I ـ في شارع غورو – الجميزة: القيامة بعيدة«بول»، عند فوَّهة العنق الطويل، رمز الحياة، يخترق الطيف الجنائزي الجارف. وسط جادة جورج حداد، البوابة، فوهة العنق، أنيقة، جميلة جاذبة.
في زاويتها الجنوبية، شريط شائك يحدّد مسار الدخول إلى الشارع، شارع غورو – الجميزة. عناصر من قوى الأمن الداخلي يحرسون الأبنية المهجورة. نلتفُّ حول الشريط الشائك لنستعيد الرصيف. نسير وحدنا. الرصيف فارغ. لا مشاة. لا عابرون. كل واجهات المخازن مُخَلَّعة، مقفلة بما تيسر من ألواح خشبية عتيقة. وحده رتل السيارات العابرة لا ينقطع.
عبر الموت من هنا تاركاً بصماته تعّم الأمكنة. تتكرَّر بتكرار الأبنية في واجهتَي الشارع. تتلاصق بتلاصقها، تتباعد بتباعدها. تعانق السماء الهابطة فوق المباني المرتفعة. عبر الموت من هنا، تحكي بصماتُهُ قصَّة عبوره. حضورها طاغٍ في المباني الزجاجية العالية، وفي مجموعات المباني التراثية المتلاصقة، بحجرها الرملي العتيق، وبالأقواس الثلاثة، والشرفة الرخامية في محورها.
في الزمن العثماني عرفنا البيت ذي الأقواس الثلاثة والشرفة الرخامية البيضاء الناتئة

تغيب هذه البصمات، في الفجوات المتكررة. تعبرها، تتسلَّق الأدراج. تحطُّ في مبان مختبئة خائفة. تبعثر قرميد سقفها. تحوط المبنى، غلافاً، رداءً، لباساً.
يغيب حضور الناس. فالجدران محطَّمة، والسماء هابطة، ثقيلة، خائفة.
البوابة – فوَّهة العنق الطويل، جميلة، جاذبة. «بول»، وحديقته، يضيفان إلى الجمال المشهديّ معنى، وإلى الجاذبية، حضور الحياة.
«بول» هو الصفحة الأولى، من حكاية الفوهة – بوَّابة العنق الطويل، للشارع الممتد، شارع غورو – الجميزة.
الحديقة بدايةً ثم مبنى تراثي، من طابق أرضي وثلاثة طوابق علوية، مزيَّن، مرمَّم، نظيف. شرفاته الثلاثة المحورية، ناتئة، منتظمة.
«بول» في الطابق الأرضي. الطوابق الثلاثة فوقه، مهجورة. كل نوافذها والأقواس، مقفلة، تحجب الداخل. يلتف بول عميقاً داخل المبنى في الطابق الأرضي. حدوده نزل صغير، تشير واجهته، إلى كونه مجهَّزاً ، يعمل.
الحديقة أمام الواجهة، خضراء، وارفة مظلَّلة. الطاولات المربعة الصغيرة، موزعة في ظلال الأشجار. حول كل طاولة أربعة كراسي. الطاولات وكراسيها متعددة، بتعدّد الأشجار والظلال. الواجهة غربية، ومسار الشمس معروف، واتجاه الظلال أيضاً. فالطاولات ثابتة في تموضعها بتموضع الظلال، وبعددها أيضاً.
الطريق إلى البوابة الرئيسة متعرّج. تعبر بين الطاولات. تتمَّهل، لتطيل متعة النظر إلى كل ما يحوطك. يسرُّك وجود بعض الجالسين حول طاولة، في زاوية مختبئة. وتبتسم لنادل تصادفه، وقد اقتربت من البوابة الرئيسة.
أنت أمام البوَّابة الرئيسة البوَّابة مفتوحة. مُرحّبة. تخطو بضع خطوات إلى الداخل. ما زلت قريباً من البوابة. مجالات بول مفتوحة متواصلة، منظَّمة، مجزَّأة إلى مكوّنات مجاليَّة شبه معزولة دون فواصل.
على يمينك، بعد دخولك، مباشرة المحاسِبَة، خلف حاسوبها. يجلس على كرسي إلى جانبها، مراقب الحسابات. نظراته موزعة بين العمليَّات الجارية على الحاسوب، وصندوق النقد الذي لا يتعبُ، من تحريكه فتحاً وإغلاقاً.
