وضعت التسوية العسكرية في المدينة القديمة حدّاً «للتغريبة الحمصية». رجع الأهالي إلى منازلهم بعد 803 أيّام من التهجير القسري. شكّلت ساعتا حمص، القديمة والجديدة، محجّاً للعائدين. انطلقوا صوب الحارات العتيقة، وكلّ يمنّي نفسه في العثور على بقايا منزلٍ أو بقايا أثاثٍ أو بقايا وطن. مدخل حيّ الحميديّة اكتظّ بسكّانه القدامى. جميعهم شقّوا طريقهم فوق ركامه راجلين. فاقت الفاجعة حجم الخراب.
تفاوتت ردّات الفعل بين جيلين اثنين: آباءٌ منكوبون على شقاء عمر ضائع، وأبناء جعلوا ساعة رجوعهم الأوّل بدايةً لتقويم زمني جديد، هذا ما أكّده أحد المغتربين الذي دوّن على صفحته على الفايسبوك عبارةَ: «في البدء كانت الحميدية». كان ضريحُ الراهب اليسوعي فرناس فاندرلخت في دير الآباء اليسوعيين، على موعد مع صلوات كثيرة بدأها كهنة حمصَ قبل أن يتحوّل قبره إلى مزارٍ أَمّه كلّ من عرف الأب الهولندي الذي أبى أن يغادر مدينة السلام حتّى قضى في حاراتها شهيداً.
رفض الراهب اليسوعي فرناس فاندرلخت أن يغادر مدينة السلام حتى قضى في حاراتها شهيداً
الصلاةُ على روح «أب الحميديّة»، كما يحلو لبعض أهل الحيّ تسميته، لم تكن المفصل العاطفي الوحيد في رحلةِ العودة. إذ حرص عدد من أصحاب المحال التجارية على الانتصار لإرادة الحياة. قام «عبد المسيح» بفتح دكانه على الشارع الرئيسي واضعاً برّاد المشروباتِ الغازيّة، وهو كلّ ما تبقّى له من رزقه العتيق في نقطةٍ مرئيّة لزبائنه المنكوبين. أراهنُ أنّ بعضهم قد اشترى واحدةً من الزجاجات منتهية الصلاحيّة بعدما سدّد لـ«عبّود» ثمنها على التسعيرة الرّسمية المعمولِ بها قبل الأزمة.
تحكي الحقوقيّة «ربا الحمود» حكايةً مؤلمةً تُثبت من خلالها أنّ سكّان حيّ الحميدية، أو الحارة، كما يدعوها أهلها، كانوا على يقينٍ بحتميّة رجوعهم إلى منازلَ أُخرجوا منها عنوةً بعدما فقدوا طاقتهم على احتمال وزر الحرب. تقول: «صعدت وزميلي إلى البناء الذي يضمّ مكاتبنا. كان الظّلام دامساً. النار التهمتِ المكان. لم يبقَ مما في الطابقين الأوّل والثاني إلّا الرماد. وصلتُ إلى بوّابة مكتبي في الطابق الخامس، فوجدت على أعتابه ورقةً بيضاءَ صامدةً كُتب عليها «سنعود بعد قليل»». غيابٌ سنتين ونيّف ليس قليلاً على أيّ حال، لكنّ الأكيد أنّ سكّانَ الحميدية غادروا منازلهم في نهايةِ هذا اليوم وهم على ثقةٍ أنّهم سوف يعودون إليها... بعد قليل.