نقرأ هذه المرّة حواراً مكتوباً بين لور غريّب وابنها مازن كرباج في كتاب «لور غريّب – أسود على أبيض» (دار كاف). حوار يضاف إلى سلسلة حوارات جمعت الفنانة وابنها الفنان، في اللوحة، بين الرسم واللغة. يسأل مازن وتجيب، بأسلوب لا يخلو من تلك الإيقاعات التهكّمية والكاشفة التي ضبطت لقاءاتهما الفنية في الأوراق والمراسلات. العمل مع مازن لم يكن إلا ذريعة لمواصلة الشغب، إذا أردنا أن نتتبع خطوطها ودوّاماتها الحبريّة. استثمرت حينها تجربتها الطويلة، لتخوض فن الكوميكس ومتوالياته السرديّة منذ سنة 2006 بعد حرب تمّوز. تجربة لا تبتعد أصلاً عن لوحاتها الأولى بما فيها من خطوط تواصل التوالد، وزخارف برفقة اللغة التي تتحوّل إلى تساؤلات تحفر حفراً في الرأس بسرعتها وشقاوتها. استطاعت الفنانة أن تريح تعقيد لوحتها تماماً منذ معرضها الأوّل المشترك مع مازن «من نافذة لأخرى» (2007). معاً طوّرا تقنية الأيادي الأربع، واختبرت معه العمل على اللوحة نفسها، أكان بطريقة مستقلّة أو بالتوازي كما رأينا في معارض أخرى جمعتهما مثل «أنا وأنت والبابيه بان» (2010) و«الأبجديّة» (2015)، آخرها «مراسلات» في «متحف سرسق» (2019) الذي ضمّ مراسلاتهما، ويوميّاتهما على مدى أشهر بين بيروت وبرلين.
«23 تموز 2006»

هل يجب الاكتراث إلى الزمن؟ وهل هو السبيل الملائم للدخول إلى تجربة لور غريّب؟ قد لا تنفع السيرة التراتبيّة مع فنانةٍ مثلها. بالطريقة التي تدخلنا فيها لوحتها في دوّامات من الرموز والأشكال، تبدو حياتها أيضاً دائرة تسير إلى الوراء. من يرى معرضها الأخير «نشوة العين» (2017)، بلوحاته المطرّزة والملوّنة، سيلاحظ كم تعرف هذه الفنانة أن تخدع العمر. يعرّفنا الكتاب إلى تجربة متفرّدة في المحترف اللبناني، بدأتها في الستينيات، وسط الأجواء الحداثية في الفن والشعر في بيروت. لا يمكن رؤية الكتاب على أنه احتفاء بتجربة فنان غائب من فترة آفلة. إذ لم يتضاءل حضور الفنانة الثمانينية طوال تلك السنوات، في المعارض الفردية والمشتركة مع مازن. حضور داومت عليه أيضاً من خلال مقالاتها التشكيلية في جريدة «النهار».
أمامنا مراحل تجربتها الغزيرة، ومسارات لوحتها، بالإضافة إلى جوانب أخرى يتناولها الكتاب: حوار مكتوب أجراه مازن كرباج مع أمه لور سنة 2018، وتسلسل كرونولوجي لحياتها، وفق التواريخ الأساسيّة فيها، ومقال نقدي مرجعي بعنوان «لور غريّب: الخط أمير الوهم ووجه الطفولة الغائب» للناقدة والأكاديمية مهى سلطان، تقدّم فيه قراءة شاملة لتجربة لور ومحطاتها المختلفة. كما توثّق بتعمّق لمسار لوحتها ومرجعيّاتها، وأسلوبها الفني المتفرّد. تتعمّق سلطان في تأثّرات لوحة غريّب الفنيّة والحياتيّة، وتؤرّخ في الوقت نفسه، للحركة الثقافيّة في تلك الفترة، التي تأثّرت فيها لور، وكانت واحدة من وجوهها، إذ تستعيد الأرشيف النقدي لذلك الوقت، في مقالات ومؤلّفات للمسرحي عصام محفوظ، والشاعر شوقي أبي شقرا، والفنان عارف الريّس وعاصم الجندي وآخرين ممن كتبوا عن معارضها. «لا مسافة بين الفن والحياة»، اختارت سلطان هذه الجملة كتوطئة للكتابة عن لور، ولا مبالغة في ذلك إطلاقاً، إذ أنه يستحيل تقريباً العثور على ذلك الخط الفاصل ما بين حياتها ولوحتها.
«الأمومة» (مواد مختلة على ورق مقوّى ـــ 110 × 150 سنتم ـــ 2011)

