باريس | وعادت الحياة على استحياء إلى خشبات المسارح في فرنسا. أوائل الغيث كان إعادةَ إحياءِ المونولوغ الدرامي «شقيقات» Sœurs، من تأليف وإخراج المسرحيّ وجدي معوّض، الخمسينيّ العالق بين ضفتَين: لبنان الحرب، مرتع طفولته، وفرنسا وكندا اللتين تشاطرتا سنوات مراهقته ونضوجه. لطالما كان معوّض متحفظاً إزاء نكء جراح الماضي والحفر عميقاً في خبايا الذاكرة. سنوات عديدة لزِمت قبل أن يشهد عام 2008 بثّ الرّوح في «وحيدون» (Seuls)، كأولى حلقات سلسلة سيرته العائلية. يومها، تناول خلفيّة شخصيته وثناياها، متطرقاً إلى حيثيات علاقته بوالده. عملٌ مسرحيٌّ بأداءٍ منفرد، كان منعطفاً في مسار معوض المؤلّف والمُخرج والممثل، وعلامةً فارقةً في سجلّه الذي طبعتْه سابقاً أعمالٌ مسرحية استُلهمت من الملاحم الإغريقية، فكانت التراجيديا سمتها الغالبة. وُلدت فكرة استتباع «وحيدون» من نقاشٍ مع الممثلة الكوميدية المخضرمة آنِك بيرجيرون، حين بيّنت لمعوّض الدور المحوري لشخصيّة الأخت في مسار الأسرة، في حين اقتصر الأمر على التعريج عليها صوتيّاً وحسب في «وحيدون». كثيرةٌ هي النقاط المشتركة بين بيرجيرون والشقيقة الكبرى لوجدي معوّض، نايلة، فهما متقاربتان عمراً، وكلتاهما الأكبر سنّاً بين الأبناء، أَوكلت لهما الأقدار مهمة العناية بأحد أبويهما المتقدمين في العمر. لكن هذه تبقى محض تفاصيل أمام التلاقي الجوهري بين الشخصيّتين: آنِك، المولودة لأبوين من المجتمع الفرانكفوني في مانيتوبا، وهي مقاطعةٌ كندية غرب أونتاريو التي تفصلها عن مقاطعة كيبيك، قد اختبرت بدورها الهجرة مع عائلتها في مرحلةٍ باكرةٍ من حياتها إلى كيبيك هرباً من الغزو البريطاني للغة والثقافة قبل الأرض.
كان التحدي إذاً الخوض في مقاربة السيرة العائلية من وجهة نظر الابنة الكبرى، الشقيقة، وإجراء تقاطعاتٍ مع صورتها بعيني الأخ الأصغر. ساعاتٌ ليست بقليلة انكبّت على إثرها بيرجيرون على تطوير أجزاءٍ من السيناريو وبناء شخصيتَي العمل استناداً إلى تجربة وواقع سيدتين ليستا بالضرورة امرأتين سيحفظهما التاريخ، لكنهما كافحتا وتكافحان بوجه أمواج الظروف لحجز حيّزٍ لأنفسهما في الحياة. فإن خانتهنّ الأقدار، حريٌّ بنا أن نفرد حيّزاً لقصتهما على خشبة المسرح. بذلك وُلدت عام 2015 بذرة العمل الذي أثراه معوّض بانطباعاته وأحاسيسه، ودمَغَه بالأسئلة الحاضرة دوماً في نتاجاته عن الأصول والهوية والانتماء.
