متواترة لا متوترة في «آية الحواس»، ديوانها الأول، لأنها تدرك ولا تزال سر متاهات الشعر بقراءة الشعر من صداه لا من صوته. يجعل الصدى الشعراء أوصياء على الشعر، لا شعراء فقط. شعراء وأكثر. إنها كذلك. ولأنها كذلك، تعرف كيف تلاعب الأصوات. ذلك أنّ من يلتقط الصدى، لا تلزمه سويعات القوة ولا حواملها لكي يجعل الكلام والصمت، اللغة ومداها، الشعر بكل هذه العناصر، ما يجعل كل ذلك ندياً. الندوة بالشعر من نداوة الأصابع، حيث تقطر الدواخل كما لو أنها تنشئ أغنية ذات إيقاعات ترصد تحت السطح لا فوقه (هذا من الصوفيات). كلما شبعت من نفسها، من رؤوس أصابعها، جاعت. يعود الجوع إليها، لا تعود إلى الجوع أو تستلم له، حيث إنها الأدرى بأن الاستسلام يجعلها تتوه حيث لا يدري أحد ولا تدري. إنها سليلة الشعر لا الشعراء، ولو أن بعضهم ينتظرون زيارتها. كأنهيدوانا أولى الشاعرات في التاريخ، وإغريقية الهوية والشعر: سافو. هؤلاء من تحبهم، من لا تزال تسمع صليل شعرهم ينشئ حس الشعر فيها، ينشئ حس الأمنيات بالشعر. صليل شعرهم، لأنه صليل الحب لا صليل الموتى في قبورهم. موتى الموت العادي وموتى الشعر حيث لا شعاع.ماجدة داغر من بنات الحرقة. لعلها سيدة من سيدات الحرقة. إذ يتكشف الحزن في شعرها (فيها) كما تتكشف سلحفاة خرجت للتو من جرف قار، يتاخم أصوات الموج. الحزن ممر ماجدة داغر، معطفها، أوراقها المكشوفة والمخبوءة، نقرها المشع ما لا يترك أثراً إلا على الورق. ما ترويه عليها حكايات الحياة الأشبه بالنرد. لا حكايات القهوة الساخنة عند الصباح، لأن القهوة نباحة الصباح. لمَّا أن الحزن، حزنها، تتعبه القافية كما يتعبه التحام الغيم بالغيم من شفيف الحزن، شفيف الشعر والحياة. الشعر مدار هذه المرأة الأشبه بالقشعريرة الأبدية على بدن فان. ولأنها أدركت وتدرك أن الحزن ممرها المكشوف، المجهول، إلى شعرها وحياتها، لا تزال تلعب دور القباني بين ما يسري بالأعراق، لا بالأعراف، وبين ما تتنبأ به العرافات للشعر. قبانية (من قبان) لا تعرج أمام المهبات في ديوانها الأخير «ملتئماً بالماء كغريق الطوفان» (دار ورد ـ الأردن) لأنها لا تحب لا حلازين الشعر ولا حالاته الحلزونية. إذ أنها راوية بالشعر، لا تنقع خبزاً فيه، حين تقتفي آثار الآخرين فيه كما تقتفي آثارها ببالغ الحزن المحشود بالسكون، حيث يشكل السكون صورة الرائي/ الرائية معطوفاً على مسارات الراوي/ الراوية.