البداية كانت من القصيدة، حيث نشرت باكورتها الشعريّة باللغة الفرنسية «أسوَد الزرقات» (1960)، في وقت تلقّفت فيه صرخات «أنا أحيا» (عنوان رواية ليلى بعلبكي)، كغيرها من فنانات وفناني ذلك الجيل، وفق ما تشير سلطان في توصيفها لحالة الحداثة البيروتيّة آنذاك على أنها «جبهة رفض لكلّ ما هو تقليدي». عودة إلى الستينيات، لكنها قد تكون استباقاً لمحاولات مبكرة. قبلها، نهاية الخمسينيات، خاضت لور تجارب سريّة (يتضمّنها المؤلّف) لم يكتب لها أن تعرض، إذ رسمت بالفحم والألوان الزيتية على قماش. كان عليها أن تجلس أمام البياض، وحدها.
اعتمدت الحبر الصيني الأسود وحده، لسبب بسيط، هو ذاكرتها التي حفِظَت الأبيض والأسود في الكتب المدرسية والشاشة

تستحضر لور تلك الفترة في حوارها مع مازن، بما فيها من تردّد وشكوك وتمزيق للوحات، مشيرة إلى إنها كانت نوعاً من التحدي الذاتي لخوض الرسم، بعد تشجيع من الفنان اللبناني سعيد أ. عقل. لاحقاً، اعتمدت الحبر الصيني الأسود وحده، لسبب بسيط، هو ذاكرتها التي حفِظَت الأبيض والأسود في الكتب المدرسية والشاشة، وغيرها من المرجعيات البصريّة حينها. لديها أقلامها والورق، وقبلها، لديها عيناها. هما اللتان تفتحان لها عوالم الدهشة، كما تشدّد في معظم مقابلاتها، خصوصاً أنها لا تعتمد على موديل أمامها.

مازن ولور خلال افتتاح معرضها «مراسلات» في متحف سرسق عام 2019

ثمّة دائماً ما هو مبهم، ليس لناحية الجانب الشكلي للوحة فحسب، بل حالات المدّ والجذب معها، مع الفراغ تحديداً، وسعيها لتبديده، ولملئه بدوّاماتها السوداء التي لا تنتهي، كمحاولة ربّما «لإدماج عالم لن أتمكّن من الاندماج فيه، ولكنني أدمجه في عالمي الخاص». تُعصى أحياناً محاولة الكتابة عن تلك الرسمات واللوحات، بلانهائيتها التي تشبه الأرابيسك. في الفترة الأولى من تجربتها، نرى تلك الكتل الداكنة، والخطوط العريضة التي كانت تلجأ إليها بسبب خوفها من الخط الرفيع وأخطائه الظاهرة. كأن كلّ ذلك كان تمريناً على الانفلاش والتمدّد، والأهمّ تحرير خطوطها والسيطرة عليها. نتلمّس من حديث لور في الكتاب، رغبتها في إغلاق لوحتها على الرموز، خصوصاً عبر تقنيّة محو الجمل المكتوبة أحياناً. تأثّرات كثيرة تقبع خلف تلك الطلاسم، والأشكال والخطوط، أفصحت عنها مراراً منها تنقيبها في حضارات المايا والإستيك والإنكا وحضارات الصين واليابان، والكتابات الآشورية والمسمارية والسريانية والأرمنيّة، التي أكّدت في إحدى مقابلاتها أنها لا تفهمها، وهذا ربّما ما يصنع سحرها. لا بدّ من أن هذا النوع من الإبهام هو الذي كان يقودها إلى نوع من التفريغ الممسوس على اللوحة. منه كانت تعبر إلى دواخل، أزمان ويوميات. الحالات التي تعيشها أثناء الرسم، تبلغ مرحلة من اللاوعي، كما حين تصف استيقاظها ليلاً من أجل الرسم في حالة تشبه الانخطاف والحلم في اليقظة.
«عشر سنوات مرّت» (70 × 50 سنتم ـــ 1984 ـــ مجموعة المتحف البريطاني)