كانت أوتاوا، أو «البيت الكبير» بلغة السكان الأصليين لأميركا الشمالية، المسرح الكبير للأحداث العاصفة للعمل، بينما كانت غرفةٌ في أحد فنادق أوتاوا المسرح الأصغر لها. أرغمت عاصفةٌ ثلجيةٌ جينيفيف بيرجيرون، المحامية اللامعة المختصّة في حل النزاعات الدوليّة الكبرى، أن تقضي الليلة في إحدى غرفه. عسيراً كان طريق عودتها من محاضرةٍ ألقتها أمام وسطاء دوليين مستقبليين حول الدور المحوري للغة في الوساطة. في الخارج أجواءٌ عاصفةٌ اعتاد عليها الكنديون، لكنّ الأمضى كان عاصفةً داخليةً اعترت جينيفيف التي نشدت الدفء باستماعها لأغنية «أنا محض أغنية» (Je ne suis qu’une chanson) للمغنية غينيت رينو، فما كان منها إلا أن استحضرت، من خلف مقود السيارة، سيلاً من مشاعرها المُسكَتَة وأيقظت حواسها المنسية، استعرضت عيوبها ونواقصها، لتستسلم أمام ثقل الفقد، حتى لتحار إن كان غياب المعالم عبر زجاج السيارة هو بفعل العاصفة الخارجية أو بفعل فيض الدموع التي تَرجمت عاصفتها الداخلية.
في حياةٍ مثالية، ستكفي لتعديل المزاج وغسل الإرهاق بضعُ ساعاتٍ من الراحة في غرفة فندقٍ صُمّمت لتعكس آخر صيحات الحداثة، وأُشبعت بالتقنيات التفاعلية الذكية، فانتفت معها الحاجة لأيّ تواصل مع موظفي خدمة الغرف. غرفةٌ بيضوية الشكل مفروشةٌ بقماشٍ يعود للقرن السادس عشر، تعمل جدرانها كشاشة عرض. في إطارٍ كوميديٍّ لطيف خفّف من وطأة آلام الماضي على المشاهدين، ولو مرحلياً، تتصارع بيرجيرون لفك شيفرات الغرفة التي تعمل عبر تقنيّة الأوامر الصوتية، لتتمكن من تشغيل الإنارة وصنابير المياه والتواصل مع البراد الناطق القادر تلقائياً على احتساب المشروبات والأطعمة التي يتم تناولها. تتقن بيرجيرون، كما كل الكنديين، الإنكليزية والفرنسية، هذا إن لم نذكر غيرَ ذلك من لغاتٍ بحُكم عملها، إلا أنّ في لا وعيها رفضاً صارماً لاستخدام اللغة الإنكليزية تعود جذوره إلى النزوح الداخلي لعائلتها رفضاً للاندماج الذي فرضته الإدارة البريطانية لمقاطعتها الأم في فترةٍ من الفترات.
اصطفت الكواكب في تلك الليلة، وتآمرت الأقدار كي تصاب بالأعطال من بين كل لغات الأرض تقنية الأوامر الصوتية بالفرنسية، اللغة الأم لبيرجيرون، تلت ذلك محادثةٌ هاتفيةٌ عنيفة مع والدتها ذات الطباع الخاصة التي يغلب عليها التذمّر المستمر. في حين أن والدتها كانت تتكلم الفرنسية طيلة المحادثة، فإنها كانت تعمد للانتقال إلى الإنكليزية متى علت نبرة النقاش وأخذت منحى التوبيخ. كان للأخطاء الناجمة عن ثنائية اللغة وتباين اللفظ في كندا حضورها تلك الليلة، إذ لم يكفّ نظام التحكّم الصوتي عن مناداة بيرجيرون مراراً وتكراراً بـ Burger-on. تحاول دونما جدوى أن تضبط المنبه على اللغة الفرنسية. «أرغب أن يتم إيقاظي باستخدام لغتي الأم... أهو طلبٌ بغاية الصعوبة؟!».
التطويع البسيط والذكي للتكنولوجيا أضفى بُعداً جمالياً وحداثياً على السينوغرافيا


قد يبدو كل موقفٍ من هذه المواقف، تافهاً أمام حالة الانهيار التام النفسي والعصبي التي أصابت بيرجيرون إثر ذلك، لكنّ ما حدث كان أشبه بالقطرة الأخيرة التي امتلأ معها الكوب، فترجمَتْهُ تدميراً تاماً لغرفة الفندق وما فيها، حتى باتت أقرب إلى ساحة اقتتالٍ مهجورة منها لمكانٍ كان مأهولاً في أي وقت قريب. يغدو الحضور في غضون دقائق أمام مشهديةٍ تتخطّى كونها فوضى مادية يتقنها وجدي معوض في أعماله جيداً، تنسلّ بيرجيرون على إثرها بين جسم السرير والفراش الذي يعلوه والذي سيغدو ملجأها حتى نهاية العرض.