الحزن جناحها تغزل به رقص الكائنات على حمى العويل. وإذ انقضت في «آية الحواس» (ديوانها الأول) على نفسها، تنقض في «ملتئماً بالماء» أو «سيرة الظل» على الآخرين. تقتص من حيواتهم حزنها، كما اقتصت من حياتها حزنها في «آية الحواس». حواس تدور كالملائكة فوق مياه، تُصعِّد اللوعات الهائجة على المحدوف من حياتها إلى حياة الآخرين ومن حياة الآخرين إلى حياتها. أحزان تستحقّ التحية من مواد أيديها الخشنة. وتستحق التحية من صياح الشعر أمام الحزن وهو يحوله إلى قطاف. الحزن ملاك شعر ماجدة داغر والتصوف. الأخير في الأول في «آية الحواس»، لمَّا حفل الديوان الأخير بلغة ابعتدت عن التملص من تأثيرات جن الشعر الأرقط. لكن ما يجمع دواوينها ومنها «جوازاً تقديره هو»، هو الغنائية الشعرية لا الغناء. ثمة بون شاسع بين الاثنين، حيث لا أنساق حاكمة بشعرها، ببناء نصها، البعيد من أنماط الخطاب الشعري الفاعل في مفهوم الشعرية العربية. لا ثبات ولا مظاهر. مستويات فقط مستويات، على عكس ما وجده تودروف في إطار الشعرية. إنها تودروفية في حمالات الشعر في شعرها، من اللفظية إلى التمظهر إلى الدلالة. التمظهر غير المظهرية كما هي الغنائية الشعرية غير الغناء في الشعر. ما جلى بها محمود درويش سعيداً، وهو يسير على مائها كما فعل يسوع على مائه (عند داغر هو يسوع لا المسيح، لأن لكل منهما حافته العقائدية). إنها تهجم بولهٍ على الأسلاف لكي تعيد كتابة شعرهم في شعرها، في صالة شعرها البيضاء. إنها درويشية بالغنائية الشعرية في شعرها، بدون أن تتقصّد أن تمحي لظى أوشامه. شعرها رغيفها الأزرق في «ملتئماً بالماء»، بعيداً من التملص في الديوان الأول وشهوة المرء على الأرصفة الحية والسيارات الطائرة فوق المواليد الجدد كما في «جوازاً تقديره هو». ما يجمعه في الديوان الأخير حيث لا تزال شهوة الإنجاب عالية، ما يعوض الإنجاب هو الشعر، النديم، النازف، الحميم، التواب، الحري، الحر، المسلوف، المكلوف. شهوة الولادة، ولادة الضوء/ الوليد/ الولد/ الابن، من لا تزال تحنو عليه وهو لا يزال في مرحلة ماقبل الولادة، لا الغياب. ثم إنها إذ تهجم وحيدة لكي يسرها اسمها ترى جسدها الشاعري/ الحسي/ الأرتوي يتساقط كما يتساقط الغبار البريء وهو في عز النشوة البريئة. حسية، آرتوية، لأن الطقس جزء من شعرها. كما هو المسرح جزء من هذا الشعر. شعر كالبئر، بئر يوسف. جسر الأحزان على الأحزان في «ملتئماً بالماء» وفتنة اللغة باللغة. اللغة مجرة ماجدة داغر تنشط بين الأسافل والأعالي، حيث يشفي الشعر من الأسافل ولا تُرهب الأعالي بضوء اللغة. تستلذ هذه السيدة ذات الشعر الأحمر البقاء باللغة، بمحاقها لا على حافاتها. لكنها لا تسمح لها بأن تقودها إلى الهذيان اللغوي، كما حدث ويحدث مع بعض الحداثيين. لا ترخي اللغة ستائرها على عبور المجاز الشعري، بالعكس. إذ تساهم في حفر المسارات في عمق الشعر، بحيث كلما حفرت فيه عمقت فيه، عمقته لتسحبه عن شفاه من يرى الصعلكة في الشعر وصوله العالي. اللغة أداة الاحتكاك بالحكاية، بالرواية، بالشعر. ميدان يتعذّر أي نشاط معرفي خارجه، ناتج تفكير إنساني يسعف بوابات القول على أن تفتح وتغلق. لا سوأة بوظيفة اللغة ما دامت موظفة في المشروع الشعري، مشروع تربية الشعر على