة توزيع المقطوعة لاحقاً على نحوٍ أوركستراليّ ضخم، لاسيما أنها كانت مكتوبة للبيانو في البداية في صيغتها الأصلية، ومع أيّ أوركسترا تحديداً يحبّ أن يتعاون، أجاب همداني بأنّ ذلك كان، وما زال، يمثّل حلماً له. وأردف قائلاً: «يشرّفني وأتمنّى أن تؤدَّى Peace of Mine» (وهو العنوان الأساسي أيضاً للمقطوعة التي يعدّها «كونشرتو») من قِبل أوركسترانا الوطنية أي الفلهارمونية اللبنانية التي أتابعها منذ أعوام دراساتي الموسيقية الأولى عام 1996، وأفخرُ بهذه الأوركسترا».
مشروع جديد بعنوان «حكاية حلم» يندرج في سياق رسالته التربوية الموسيقية


أما في ما يتعلّق بالفيديو الذي بثّه ونشره في ذكرى 4 آب وحيث عزفت ابنته على آلة الكمان، فقد أخبرنا عن سبب اختياره موسيقى كلود ميشال شونبرغ Schönberg. «كانت زينب ابنتي ـــ كعادتها ـــ تسألني عن اقتراحٍ لي حول مقطوعة جديدة لتأديتها خلال إجازة الصيف، فاقترحتُ على الفور مقطوعة شونبرغ من العمل الفنّي الخالد المرتكز إلى رواية فيكتور هوغو «البؤساء»، بعنوان Empty Chairs at Empty Tables.. فهي تعرف أنني مولعٌ بهذا العمل منذ حوالي 10 أعوام، ولطالما حدّثتُ طلابي عنه باعتباره نموذجاً للكمال الفنّي في رثاء الشهداء. وسرعان ما التفتنا إلى ربط الأمر باستخدامه في الآونة الأخيرة بكلماتٍ لبنانية وانتشاره إبّان وقوع الانفجار المفجع في مرفأ مدينتنا الحبيبة بيروت. ولأنّ الذكرى السنوية كانت تلوح في الأفق، اجتمعت كل العناصر الروحية والظرفية لتنفيذه «كعربون» محبة وعزاء لكل ضحايا ذلك اليوم».
أطلقَ أحمد على الكليب اسم «إكليل» لتخليد ذكرى الشهداء، «كما آلامنا بهم وبعدهم، تلك الآلام التي تتعاظم في جسد وطننا وشعبنا في كل يومٍ تَلا رحيل هؤلاء الأبرياء من إخوتنا».
عن مشاريعه الموسيقية والفنية المقبلة وعن «مركز أطوار للموسيقى» في لبنان الذي أسّسه همداني ويديره أيضاً، وعن التحدّيات في ظلّ ظروف البلد الدراماتيكية، يجيبنا أحمد بأنّ أبرز ما يعمل عليه حالياً مع الفريق في «مركز أطوار» يكمن في مشروعٍ بعنوان «حكاية حلم». يندرج المشروع في سياق رسالته التربوية الموسيقية، وهو «بالتعاون مع بعض المدارس اللبنانية الرائدة». يتمحور حول التحضير على امتداد العام الدراسي القادم، أكان حضورياً أم افتراضياً، لِمُنتَجٍ موسيقي تربوي يحقّق ـــ إلى جانب كلّ الأهداف المعرفية والتربوية الموسيقية ـــ أهدافاً تطبيقية تتّخذ شكلَ عملٍ فنّي عزفي وغنائي يجسّد إصرار أجيالنا على رسم حلمها «وحلمنا في صنع المستقبل والخلاص».
أحمد همداني الذي لحّن طويلاً في فضاء الإنشاد المقاوم و«الوجداني»، يواصل رحلته مزاوجاً اليوم على المستوى الفنّي بين الدينيّ والدنيوي في تشعّباتهما، مستعيناً بعناصر فنية متنوعة في الآونة الأخيرة، لا سيما في أعماله الفنية العاشورائية الأخيرة، كما أعلن لنا، منها: الصورة والموسيقى والأداء الصوتي والدرامي.