في اليوم التالي، تُرسل إدارة الفندق بطلب خبيرة أضرار من شركة التأمين لإجراء جردٍ وتقييمٍ للخسائر في ما كان يطلق عليه يوماً اسم غرفة. تصل ليلى، المهاجرة من أصول لبنانية، بشعرٍ أشعث وملابس ثقيلة لا تشبه أناقة بيرجيرون في شيء، إلا أن ما جمعهما في ذاك الحيز الضيق المنهار كان أكثر مما فرقهما: على الطرف الآخر من الهاتف والدٌ منفيٌّ عن وطنه بفعل الحرب، دائم الشكوى وصعب الرضى، مسكونٌ بمخاوفه على ابنته مهما كبرت، كأنما لا يزالان تحت القصف أو خطر الخطف، والدٌ يحمل على كاهليه ـــ بحسب ليلى ـــ عبء «دولةٍ لم توجد أصلاً، ويُحمّلني عبء حربٍ لم يُحدّثني عنها قط».
تعثر ليلى أثناء عملية الجرد على الهاتف المحمول لبيرجيرون. الاتصالات لم تتوقف، تردُّ عليها تباعاً... هذه والدة آنِك، التي عجزت عبر السنين عن إنجاز حوارٍ هادئٍ مُجْدٍ مع فلذة كبدها، تنجح في إيصال رغباتها ووجهات نظرها إلى ليلى التي تَعِدُ بدورها بإيصالها إلى آنِك إن التقتها، وهذه مساعِدة آنِك التي أُوكلت إليها مهمة تقفّي أثر شقيقتها المتبناة التي تعود أصولها إلى سكان أميركا الأصليين، والتي ما إن استقرّت في كنف عائلة بيرجيرون وبدأت بالتكيّف والتآلف معها، تنتشلها شقيقتها البيولوجية، بدعوى أنْ «ليس لديها ما تفعله هنا».
على وقع «ساعات ساعات» للراحلة صباح تسترجع ليلى مأساة حياتها. هي ليست بواحدةٍ من تلك المآسي التي نقع عليها في الحكايات الملحمية، إلا أنها تجسيدٌ لمحنة التنازل ولحياةٍ يوميةٍ تطبعها التضحيات، وما يتولد عن ذلك من أزمات. تجسيدٌ لمصير إنسانةٍ عادية، تسعى بالرغم من الظروف وراء تعزيز وجودٍ لها على أنقاض أحلامها وخلق معنى حقيقي لوجودها. حين تُسأل ليلى عن اسم عائلتها، تجيب: «ليلى بنت وردة». هو اسم عائلةٍ نافرٍ لمن يمتلك الدراية بأسماء العائلات وأصولها، وسيخال العارف أن الاسم تونسيّ الأصل مثلاً أكثر منه لبنانياً، لكن يغدو ذلك تفصيلاً يسهل تبريره حين تسمع ليلى تقول: «أدركتُ بصعوبةٍ أني جُرّدتُ من حقي بأن أحلم، وأنني وُجدتُ لأحمل حزن فقدان أمي، وسوء طِباع والدي، وأُعبّد الطريق لإخوتي كأمٍّ بديلةٍ لهم».
بيرجيرون التي لم تكن لتعصى عليها الخلافات الدولية، عجزت عن إدراك السلام الداخلي. وبينما كانت المنابر مفتوحةً أمام بيرجيرون بحكم مهنتها، افتقرت ليلى لأي مساحةٍ للتعبير، كما لم تكن لدى أيٍّ منهما رفاهية وجود الأخت الكبرى المصغية القادرة على بث الطمأنينة لدى من حولها. لقد كان كلٌّ منهما مرتهناً لتلبية حاجات من حوله، دونما التفاتٍ من محيطهما لِكَمّ التعب والأحزان والتنازلات الذي أثقل كاهليهما. تشهد أنقاض الغرفة على لقاء روحين مهشّمتين مهمّشتين، تتبادلان الاعترافات، تحاول كلٌّ منهما تصويب ما تجذّر لدى الأُخرى من سوء فهمٍ لمحيطها بحُكمِ محدودية مجال رؤيتهما كلٌّ من منظوره، فإذا بنوعٍ من وحدة الحال ينشأ بينهما، يُترجم بعلاقةٍ أخويةٍ تُرسيها كل النقاط الجامعة بين هذين الكيانين.