الجدران والهواء والغياب والنسيان والوجه واللسان والجسد. شعر ينقر حاملاً أصماغه كما يحمل الوقف قداسته الدنيوية. هكذا، حين تكتب للريحانات الثلاث (ريحانة الإيرانية بعدما أعدمت إثر قتلها مغتصبها وريحانة والدة إيلان الغريق على شواطئ الهجرة وريحانة المقاتلة الكردية)، تكتب بقلم جنية بدون أن تزلق إلى الجندرة. لأن الصراع الشعري، عندها، لا يدور في قصر ولا منظمة ولا مؤسسة. إنما يدور على البراءة من اللغو. الشعر براءة، أنفاس نازلة صاعدة يدحوها كتان الوقت. إذاك، تزهر الكتابة بالحزن في رشق داخلي على مفهوم الغرضية والاحتياج. اللغة مرفأ عناق الأحداث. نوع من أنواع التفكير الداخلي الموضوعي بتعريف وجداني يسبق التعريف الوظيفي. لغة ذات وظيفة ولكنها محشودة بالوجدان، لأن الكتابة هنا هي كتابة الوجه على الوجه. «استبدلي الضاد في الماضي/ بكرسي تجلس على حافته همزتك مبللة» (ص ١٥) «أنت الرمانة والريحانة والرمالة/ في الصحراء المحجوبة عن أهل المطر» (ص ١٧). هذه ليست ألعاب لغوية ولا لعباً باللغة. هذه من قضايا الخلاف على اللغة. أن نزايد عليها أو نزيد عليها. اللغة ليست فاكهة الدرب. إنها النهر ما يشده إلى ضفافه، قليلاً، اختام النداء (امضي، استنبتي، التبسي، اعتنقي، حدقي، صيري). وإذ يقع الأمر يصبح للقصيدة، وجه طللي، بعيداً من الجامع الأغلبي. سوف يتعالى حضور القصيدة المهداة إلى ميشيما (العطف بالواو وخيبة الساموراي)، من جراء ذلك: اللغة بالصورة والصورة باللغة. يتكرر الأمر بحضور شاكلة الموجة المسرحية في القصائد، حيث الأرض صلاة الغائب لا مساحة خطو فقط، وحيث الوجه وجه آخر لعشق الوجه الآخر في المرآة/ الوجه. اللغة، لا طفلة ولا وحيدة. ولا شاطئ فقط. إذ تقلب اللغة النكهة/ النكهات بضربة واحدة، بنيرانها لا بجدولتها (الكلام على الهمزة، الكلام على واو العطف...). إننا أمام نوع من العراك مع النفس والذات والروح على طاولة اللغة (لا فرق بين موتين/ كلاهما ضحية الجاذبية .ص٢٢). عجين اللغة هنا، خبز اللغة. أقلام فجأتها، تنزلها داغر بالتكثيف، بالاختزال، بالمحو (لا تزيد عدد صفحات الديوان عن ٩٣ صفحة من المختزلات لا من سباخ الكلام). لا تنتأ الكلمات، إذ ترسل بريقها من بعيد، بعيداً من العزاءات الجوفاء. تطلع من الحدقات إلى دارتها في القصيدة ملتحفة ما تركه طاغور من تأمل ونزوع إلى الصقل، بلغة لا تنقصها الموسيقى ولا الشساعة في الجمل الضيقة. لا زخرفة ولا تزيين. لا شرح ولا تفسير. ثم، شيء من حركة تجديد الشعر الإنكليزي، حركة التصويريين مع عازرا باوند وآمي لويل وت.