المشهد أمامك شبه بانورامي. تنفلش الزوايا بالذين اختبأوا فيها، كأنها صفحة في كتاب فتحته. الصفحة مليئة بالمشاهد المصوَّرة. في الزواية هنا، شخصان حول الطاولة المربعة. وكرسيان فارغان. وهناك، في منتصف الجدار عند النافذة، طاولتان متباعدتان. حول كل طاولة أربعة أشخاص. وكراس فارغة في المكان. أما في موازاة الجدار على يسارك، فالطاولات متلاصقة. وعدد الجالسين حولها كثر.
بضع خطوات إلى الداخل، خطوتها. الكونتر الرئيس يواجهك. خلفه الشيف ومساعده. وعدد من السلال مملوءَة بمنتجات بول المتنوعة. في الزاوية خلف الكاونتر باب. تعرف من فتحه وإغلاقه المستمرَّين، أنه باب المطبخ. المطبخ والخدمات خلف الجدار، في المجالات الخلفية.
المجالات المنظَّمة، تفرض تنظيم الإنارة، بتكامل، وتناغم واضحين. فهي، أي الإنارة، غير مباشرة في فجوات السقف المعلق. أو في متدلّيات من السقف، متباعدة بانتظام. أو أنها مدروسة بعناية جمالية خاصة، أمام الواجهات الزجاجية الثلاث، التي احتضنتها التفافة بول في الواجهة الشمالية لشارع غورو – الجميزة، داخل العنق.
«بول» يشكّل دلالة واضحة على استمرار الحياة، في هذا المكان المحدد من الفوَّهة – البوابة. بوَّابة عنق شارع غورو – الجميزة الطويل. إنها إشارة لحياة قائمة بذاتها، ولذاتها. حياة لا علاقة لها بالشارع الطويل الممتد خلفها شرقاً.
لا يكترث «بول» بالشارع خلفه. ميت هو؟ مهجور؟ يرمم؟ القيامة بعيدة؟! كل ما يستجد، في الشارع الطويل الممتد خلفه، شرقاً، لا يعنيه. لا يكترث به. فحياته، أو بشكل أدق وجوده، مرتبط بالحياة الآتية إليه دفقاً، من الغرب أمامه.
الغرب أمامه، بكل الحياة التي فيه، هي مصدر صموده، وركيزة استمراره، عند بوابة شارع، لا أفق واضحاً له، حتى الآن.
«بول» إشارة الحياة. بول التأرجح المستمر الجميل، بول هذا لا تأثير له في صيروروة شارع غورو – الجميزة.

II ـــ بعض الدكاكين، المبعثرة الخفرة الفارغة، اختراق آخر، للطيف الجنائزي المهيمن.
دكَّان الخضار والفاكهة الوحيد، يتوسَّط الواجهة الجنوبية لشارع غورو - الجميزة. زرنا الأماكن مراراً. وكان صاحب الدكَّان يجلس في العتمة، خلف طاولته القابعة في عمق الدكَّان. ينظر من مقعده، إلى البضاعة المعروضة على الرصيف. تفَّاح وبرتقال، وقليل من الموز. نعنع وبقدونس، وبصل أخضر وملفوف، وبعض الإضافات المكمّلة لصحن التبولة التقليدي.
يترك كرسيه. يخرج إلى الرصيف. ينظر إلى البضاعة الباقية. يعيد تنظيمها. ينتقي حبَّات التفَّاح ليضعها في الواجهة. يُظهر ربطات النعنع الخضراء اليانعة. ينظر برضى إلى ناتج اهتمامه، ويعود إلى كرسيه.
تغيَّر المشهد في الزيارة الأخيرة. قفز بسرعة ووقف في باب الدكان.
امرأتان، أو سيدتان إذا أردتم، كانتا هناك تتفحَّصان السلال المملوءَة. حبات التفاحة كبيرة مغرية. ربطات البقدونس ذابلة. أقراط الموز بحالة جيدة. اشترت واحدة منهما، موزاً وتفاحاً. واكتفت الثانية بحبة ملفوف، وربطة من البصل الأخضر. دفعتا. وغادرتا. إحداهن ابتعدت على الرصيف شرقاً. والثانية انتقلت إلى الرصيف المقابل.