تشرع ليلى بِكَيِّ فستان بيرجيرون الذي خلعَتْه قبل أن تخلد لمخبئها. يقول وجدي معوّض إنّه حين كان يشاهد أخته وهي تقوم بكَيّ كل أنواع الأنسجة التي تخصّ العائلة، ويراها تجهد في إزالة الطيات حتى غير المرئية، كان على يقينٍ أن ما تجهد نايلة على تحقيقه بأملٍ عبثيّ كان تسوية ثنايا وطيّات واقع أسْرتهم التي نالت منها المِحَن والحرب وأثقلها المنفى والصمت والفقد والغياب.
تنتهي المسرحيّة بضحكٍ طفوليٍّ يطول، في محاولةٍ لملء فجواتٍ شاغرة في كلتا الشخصيتين منذ سنوات الطفولة.
كما كان وجدي في مسرحية «وحيدون»، كانت آنِك بيرجيرون بتمكُّنها من أدائها المنفرد رافعةَ العمل المسرحي والوسيط الأنثوي الذي بان معه العنصر الثاني من عناصر السيرة العائلية لأسرة معوّض. ممثلةٌ واحدة جسّدت بدقة كبيرة ودونما عناء امرأتين، اختبأت كلٌّ منهما في الأخرى، حتى غدت واحدتهما صورةً مرآتيةً لقرينتها. يحسب لمعوّض أيضاً أنه اشتغل بعناية على بناء مفرداتٍ خاصة بكل شخصية تجنّباً لالتباساتٍ قد تنبع من تداخل طيفيهما في بعض المواضع. إن دلّ التباسٌ لطيفٌ كهذا على شيء، فإنما يدل على أن بإمكان ممثلٍّ واحد، بطاقةٍ لافتةٍ على خشبة العرض مع كرمٍ بالأداء، أن يتضاعف في عديدٍ من التجسيدات، بما أتاح لمعوّض اعتماد صيغة الجمع في عنوان المسرحية: «شقيقات» كما «وحيدون» سابقاً، وأكسب العمل طيفاً شمولياً أوسع يتخطى شخصَي نايلة وآنِك.
قد يعيب بعض رواد المسرح الكلاسيكي الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا، خاصةً لشاشات العرض، إذ كنا في «شقيقات» نستمرّ برؤية الجزء الداخلي للغرفة رغم انزلاق ألواحٍ كتيمةٍ حاجبةٍ للرؤية، إلا أنّ التطويع البسيط والذكي للتكنولوجيا ساعد على انتقالٍ انسيابيٍّ لعناصر العرض بين المرئي واللامرئي بلمساتٍ سينمائية، ما أضفى بُعداً جمالياً وحداثياً على سينوغرافيا كانت لتبدو ثقيلة بدون هذه المؤثرات، وأفسح مجالاً لشيء من التأمّل في خبايا شخوص العمل من مسافة أمان، كما كرّس معوّض المؤلف، المخرج، والمؤدي في بعض الأحيان، رقماً صعباً بين أقرانه من المسرحيين المعاصرين.
ستعقب «شقيقات» مسرحية «أم» نهاية 2021، لتُستتبَع في السنوات القادمة بـ «أب» و«أشقاء»، فتكتمل بذلك مشهدية سلسلة السيرة العائلية المستوحاة من أفراد عائلة معوض، ونستكشف معها ثنايا عائلةٍ بعيدةٍ قريبة، تخاطب بمعاناتها اليوم أكثر من أي يوم مضى، قلبَ كلّ أُسرةٍ نفَتْها الظروف والأقدار بعيداً عن أوطانها، وانتشلت كبارها وصغارها من بيئتهم وجذورهم ووضوح ذاكرتهم، وجرّدتهم في أشدّ لحظاتهم ضعفاً أو انفعالاً من نعمة الحديث بلغتهم الأم.