أس إليوت. هكذا، تصبح اللغة عند داغر ذات مفهوم بصري تحفر بالشارع كما يحفر الشارع بها. إنها لغة تداخل. لغة مداخلات. اللافت أن ثمة بلاغة بلا بلاغة. هنا البلاغة ليست نيشاناً يعلّق على صدر الشعر والقصيدة، إذا جاءت البلاغة من عالم بلا معنى. إذن، احتفاء بالأعين المدمعة، اليتيمة، لا بالبلاغة. الشمس عند داغر تمنح ظلالها للخاسرين. هكذا تخوض في ممرات العالم الضيقة حتى توسعها، من النزر القليل إلى بحر بحارة لا ينوؤون بأحمالهم من قوة البحر (هناك منازل الصفاء/ هناك طريق التجلي/ وراء الإسراء .ص٣٣- وإذا كنت لا تتذكره فهو لم يحدث من قصيدة الزهايمر، ما أصاب والدها في سنواته الأخيرة ص ٣٥. لم تتعبين أصابعك المتورمة يا امرأة/ وفي رأسه من حطب ما يكفي لحرق أزقة روما. منها، يكور أصابع يده/ حابساً في كفه يميناً أقسمه ـــ الحروب كلها متشابهة/ إلا تلك التي سقطت فيها خوذة الجندي ص٣٧). الشعر بيتها، ما خلصته، ما مسحت عنه المساحيق على قاعدة الرفض إلى حين القبول بعد المثول. هكذا، أضحت كلما استيقظت شاعرة، لا تترك ذراعيها للصدفة بكتابة الشعر. خيط رفيع، نحيف نحيف، يحول العالم إلى ثقب إبرة لكي يتدلى منه، بعدما صار شعرها متلوف الابتداء، برعاية الحمائد الحديثة. شعرية الارتعاش لا الحبر، شعرية روح الشعر لا حياكة الصوف، تدكن الصمت بالصوت والصوت بالصمت. سنلتقي على قوس قزح، اجتماع الظل بالظل حيث لا يخطئ ابن أو بنت آدم وحواء بالتوغل في مناجم الروح. برولوغ بشري على شرف رامبو، الحيوان الأليف لا الشاعر. لا برد ولا سلام في موته، حيث المشهد عراء بالرغم من احتشاده بالكلام. الشعر يتبع من أناب الكلام إليه، بقطع الحدود بين الموت والحياة. خروج نهائي من المادية إلى الحسية. شعرها حسي يعكس نوعها من التعلق بالتصوف، بارتفاع الدلالة المحددة إلى التمظهر في صور حسية رامزة ومباشرة، يخفف من المباشرة فيها إفعامها بالإيحاء والتعدد الدلالي. إنه سندان العالم الذاتي على التجربة الذاتية. إنه مقام من مقامات البوح في صحوة من صحوات الغيم. صحوة غيمية تدور بين عالمين، الملموس والمحسوس، بلغة دوارة لا دائرية. لغة ترتقي وهي تحمل نفسها كما يحمل الرقص الدائري الدرويش إلى الفضاء وهو على الأرض. التصوف من الكلمات المفتاحية بشعر ماجدة داغر. لغة بروح مشيخية، تؤلف نفسها بعيداً من المصادر. الاتصاف بالمحاسن والنأي عن كل ذم ومذموم. تصوف لا عرفان بالقصيدة المهداة إلى رامبو. شعر مولد لا مشتق، كما لو أن القشيري يتكلم على الصوفية ولو خالفه ابن خلدون. الخروج على اللذة والملذة إلى الجوهر (لا موت هناك/ عواء فقط/ عواء ليريكي بعيد/ بعض التراب يغني/ بعض السماء تراب/ تراب تراب/ غياب الغياب/ ملاك تجلى/ عواء كلاب ص٧٩. أغنيك ببالي/ أغنيك فأصير توليب/ أغنيك لأرى كريشنا ص٨٣). بيت شعر المدينة يكرم وجهه بالكتابة على دحوات الغياب، بعيداً من الضلالات وأطر الإنشاد. هكذا هو «ملتئماً بالماء» وهو ينشد رسم الأشياء بالروايات الشعرية، تتحرك كلما فرحت بها روح امرأة عزلاء لا تزال تؤمن بدهشات الصباح، لا تزال تؤمن بالدهشة.