عاد بائع الخضار إلى مقعده مبتسماً. فتح جاروراً عتيقاً. عدَّ المال الذي قبضه. وضعه في الجارور وأقفله. نظر إلى واجهة دكانه. قال بصوت مرتفع، الطقس جميل اليوم. الشمس التي تأتي من خلفي، أرى انعكاسها في الواجهات الزجاجية، المصطفة خلف الرصيف المقابل. أعمال الترميم مستمرَّة في واجهة المبنى الزجاجي. وهو كالواجهات التي تحاذيه، يعكس ضوء الشمس إلى عمق دكَّاني. بئس التيار الكهربائي المقطوع باستمرار. ها هي شمس السماء البعيدة تضيء الأمكنة. وهناك، قبل هياكل ستائر الترميم الخضراء، عابر يأتي بخطى مسرعة. ربما أتى بعده عابر آخر، قال.
في الزمن العثماني عرفنا البيت ذي الأقواس الثلاثة والشرفة الرخامية البيضاء الناتئة


إلى الشرق، بعد عدة أبواب مخلَّعة لدكاكين مهجورة، دكَّان الألبان والأجبان، الذي لفتنا بإصرارٍ في زيارتنا السابقة. الدكان على حاله، ضيق عميق.
إلى يسارك تتابع البرَّادات. الألبان، والأجبان، فيها ما هو محلي. وبعضها مستورد. وفي أوعية زجاجية واسعة، كتل كروية من لبنة الماعز، تسبح في زيت الزيتون الذهبي اللون. ثم علب فيها أقراص من الشنكليش البلدي. تليها اسطوانات من جبنة القشقوان المستورد.
على يمينك، في موازاة الجدار، طاولة صاحب الدكان المتواضعة، وخلفها كرسيٌّ خشبيٌّ عتيق. حالة الدكان هنا، تختلف كثيراً عن حالة دكان الخضار الذي سبق وتوقفنا عنده طويلاً. العتمة سيدة المكان. تكاد لا ترى البضاعة المعروضة بانتظام أمامك. صاحب الدكان ملَّ من الجلوس وحيداً. ترك كرسيَّه الخشبي، وخرج إلى الرصيف. مناخ الرصيف مشابه لمناخ الدكَّان. يكاد الرصيفُ أن يكون معتماً، وهو، أي صاحب الدكَّان، وحده على الرصيف، كما في الدكَّان. وحده مع الطيف الجنائزي المخيّم.
في الدكان، يجلس وحيداً ينتظر من يأتي لزيارةٍ. لسؤالٍ عن بضاعةٍ غير موجودة عنده. لحامل أجبان محليَّة يريد أن يبيعها. لعابر طريق ضلَّ طريقه وسط الخراب المعَّمم. عابرٌ، يسأل إذا كان في الجوار حلاقٌ. عابرٌ يسأله، هل درج مار نقولا بعيد من هنا!؟ وكلية الثلاثة الأقمار أين موقعها بالتحديد.
يعتقد، أن الدكَّان يجذب الناس. يخرج ثانية إلى الرصيف. ينظر إلى الطوابق العليا، في المباني التي تحوط دكانه. فيتأكَّد مجدَّداً أنها فارغة، مهجورة. أبوابها في الطابق الأرضي، مقفلة بإحكام مبالغ. يتأكد مرة بعد أخرى، أن لا ناس في الأمكنة، فمن أين سيأتي الناس إلى دكانه!؟ يتذكَّر أنه رأى شاباً يدخل إلى بقايا مقهى، في الواجهة المقابلة. ثم رآه يخرج من بقايا المقهى مسرعاً. قفز إلى الرصيف. ناداه بصوت عالٍ، ليهديه قالباً من الجبن البلدي الطازج. لم يكترث الشاب العابر بالصدفة. وتابع سيره. لا يصلح الشارع المهجور إلا للعبور. للعبور فقط.
أيقن صاحب دكان الأجبان والألبان، أن دكَّانه وسط الدمار، هو مظهر حياة أكيد. وقد يشتري منه عابر، في يوم ما، شيئاً من بضاعته. لكن مظهر الحياة هذا، لا يستطيع أن يبعث الحياة في شارع مهجور.
أيقن، أن الاستنتاج المعاكس هو الصحيح، لا حياة فعلية في الدكان، إلا إذا هُزِمَ الهجرُ، وأعاد الناس العائدون، الحياة إلى الشارع. الدكَّان في شارع مهجور، هو دلالة حياة للدكان وحده، بذاته ولذاته.
في الواجهة الجنوبية لشارع غورو – الجميزة، وبعيداً عن دكَّان الألبان والأجبان، وبعد العشرات من أبواب الدكاكين والمخازن المخلَّعة والمقفلة بما تيسَّر، بعد امتدادات طويلة، للمجالات المهجورة، في الطابق الأرضي وفي الطوابق العلوية، وقد ألفناها عبر الزيارات المتكررة،
دكان بائع الأدوات الكهربائية.
