كيف نتحدث عن غسان كنفاني (عكا 9 نيسان/ أبريل 1936 - بيروت 8 تموز/ يوليو 1972) الذي بتوصيف الروائي يحيى يخلف «أحبه منا الكبار وكبر على محبته الصغار»؟ غسان الذي كان قلمه بمثابة بركان ثائر، لم ولن يهدأ يوماً حتى بعد أن انفجر الموت بين أشلائه.. استُشهِد غسان، ولم يمت.. فهو الباقي فينا ـ الباقي في صيرورة الشعب الفلسطيني الذي أعاد غسان تشكيله على مستويات الذات والشخصية، الوعي والذاكرة، الحق والحقوق، التاريخ والرواية والقضية، في هندسة الروح والمعاني والأزمنة من العذاب والخيبة والانكسار والهزيمة، إلى الجمال والذائفة والثقة والقوة والقدرة والوعد والثورة
(عن حساب zayane ghali على تويتر)

رمز الانتماء الحقيقي لفلسطين
وهذا الانتماء كما يقول الكاتب محمد فرحات هو «سر» غسان. وهنا نستذكر ما قال محمود درويش في رثاء غسان: «الوطن فيكَ حقيقي وشفاف، وابتكارٌ لأنهار منحوتة مياهها من دماءٍ مهاجرة. خريرُها دائماً محترق، يتمازج فيها ظلّ الزيتون الراحلِ بين الذاكرةِ والتراب. لو وضعوك في الجنة أو جهنم، لأشغلتَ سكانَهما بقضية فلسطين». أعطى غسان قلمه وريشته وفكره وعمره وحياته لشعبه وقضيته العادلة. حين نتحدث عن أي أديب أو مفكر، نستعمل في الحديث أو الكتابة اسمه الأخير، فنقول درويش عن محمود درويش، أو بسيسو عن معين بسيسو، أو سعيد عن ادوارد سعيد.. اما غسان كنفاني، فنقول أو نكتب: غسان وكأننا نعرفه أو عاشرناه أو رأيناه أو استمعنا إليه شخصياً. والسر هو فعلاً انتماء غسان الحقيقي لفلسطين، أرضاً وشعباً وقضية، بحيث لا يتحدث اثنان عن فلسطين إلا وكان غسان ثالثهما. غسان، رفع الكلفة بينه وبين الجماهير؛ تماهى معهم في المخيمات والمتاريس، عاش حياتهم، واستمع لقصصهم، وعايش قضاياهم اليومية، إخفاقاتهم وبطولاتهم، ونقلهم إلى صفحات الإبداع، في القصة القصيرة والرواية والمسرحية، وفي عمله اليومي في الصحافة. أوجد لهم حضوراً في المشهد العربي، وأصر على تواجدِهم وأوصلهم إلى عمقِ الأخلاقيات العالمية والثقافية. احتفظ غسان بعفويتِه واتّسمت نصوصه بعمقها الوجداني ولم تكن مبنية على الوعظ والبيان والخطاب السياسي، بل تتسم بحفز الخيال وطرح الأسئلة الصعبة لجسر الهوة ما بين اليومي والسياسي، وما بين الأدب والسياسة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف نظر غسان إلى مفهوم الانتماء: هل الانتماء راسخ في الرابطة البيولوجية للعائلة والقبيلة، أو في الرابطة العاطفية/ الأيدولوجية لفئة أو مؤسسة أو فكرة أو مذهب أو معتقد، أم في جذور الجغرافيا أو التاريخ أو البيئة. في لحظة التماس مع الاستعمار الصهيوني الإحلالي، والمواجهة مع خلدون الذي صار دوف في رواية «عائد إلى حيفا»، يتجسّد ويتهيكل وعي البطل سعيد بشكل مختلف، ونحو توجيهه إلى فكرة الفاعلية، Agency. ينخرط سعيد في عملية نقد لسؤال الهوية والجغرافيا: يسأل صفية: «ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟». كان سعيد قد حاول إقناع صفية بالخروج من بيتهما الحيفاوي في إقرار بالهزيمة: «لنخرج من هنا ولنعُد إلى الماضي. انتهى الأمر». بعد المواجهة، ينقض سعيد مجدداً على سؤال الهوية والجغرافيا، ويطرح استباقياً سؤال ميشيل فوكو: «انطلاقاً من أي أساس سوف أعثر على هويتي؟». يرفض سعيد مبدأ الهوية القائم على حقيقة بيولوجية تمكّن الذات من إدراك نفسها وفهمها بواسطتها: يقول سعيد لدوف: «إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم». يفتش سعيد عن حقيقة فلسطين في واقعه الحاضر، فلا يجدها في البيولوجيا، ولا في تذاكر الهوية وجوازات السفر، ولا في الذكريات الماضية، ولا في النوستالجيا لكتالوغ الأشياء التي تركها في البيت، ولا في نحيب صفية على ولدها خلدون، ففلسطين «هي أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم». ينتقل سعيد من سؤال الماهية إلى الكيفية: «الوطن هو ألا يحدث ذلك كله».
قوربت أعماله من الزاوية السياسية، ولم تنل حقها من الزاوية الفلسفية والإبداعية


