تأتي الدورة الثانية من «مهرجان لبنان المسرحي الدولي للرقص المعاصر» في صور (جنوب لبنان)، هذا العام، لتعميق دور «فن الجسد» واشتباكه مع الفضاء العام، وتجديد الوعي المجتمعي والفكري، حول هذا الفن. رحلة طويلة خاضها المدير العام للمهرجان ومدير «جمعية تيرو للفنون» و«مسرح إسطنبولي»، قاسم اسطنبولي، لتغيير النمطية الفكرية المتجذّرة حول الرقص وأنواعه. الدورة التي تنطلق اليوم وتستمرّ لغاية بعد غدٍ الاثنين، تأتي استكمالاً لرحلة التغيير التي بدأ العمل عليها سابقاً، حتى صارت أرضية الجنوب جاهزة لاستقبال الفنون على أنواعها، وتلقّفها من قبل الجمهور.
تقدّم مصممة الرقص اليونانية مارغريتا تريكا عرضاً يحمل اسمها

عن الحدث الذي يتّخذ من «نرقص من أجل التغيير» شعاراً له وتنقسم فعالياته بين الحضورية والافتراضية، يقول اسطنبولي لنا: «نحن لسنا بوقاً». لا يغمز من قناة أي جهة، بل يحافظ على إقامة الفعاليات في المسرح المجاني، بجهود شباب مدينة صور والجوار، الآتين من خلفيات عدّة. أصالة غير عادية يضج بها هذا المسرح، مذكّراً بروحية المسارح القومية في الدول العربية التي تعمل من أجل رفع شأن الفنون المسرحية من دون مقابل. فالهدف هو «إدخال الفنون المعاصرة وتوسيع رقعتها الجغرافية، ما قد يمهّد لتغيير فكري أعمق».
يتعدّى «مهرجان لبنان المسرحي الدولي للرقص المعاصر»، الحدود المكانية لإقامة العروض، من خلال استقبال الراقصين من دول عدة، وبجعل الحدث ملتقى فنياً على مستوى الوطن. في زمن التباعد الاجتماعي، يعيد المهرجان الملتزم بقدرة استيعابية بنسبة 30 في المئة، ترسيخ مفاهيم الانفتاح والتواصل مع الفنانين والراقصين من الدول الأخرى. إذ يشارك في العروض الافتراضية التي ستُنقل على منصة «زوم»، راقصون من 20 دولة، منها: تايوان، إسبانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة الأميركية، الصين، السنغال، الهند، كندا وغيرها. إلى جانب أسماء من لبنان، هي: «فرقة مدرسة مايا للفنون»، «فرقة الكوفية للتراث الفلسطيني» وإنجي إسطنبولي، فضلاً عن تكريم الراقص المصري الراحل حسام عبد الحميد توفيق، ونورا بكرا من «فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية».
تستحضر بعض العروض المشاركة الإيقاعات الموسيقية لبعض الشعوب والدول، فيما يسأل بعضها عن قيمة الإحساس بالفضاء العام، وقيمته في أمكنة ذات خصوصية تامة. تبيّن بعض العروض مفردات حركية يومية، يقوم بها الإنسان، وتعكس مدى الروتين الذي يعيشه المرء. كل هذه المفاهيم الحديثة تأتي في سياق عروض تتّخذ من التعبير الجسماني والرقص المعاصر قالباً لها.
على البرنامج أكثر من عشرين عرضاً راقصاً، أبرزها: «الجنس والحب». إنّه عرض معاصر، يقوم ببنائه وتطويره حالياً الراقص التيواني جيانغ بينغ. يهدف العمل إلى مساعدة الناس على إعادة التفكير في الجنس، واستنباط الطاقة الجنسية وارتباطها بالاهتمام الحسّي. يرى بينغ الإيروتيكية كمصدر للتواصل، ويسعى لتفكيك الفكرة الضيقة للجنس وذخيرته والأجسام المقننة، باعتبار الجنس أفعل حوار، وطريقة للعيش والتجربة.
أما «متعذر تعليله» للراقصة اليونانية آنا أكابالي، فهو رحلة شخصية على طرق الأبوة المتعرجة. لا يتعيّن على المشاهد مواجهة الصور النمطية فحسب، بل مواجهة نفسه أيضاً، عبر الدخول في الأدوار التي يتوقّعها المجتمع منا، والطقوس اليومية، والعادات المجتمعية.
يستحضر الراقص الهندي هارشال فياس في «رافانا في عشرة أذهان» موسيقى الشعوب الهندية في قالب حديث. يستكشف الأداء الأفكارَ حول الإله رافانا، في سياق مسرحي سردي، كتابي وموسيقي. ويرمي إلى إظهار العقول العشرة لأحد آلهة الهند، وإسقاطها على الواقع الإنساني. يبدأ العرض بقرع الطبول بصوت عالٍ، يجذب الجمهور إلى المسرح. ثم يظهر المؤدّي ويبدأ قصته وهو يحكي عن رافانا، من خلال حركات الجسم، جنباً إلى جنب مع السرد الموسيقي. يسرّع فياس أداءه من خلال تمثيل المشاعر العشرة المختلفة من خلال الرقص، ليترك في النهاية الجمهور أمام نقطة تأمّل حول ما كان يدركه قبل الفعل والسرد، وما تغيّر في أفكارهم بعد قيامه بالأفعال والكلام عن السرديات.
وهناك أيضاً العرض اليوناني الراقص «مارغريتا تريكا». تستخدم المصمّمة التي يحمل العرض اسمها، ثنائيات الضعف والقوة، لخلق ثنائي قتال. يتشارك الراقصان كاندي كارا وكاترينا سبيروبولو الهدف نفسه، المتمثّل بتدمير الآخر. يتورّط الثنائي في معركة دائمة الوجود، ويواجهان كل الأفكار السخيفة والعقيمة. مصيرهما الاتجاه نحو لحظة هزيمتهما، التي تتصدع بمرور الوقت بشكل صاخب، تاركة ندبة على كل إنسان. ثم يأتي الصمت والسكون. يطرح العرض أسئلة على شاكلة: هل النصر للأقوياء؟ وهل التاريخ مكتوب من قبل المنتصر؟
يقول اسطنبولي إنّ نقل الفعاليات عبر تقنية البث المباشر، كسر كل الجدران بين الدول وبات الوصول لأي فنان، من أي دولة «سهلاً»، مشدّداً على اللامركزية الثقافية: «حوالى 35 دورة، من مهرجانات مختلفة، أعادت وضع صور على خارطة الإنتاج الثقافي والفني». واقع يسهم في تعويض غياب الدولة وتقصيرها لناحية نقل الفنون بأنواعها إلى الجميع دون استثناء.

«مهرجان لبنان المسرحي الدولي للرقص المعاصر»: بدءاً من اليوم ولغاية 26 تموز ــ «المسرح الوطني اللبناني المجاني» و«زوم».