الطقس ربيعي دافئ، في زيارتنا الأخيرة. الرصيف فارغ، واسعٌ، متاح لفضولي يريد القراءة الجادَّة في التفاصيل. نور الشمس يطغى، يضيء المجالات في عمق داخلها. نرى بوضوح فراغ الطوابق. يدلُّ على ذلك، استمرار إقفال كل الفتحات في الواجهات، بالألواح الخشبية، يغطّيها ستائر من النايلون الأبيض السميك. وقد ألفناها أيضاً، لحناً جنائزياً يعزف بموازاة امتداد الأرصفة.
إلى دكَّان بائع الأدوات الكهربائية توجَّهنا، وكان قد لفتنا في زيارة سابقة. استبدل زجاج واجهته. طلى باللون الأبيض، جانبي باب الدكان، وقد أعاد فتحه.

البرج الحديث يقطع تواصل النسيج التاريخي المتجانس

قبله، سلاسل حديدية غليظة، تقفل البوابة الرئيسة للمبنى. فكلُّ الطوابق العلوية، تقذف سواد مجالاتها الداخلية إلى الشارع، عبر الفتحات التي لم يتسنَّ لأصحابها إقفالها.
وبعده، الألواح الخشبية المألوفة، تسدُّ بعض الفتحات المخلَّعة. وفي بعضها الآخر، تُرِكت مجالات الدكاكين والمؤسسات، مفتوحة مشرَّعة. بعض التجهيزات بقيت في أمكنتها، فتجمعت حولها بقايا السقف الذي كان معلَّقاً، والمخلَّفات، والأوساخ، وبقايا الزجاج المقتلع المحَّطم.
الباب في منتصف الواجهة. قبالته، مجال الدكان فارغ. الأدوات الكهربائية رُتّبت على الجانبين بجوار الجدارين. والصغيرة، زركت على رفوف معلَّقة على الجدران.
تنير الدكَّان متدلّيات متعدّدة، معلقة في السقف. كل الأدوات المعروضة لونها أحمر لافت.
مكتب صاحب الدكان معدني، والكرسي أيضاً. وهو مغلَّف بجلد اصطناعي أسود. لا يجلس صاحب الدكان قبالة الباب، في محور الدكان، لصيق الجدار الحدود. فقد وضع مكتبه في الزاوية الداخلية اليُمنى، وجلس وراءه.
وقفنا في منتصف الرصيف، في محور باب الدكان. استمر وقوفنا هناك دقائق عدَّة. لم يكترث لوقوفنا قبالته. فلا يدل مظهرنا، أننا من العاملين في المجالات الكهربائية الثقيلة. سرنا باتجاه الشرق مسافة تقارب الكيلومترين. انتقلنا إلى الرصيف المقابل. رجعنا. ووقفنا قبالة باب الدكان. بائع الكعك مرَّ من هناك. اشترينا كعكة، مع قطعة من جبنة بيقون. جلسنا على درج نأكل الكعكة، ونتابع عملنا. لا بل نستمر في بحثنا، عن معنى وجود دكان، للأدوات الكهربائية، يفتح بابه وحيداً وسط الدمار الذي يحوطه. ويداوم، جالساً داخل الدكان؟ وحيداً ضجراً منتظراً!
ساعة كاملة، أمضيناها نحوم حول الدكان. نسير ذهاباً وإياباً، في المجالات المتروكة لمصيرها. لم يترك صاحب الدكان الكرسي الذي يجلس عليه. ولم يدخل مشترٍ واحد إلى الدكان.
إلا أن الدكان مجال مضاء، وسط العتمة. فيه رجل ينتظر، وسط الهجر المعَّمم دون تأفُّف أو ملل. ونحن العابرون، توقَّفنا أمام الدكَّان الذي أثار فضولنا. نجح صاحب الدكان، بطرده شبح الموت من المكان حيث يوجد. نجح في بعث الحياة فيه. إن الدكان بذرة حياة. لا تنبت في أرض قاحلة. هي بحاجة إلى ما يحيي، إلى خصوبة القيامة. وما يحيي هو غير موجود. وخصوبة الأرض المطلوبة، لا تنبت زرعاً في تربةٍ قاحلة. خصوبة القيامة لا تزال بعيدة... بعيدة.

III ــ في شارع غورو – الجميزة، عمارة الزمن العثماني، وعمارة الزمن الكولونيالي.
