قليلةٌ هي الأعمال الدرامية التي تتناول «المصارعة الحرة» كما هي. نتحدّث هنا، بالتأكيد، عن أعمالٍ ذات قيمة تقنية مثل فيلم «المصارع» (2008 ــ إخراج دارين أرونوفسكي وبطولة ميكي رورك) الذي قارب وقدّم حياة المصارعين كما هي فعلياً. يأتي مسلسل Heels (ستّ حلقات من إنتاج شركة «ستارز») واحداً من تلك الأعمال القادمة بقوة لتقدّم صورةً عن هذا العالم الذي لا يعرفه كثيرون، رغم اعتقادهم بأنّهم يعرفونه جراء مشاهدتهم للمصارعة الحرّة مذ طفولتهم. يحكي المسلسل قصّة الأخوين جاك وإيس سبايد المتحدّرين من عائلة تمتهن المصارعة وتمتلك شركة للمصارعة المحلية في مدينة صغيرة في ولاية جورجيا. أحد الأخوين هو «شرير» (heel) فيما الآخر هو «محبوب الجماهير» (face)؛ وكلا التعبيرين يأتي من المصارعة. في البداية، إيضاحاً، ليست المصارعة الحرة ـــ أبداًـــ ضرباً من «الكذب» أو «الاستعراض الوهمي» بل هي فعلياً رياضةٌ عنيفة، مؤذية على الصعيدين الجسدي والنفسي، وقلما استطاع أيّ من نجومها «النفاذ بجلدهم» من تأثيرها القاسي والصعب. يكفي أن نعرف بأنَّ أكثر من خمسة مصارعين قد انتحروا، فيما عُطب (بشكل كلي) أكثر من عشرة، فضلاً عن عشرات غيرهم عانوا من إعاقاتٍ جسدية غير قابلةٍ للشفاء خلال العقدين الأخيرين من الزمن. المصارعة رياضةٌ «محددة النتيجة predetermined بمعنى أنّ القتال في المباراة «منسّق» ونتيجته معروفة، لكنّ ذلك لا يعني أبداً أنه ليس «حقيقياً». يضرب المصارعون بعضهم بعضاً فعلياً، لكن من دون محاولة إيذاء أحدهم الآخر إلا بمقدار ما تحتاجه الحركة المنفذة. لكن هذا لا يمنع ـــ كما هو الواقع ــــ من حدوث حركاتٍ منفذة بطريقة سيئة (تسمى botched moves)، وساعتها تقع المصيبة. ما لا يعرفه المشاهد عن المصارعة كذلك، أنّ نجومية المصارع وأهميته تتحددان في أمرين: الأول قدرته على عدم إيذاء الآخرين وفي الوقت عينه يستطيع تنفيذ «الحركة المطلوبة» بشكلٍ يصدقه الجمهور، وهو ما يسمى في المصارعة selling. الأمر الثاني هو مقدرته على تحمّل الألم والضرب أكثر من زملائه. هذا كله في جهة، وفي الجهة الأخرى، قدرة المصارع نفسه على أن يكون جذاباً مثيراً للرغبة في دفع المشاهدين لحبه أو كراهيته. في الحالتين: سواء أحبك المشاهدون أم كرهوك، فأنت attraction. بالتالي سيأتون إما لمشاهدتك تَضْرب أو تُضْرب.