يعرّفنا الكتاب بشخوص لور: الفنانة والأم والطفلة وواحدة من وجوه الوسط الثقافي في بيروت. وبجمعه عدداً هائلاً من لوحاتها، يضع الكتاب بين أيدينا سبلاً عدّة لقراءة تلك التجربة. إذ ترد الأعمال تدريجاً وفق تواريخها، وبهذا يمكننا رصد تطوّر لوحتها التي تصل في النهاية إلى الانفراج والتفلّت والمشاغبة في السنوات الأخيرة، حين دخلت إليها الخيطان الملوّنة والصور والكولاج. بالإضافة إلى فترة الستينيات، يرصد الكتاب الفترة الممتدّة من 1975 حتى 1985، أي بالتزامن مع الحرب الأهليّة واندلاعها. وهي فترة عاصفة، تفتّحت فيها عوالم اللوحة على الخارج أكثر، خصوصاً أن الحرب لدى لور تستحضر معها حروباً أخرى من الذاكرة اللبنانية منها الحرب العالميّة الثانية التي طالت ضيعتها دير القمر، وقبلها، حرب 1914، التي انتقلت إليها عبر حكايات جدّتها. من أشهر أعمال تلك الفترة لوحة «من عشر سنين» بوجهي فتاتين، يحمل جسداهما ووجهاهما الكثير من التفاصيل والدهاليز المنمنمة التي تحافظ على تجريدها. هذه الوجوه والكائنات صارت تظهر أكثر في أعمالها الأخيرة، وإن ظلّت مصنوعة من الخطوط والزخرفة الداخلية، إلا أنها صارت تخبر حكايات وتفاصيل وكلاماً. ربّما هي خلاصات الذاكرة والحرب والعائلة وأيّام بيروت والماضي بسنواته الثمانين، باتت الآن تظهر أكثر وضوحاً، أو تحرّراً ربّما، بعبارات لمّاحة وعبثيّة وساخرة، وبكائنات طفوليّة، تصير أصغر سناً كلّما تقدّمت الفنانة في العمر.
«الصديقات الثلاث» (حبر هندي على ورق ــــ 25 × 20 سنتم ـ 1964)



اللغة رفيقة دائمة
التحقت غريّب بلقاءات مجلّة «شعر» التي أطلقها يوسف الخال في بيروت. ولعلّ ذلك ما دفعها إلى الانتقال للكتابة بالعربية، بعدما كانت قد أصدرت باكورتها الشعريّة «أسوَد الزرقات» (1960) باللغة الفرنسيّة. جاءت مجموعتها القصصية «إكليل شوك حول قدميه» (1965)، مرفقة برسوماتها بالأبيض والأسود. ترجمت بداية الستينيات الشعر العربي في مجلّة «لوريان» الفرنسيّة لأشهر شعراء تلك الفترة، وعملت بعدها في مجلّة «لوجور» الفرنسيّة كصحافيّة وناقدة، ومنها انتقلت إلى جريدة «النهار» كناقدة في القسم الثقافي، الذي ظلّت تكتب فيه حتى سنة 2016. تجربتها في «النهار» لم تكن إلا مغامرة أخرى، كتبت فيها العربيّة للمرّة الأولى تحت إشراف الشاعر شوقي أبي شقرا. رافقت اللغة لور غريّب، أكان في مؤلّفات مستقلّة أم من خلال اللوحة، خصوصاً العربيّة التي بدأت تظهر في أعمالها الفنية منذ السبعينيات، فيما استثمرت في بعض لوحاتها خطوط اللغة العربيّة كأشكال ورموز أخرى.