مشهد مرئي جاذب، تقطع سحره، عمارة العولمة الزجاجية الرائجة.
بيروت المتمدّدة خارج أسوارها المهدّمة، وعلى جانبي طريق طرابلس، في شارع غورو – الجميزة.
ثلاثة عقود ونيف، بعد حملة إبراهيم باشا، تُظهر خريطة جوليوس لويتفد (1876)، تمدُّد مدينة بيروت على جانبي طريق طرابلس. تمدَّد كثيف شرقي مجال البرج الفارغ، (ساحة البرج لاحقاً). يبدو التمدد بنياناً متراصّاً على جانبَي الطريق، القريب من المجال الساحة. ثم نراه مشتتاً مبعثراً، كلما ابتعدنا نحو الشرق.
إنها البداية، أو بشكل أدق، أحد مكوّنات البداية، التي أدَّت إلى تكوّن بيروت اليوم، بيروت الكبرى التي نعرفها، والممتَّدة من نهر الكلب شمالاً، حتى ملتقى النهرين جنوباً.
بيروت، التي لم تكتفِ بالبقاء داخل حدود موقعها الطبيعي. فردمت البحر في أكثر من مكان، وتسلقت كل التلال التي تحدُّها شرقاً. ولم تنجُ السماء من تعدّيات البنيان في بيروت المتضخّمة، فازداد ارتفاع المباني فيها. تبع ذلك، قانون البناء المعمول به راهناً ومراسيمه التطبيقية، الصادران في عام 2007. ينفخ القانون معدّل الاستثمار السطحي، وعامل الاستثمار العام. ويعدّل خطوط الغلاف دافعاً المباني إلى مزيد من الارتفاع. حدُّه العادي الأقصى خمسون متراً. مشترطاً لتخطّي الخمسين متراً ارتفاعاً، أن تكون مساحة العقار، أربعة أضعاف الحد الأدنى للإفراز. فيكفي في المناطق الارتفاقية في قلب بيروت، يكفي أن تكون مساحة عقارك ألف متر مربع، لتبني فيه برجاً يخترق السماء بارتفاع يفوق المئة متر.
بقيت الصيدلية ومع صورة بداية اسمها

يصنع القانون المذكور، المشهد المبني في بيروت الكبرى. غابة موحشة من الأبراج، مزروعة في كل الأمكنة. تظلّل مجمل النسيج المبني. تقمع الطرقات. تلوّث البيئة. تحجب النظر. فلا ترى من شباكك إلا شبابيك البرج المقابل. تزيد من كثافة السكان، ومن حاويات النفايات المتراصة على جانبي الطرق والزواريب. كما تحوّل الطرقات إلى مواقف للسيارت، بحيث يضيق مسار العبور، بين السيارات المصطفَّة على جانبي الطريق.
يتراكم النسيج المديني في بيروت، وقد بني في أزمان متعددة. وللنسيج المبني على جانبي شارع غورو – الجميزة، أزمانه. وله خصائصه، ناتج تتابع أزمان البنيان.
زمنان رئيسان، للعمارة في الواجهة الجنوبية للشارع،
- الزمن العثماني (1832 – 1918)
- والزمن الكولونيالي (1920 – 1946)
في الزمن العثماني عرفنا البيت ذي الأقواس الثلاثة والشرفة الرخامية البيضاء الناتئة. وظهر هذا البيت، في الواجهة الجنوبية لشارع غورو – الجميزة.
تراث حي بني بالحجر الرملي العتيق، وتتابع مبانٍ بارتفاعات مختلفة. أرضي مع علوي واحد... إلى الأرضي مع ثلاثة طوابق علوية.
مجموعات تتابعت، جاورتها غالباً مجموعات الزمن الكولونيالي. وقد استوحت في لغتها المعمارية، الكثير من مفردات العمارة التراثية التي جاورتها. ومن هذا التجانس والتناغم، صُنع المشهد المعماري الساحر في واجهة شارع غورو – الجميزة الجنوبية. وقد قطعت سحره مرَّات ثلاث، أبراج العولمة الزجاجية الرائجة، ومجموعات وقحة، من العمارة الحديثة المرتفعة، من طابق أرضي إلى سبعة طوابق.
واستوعب المشهد المرئي الساحر، عدداً من عمارات الحداثة الأولى في آخره، والتي امتزجت من حيث كتلها وارتفاعها بالنسيج القائم، فبدت رغم حداثتها، وكأنها جزء منه.
* معمار لبناني