قبل الكوارث الصحية والاقتصادية والمالية التي هطلت علينا دفعةً واحدة، كادت بيروت أن تكون عاصمة للفنون البصرية والتشكيلية، نظراً إلى الفورة التي شهدتها في الصالات والمعارض، وجعلتها محطة أساسية لأي فنان. لكن جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت الذي أحدث أضراراً مادية ومعنوية لحقت بهذه الصالات بحكم موقعها الجغرافي (مار مخايل، الجميزة، الصيفي، الحمرا)، والأزمة الاقتصادية، عوامل كادت أن تقضي على هذا القطاع. وعلى الرغم من مرور عام كامل على الانفجار، لا تزال ثمة حكايا تُروى عن اللحظات التي عاشها الناس آنذاك. تواصلنا مع أصحاب الصالات وبعض المنسقين والمنظمين والعاملين فيها للاطلاع على نشاطهم وعودتهم للعمل ومواكبة تفاصيل إعادة الاعمار ومحتويات معارضهم.
لوحة لشفا غدار مهداة إلى الصالة وسكان مار مخايل، معلّقة على مدخل الغاليري

«عندما يريد أحدهم قتل بلد معين، يقتل مباشرةً ثقافته، وإصرارنا على البقاء هو نضال بحدّ ذاته» تقول لينا قرياقوس مديرة صالة «صفير زملر». ترى قرياقوس أنّ الثقافة توازي بالمفهوم الجوهري معنى الحرية، لأنّ الفن يخلق محيطاً يفكر بطريقةٍ حرة، ويعلّمنا تقبل الآخر. وتصف العام الفائت بالمتعب، فقد كان يُفترض أن تفتتح معرضاً في نيسان (أبريل) 2020 لأحد الفنانين، لكن الظروف الصحية التي فرضت نفسها حالت دون ذلك. وعن الاضرار التي سبّبها الانفجار، تلفت إلى أنه على الرغم من الخسائر الكبيرة، الا أنّها بقيت محصورة بالماديات ولم يلحق أي أذى بالعاملين. وسرعان ما عاد فريق العمل بجهدٍ دؤوب، واستطاعت الغاليري أن تُفتتح في مهلةٍ لم تتعد ثلاثة أشهر عبر التكاتف والمشاركة. تلخص لينا رؤيتها المستقبلية بجملة واحدة «نحن بطيارة عم تهبط». وتشير الى أنّ «المخطط الوحيد هو أن نبقى صامدين لأنّ لا شيء مضموناً اليوم في البلد».
من جهته، لم يقرر صالح بركات في بادئ الأمر إعادة افتتاح صالتيه (غاليري «أجيال» و«غاليري صالح بركات»)، فقد اعتراه حزن شديد بعدما خسر أحد أعمدة مؤسسته وتاريخها (الفنان فراس الدحويش الذي قضى في الانفجار)، لكنه تراجع بعد ذلك، ولم ينتظر شركة التأمين وافتتح الصالة بمعرض للفنان البصري ومصمم الغرافيكس اللبناني بسام قهوجي الذي كان معتكفاً منذ العام 1994.
على المستوى الشخصي يدرك بركات أنّ لا خيار سوى الدفاع بطريقته عن «الهوية المشرقية»، علماً أنّه يواجه صعوبات اليوم تكمن في انقطاع الكهرباء ونقص المازوت وانهيار قيمة العملة الوطنية، مما يجعل الأمور التشغيلية كلها تصعب يوماً بعد يوم، لكن «قرار الاستمرار اتُّخذ الى أن يعجز» على حد تعبيره.
تعثّر بسبب انقطاع الكهرباء ونقص المازوت وانهيار قيمة الليرة


المتاعب مشابهة بالنسبة إلى نايلة كتّانة مديرة «غاليري تانيت». هي أيضاً لم تكن تريد العودة. تُخبرنا بأنّها كانت رافضة رفضاً قاطعاً لفكرة الترميم حتى، بسبب خسارتها كثيراً من معارفها وأصدقائها في الانفجار وبسبب المشاهد المهولة التي عاينتها وسبّبت لها ضغطاً نفسياً كبيراً. لكن لم تطل المدة قبل أن تتراجع عن قرارها، لتعاود العمل بهدوء تام. تلفت الى أنّها لم تتلق مساعدة من أي جهة رسمية بل مساعدات من أصدقائها لإعادة ترميم الخراب الحاصل داخل الغاليري.
وعلى الرغم من الازمات المتشعبة والمعقدة في لبنان، تصرّ كتّانة على إبقاء المكان مفتوحاً كمساحة للفنانين للتعبير عن فنهم وأفكارهم وعن رؤيتها ورأيها بأهمية الفن في ظل الأزمات التي نشهدها. تؤكد بأنّ «الأزمة كبيرة وكثير من الناس يفكرون اليوم في قوتهم اليومي لكن البعد المعنوي للحياة ضروري للبقاء. فهناك أشخاص يتنفسون ثقافةً وأدباً، وهؤلاء يرون في الفنون أهمية قصوى ليصنعوا عالماً».
أما ماريان شبلي وهي منظمة في «غاليري مارك هاشم»، فتعتبر أنّ آثار الانفجار وذكراه كانت صعبة جداً، وخصوصاً دمار المحيط والأضرار التي لحقت بالغاليري. وتختصر وجهة نظرها بأن «بلد كلبنان لا رؤية واضحة للمستقبل فيه وعلينا أن نعيش يوماً بيوم» مؤكدة على ضرورة النهوض بالفن لأنه «وسيلة لإبداء الأفكار والتعبير عما يحدث دائماً أكان سياسياً اقتصادياً او غير ذلك لنعبر عن حالتنا بجمالية».
الضرر والخراب الأكبر كان من حصة صالة «مرفأ» لأنّ موقعها على تماس مع محيط المرفأ. تؤكد لنا ليتيسيا زلعوم، إحدى المسؤولات في الغاليري، إنّهم قرروا إعادة الترميم سريعاً، لكن الموضوع أخذ حيزاً واحتاج إلى خطة، فأعادوا إعمار مساحتهم ولم يفتتحوا الصالة بأي محتوى يخص الانفجار، لكنهم يخططون دوماً للمشاركة في معارض عالمية أوروبية بدءاً من سويسرا وبعدها لندن وفرنسا. تلحظ زلعوم فرقاً بين أعداد الزائرين بين السابق والحاضر، لكنها تؤكد أنّ العدد لم يتقلص كثيراً. أما ليلة الافتتاح بعد اجراء الترتيبات كلها، فكانت الصدمة. لم تكن هذه السنة كسابقاتها مما اضطروا للبقاء يوماً كاملاً على خلاف السنوات المنصرمة بعدما كانوا يكتفون يوم الافتتاح بثلاث ساعات فقط.
لا جديد يضاف برأيها على ما قاله زملاؤها باعتبار أنّ الفن ليس كماليات في المجتمع. من الطبيعي ألاّ تمحى آثار انفجار مروع كهذا حتى بعد مرور عام كامل. الأضرار المعنوية كان لها حصة مضاعفة عن تلك المادية. وفي حين لم تسلم المجالات الثقافية والفنية من أضرار العامين المنصرمين، إلا أنّ العاملين فيها يتعاملون مع الظروف والأزمات والكوارث انطلاقاً من ايمانهم «بحاجة المجتمع والناس لهم».