هنا يحول سعيد سؤال الهوية والجغرافيا إلى منظومة القضية (الإنسان قضية)، والتي هي متصلة بممارسات في سياق تاريخي موجه بعمل السلطة في الجسد الاجتماعي بصورة إنتاجية عبر عملية التذويت، التي يجسدها دوف: «أليس الإنسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويوماً وراء يوم وسنة وراء سنة؟»، كما بإعادة حوكمة الذات، ضمن مشروع تتحول فيه الذات إلى ذات فاعلة وقادرة على أن تُخضع التاريخ للتغير والتحول، وقلب موازين القوة فيه، وتعبيد الطريق لاقتصاد جديد لعلاقات المعرفة والسلطة ليس على مستوى الهوية والذاكرة والتجربة الفردية والجمعية وحسب، بل أيضاً في صلب الجغرافيا بالمعنى الجيوسياسي، والتي يجسدها ابنه خالد الفدائي: «أفتش عن فلسطين الحقيقية... ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية، ولا الصورة، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها... عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله». ومن هنا يتبين أن الانتماء بمفهوم غسان هو إعادة موضعة الذات الفلسطينية في التاريخ، وحماية الهوية الفلسطينية التي تشظّت بعد هزيمة النكبة واللجوء والنكسة بهدف تفحّص إمكانيات حلها في واقع المعاناة المعاش عبر مسلك الثورة والتحرير.

رمز الضربات الاستباقية
في مقاله عن التطبيع في رواية «عائد إلى حيفا»، يوظف نصار إبراهيم مصطلح «الضربة الاستباقية» لما اعتدنا أن نصفه باستشراف أو نبوءة غسان. وهذا المصطلح مهمّ جداً لأنه على المستوى المفاهيمي يشير إلى قدرة أدب غسان على قيادة الحبكة والحوار بوعي تفكيكيّ عميق، يصطاد فيه العلاقة بين الخاص والعام، الواقع مع الماضي، ليجعل من الحبكة/ الحوار منصّة لاستقراء التجربة والتاريخ بهدف تبيان عمق الصراع، مفهومه ومستقبله في بنيان معرفي للتاريخ، للذات وللآخر، وفهم السياسة ببعدها الثقافي ومداها الفكري، وملاحقة البنية الثقافية بمضامينها الفكرية والسياسية والاجتماعية، والكشف عن أوهامها بلا رحمة، وهز منطلقاتها من جذورها. ولهذا أدب غسان هو أدب عميق ومركّب، يضع الرؤية فوق الرأي، والتجديد فوق التقليد، والنقد بدل النقل، يتذكر سابقه ويحلم بقادمه، يتجاوز الآنية ويخترق إلى ما هو الآن راهناً وحيوي في عملية وعي ونقد وبناء وتعميق للمشروع الثقافي الوطني الفلسطيني المقاوم. ضربات غسان الاستباقية هي ما تحصّن الوعي الفلسطيني بما يتجاوز الحالة العاطفية الانفعالية والتوظيف المباشر نحو فاعلية ثقافية عميقة؛ فغسان يطرح من خلال الأدب أسئلة كبيرة وعميقة تؤسّس لرؤية ثورية تجدد وتؤصّل الصراع وأدوات فعل جديدة قادرة على الابتكار. إلا أنه وللأسف الشديد، هناك إساءة في قراءة أعمال غسان إذ قُدّمت لدى النقاد ولدى الشريحة الأكبر من القرّاء بوصفها أعمال المناضل السياسي فقط، وبالتالي تمت قراءتها من الزاوية السياسية المحضة، وتم الإجحاف بها من الزاوية الفلسفية والإبداعية. طبعاً هذه ليست مطالبة بقراءة أعمال غسان من الناحية الجمالية فقط أو الفلسفية المحض، فهذا أيضاً قصور في استيعاب والتعمق وإدراك ثورية أدب غسان.