مسلسل يروي قصة اجتماعية عن عالم المصارعة وتعقيداته


أدائياً، يأتي اختيار صانع العمل مايكل والدورن ـــ الذي كتب وشارك في إنتاج مسلسلات مهمة للغاية مثل «لوكي» و«ريك ومورتي» ــ للممثلين ستيفن آميل وألكسندر لودفيغ ليكونا بطلي العمل ذكاءً شديداً. آميل واحد من أهم الممثلين التلفزيونيين خلال العقد الأخير، كان قد قدّم شخصية «السهم الأخضر» في مسلسل شركة «سي دبليو» الذي حمل الاسم نفسه ودام لأكثر من ثمانية مواسم، محققاً نجاحاتٍ هائلة. آميل تحضّر للعمل بعمق حين شارك في استعراضات لشركات مصارعة حقيقية ومهمة مثل «دبليو دبليو اي» (wwe) في العام 2015، وRing of Honor في 2017، وفي AEW العام الفائت. واجه آميل مصارعين حقيقيين، وجرّب حياتهم بشكلٍ فعلي خلال تلك المدّة، وتعرض للضرب وتحمّل الضرب كذلك. هذا الجهد الهائل الآتي من مدرسة الـ Method acting، جعله يبدو طبيعياً أثناء تأدية هذا الدور، إلى درجة تنسى أنه كان يوماً في دورٍ آخر أو أنه حتى ستيفن آميل: إنه جاك سبايد فقط. هذا الجهد الهائل يشاركه به ألكسندر لودفيغ الذي يُعتبر بدوره من نجوم التلفزيون حالياً من خلال أدوار مثل بيورن في مسلسل «فايكنغ» أو مشاركاته في أفلام مثل «ألعاب الجوع» وBad boys بجزئه الأخير. يبذل لودفيغ جهداً كبيراً كي يلمس الشخصية وإن كان أقل من آميل في الدخول إلى عالم المصارعة، لكنه نجح في تقريب الشخصية من المشاهدين. في الوقت عينه، تبرز ماري ماكورمك (عرفها الجمهور بأدوارها الرئيسية في مسلسلات مثل «الجناح الغربي» وMurder one) وكيلي بيرغلاند (القادمة من قناة «ديزني» ومسلسلات مثل lab rats وnow apocalypse) بدوري ويلي داي، وكريستال تايلور اللتين تعمل الأولى كمديرة لشركة المصارعة، والثانية «مرافقة للمصارعين» (Valet). حكاية المسلسل تقارب الحياة اليومية لصنّاع هذا النوع من «الترفيه» لناحية الوقت والجهد اللذين يتطلّبانه، ذلك أن الشخصيات الرئيسية مثلاً لا تصارع فحسب، بل أيضاً تمتلك «وظائف يومية». نجد جاك سبايد مثلاً يعمل كبائع لجزازات العشب، فيما يصارع ويدير شركته للمصارعة يومي السبت والأحد بشكل متخصص. يشرح المسلسل علاقة المصارعين ببعضهم، الغيرة، الحسد، الجهد، كما «توحّش» الشركات الكبرى التي تبحث عن مصارعين في الشركات الأصغر. في الوقت عينه، إنها حكاية البشرية الأولى: الصراع بين قابيل وهابيل، من خلال قصة الشقيقين اللذين يتصارعان في الحياة كما على الحلبة، حيث يمثّل المجتهد الذي يهتم بنجاح العمل دور «الشرير في المصارعة» (heel) فيما شقيقه الأقل جهداً موهبةً، والطائش يؤدي دور «الطيب والمحبوب» (face)؛ في لعبةٍ دراميةٍ تعاكس الواقع. Heels ليس مسلسلاً يتوجّه لعشّاق المصارعة أو الذين يرغبون في رؤية رجالٍ ـــ أو نساء ـــ بأزياء سباحةٍ زاهية الألوان، يدهنون أجسادهم بزيت البحر ويضربون بعضهم من دون سببٍ منطقي تحت أضواءٍ ساطعة. لا شيء في المسلسل يحدث تحت أضواءٍ ساطعة، إذ حتى المباريات تحدث تحت إضاءةٍ أقل من عادية. إنه مسلسل يروي قصةٍ اجتماعية، عن رياضةٍ يعتقد الجميع أنّه يعرفها، وهو لا يفعل. مسلسل يبذل صنّاعه وأبطاله جهداً كبيراً لإيصال القصّة بكل الطرق، وهذا ما يجعله يستحق المشاهدة، وبشدة.

The Wrestler على نتفليكس
Heels على شبكة Starz