رمز الإبداع الثوري
يُعتبر غسان رائداً للرواية الفلسطينية، أسس فيها عناصر فنية عالية، أضاءت دروب ومسارات أجيال من الروائيين الفلسطينيين. شكلت رواية «رجال في الشمس»، التي كتبها في ١٩٦٢ وصدرت عام ١٩٦٣، علامة فاصلة في الأدب الفلسطيني والعربي، وقفزة نوعية في الشكل والمحتوى، بحيث يمكن الحديث عن طور ما قبل «رجال في الشمس» وما بعد «رجال في الشمس». وهذه رواية قصيرة عن مجموعة لشخصيات بطولية سلبية، أبو قيس ومروان وأسعد، الذين يجبرهم اقتلاعهم من منازلهم على السعي للعمل كعمّال متجولين، فيعقدون صفقة مع سائق شاحنة (المخصي أبو الخيزران)، الذي يتعهد بتهريبهم من العراق إلى الكويت في شاحنة نقل فارغة يموتون فيها بسبب الاختناق. الرواية مكتوبة بسردية على غرار الحلم، وتشبه هلوسات يمكن رؤيتها من خلال السراب. مع هذا، يحقّق فيها غسان حبكة متماسكة وسهلة القراءة رغم استخدامه تقنيات تجريبية جريئة. أبو قيس يخلط بين الصحراء في العراق وبين أرضه المفقودة في فلسطين، حواسُه موجودة في عالمٍ ماضٍ، وكلّما أعاده صوت قاسٍ إلى الحاضر، يسوقه الحنين إلى الغربة واليأس والتحسر والندب. أما مروان، فيهرب من الواقع إلى خداع الذات والإلهاء بحلم مأمول ودائماً مؤجل بـ «عندما تتوفر النقود الكافية» كأنها ستهطل عليه من السماء أو سيقطفها من على شجر مال الكويت. فيما أسعد تخونه واقعيته وبراغماتيته، وترهق قواه، وتسير به باتجاه التفاوض على الرغم من معرفته في النهاية بموتهم الوشيك: يعرف أن الصحراء في كل مكان، ولكنه لا يريد رؤيتها. شخصيات الرواية غير مؤَسطرة ومجردة من كل الرثائية والتراجيدية والرومانتيكية والميلودرامية التي وسمت الأدب العربي في مرحلة ما قبل الستينيات، لتكون رواية «رجال في الشمس» أقرب إلى الرواية العبثية لألبير كامو أو الرواية الكابوسية لفرانز كافكا. تتقاطع رواية «رجال في الشمس» مع الرواية العبثية من ناحية تكثيف النكبة ومأساتها، وحالة الفقر والضياع والانسحاق الإنساني للفلسطيني اللاجئ، والواقع الديستوبي المرعب الذي يرزح تحته أبطال الرواية السلبيون في عجزهم عن الفعل، ما أدّى بغسان إلى أن يحكم على الهاربين الثلاثة بالموت في الخزان، كما يحكم كامو على مورسو، بطل رواية «الغريب»، بالإعدام. وإذا كان كامو قد أعلن مارسو كشهيد الجريمة الوجودية، التي تحكمها لاعقلانية الأشياء والأحداث وتكتنفها العبثية واللامعنى، فإن غسان يضع القارئ في مواجهة السؤال العنيف: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟». وبهذا يتقدم غسان خطوات عن رواية كامو العبثية في تثويره للروابط بين الهم القومي والهم الاجتماعي السياسي، ويصدم القارئ، ويجبره على إعادة النظر في الماضي والحاضر والمستقبل، في السلبية والخضوع وعدم إرادة النضال، ويشدد على محصلة فلسفية/ سياسية/ اجتماعية في ضرورة أن يأخذ الإنسان مصيره بيديه، وأن يخوض صراعاً حياً ونابضاً يواجه فيه ويتحدى ويتمرد على كل ما يدعو إلى الموت في قواعد الحياة، ويشدد من خلالها على ضرورة أن يأخذ الإنسان مصيره بيديه، ويثير أسئلة عن اليوتوبيا والمدينة الفاضلة على هذه الأرض، وهل تستحق منا أن نشحن أنفسنا بطاقة ورغبة وحلم بتغيير الحاضر، أم هل باتت خيالاً فلسفياً بعيد المنال؟


وقفة مع مسرحية «الباب»، وهي التجربة الأولى لغسان في مجال المسرح والمستوحاة من أسطورة إرم وعاد، وتم إنتاجها في ١٩٦٤ وكتبها غسان في الوقت نفسه الذي كتب فيه «رجال في الشمس». أبطال المسرحية هم عاد، وشداد ابن عاد، ومرثد ابن شداد. عاد يرفض الخضوع والخنوع لإله قبيلته هبا، وقال: «الموت أفضل من ذله»، فمات في سبيل الحرية والكرامة. وشداد ينتهي من بناء جنة إرم الأرضية ويخرج في طريقه إليها رغم أن الكاهن قد أخرج فتوى من بين أسنان هبا الحجرية تتنبأ أنه إذا خرج شداد إلى إرم فسيلاقي حتفه في الطريق. ورغم هذه الفتوى، يواصل شداد مقاومة هبا، فيقول لأمه: «لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو اقتلع من السماء جنته أو أموت أو نموت معاً». يخرج وشداد إلى إرم فيلاقي مصيره في الطريق، إلا أن شداد يصرّ على أن الموت لم يأتِه بل هو الذي جاء الموت، ولم ينتحر بل صارع الموت. وحتى في مرحلة ما بعد الموت، لا يرضى شداد أن يخضع لهبا، فيشير إلى الباب، الذي يرمز إلى السجن، والقهر، والمقاومة والتمرد ضد القيود والاستعمار، وحلم العودة إلى ارم والحرية والعدالة، ويقول: «سوف أنهد على هذا الباب حتى أحطمه أو يحطمني... ولسوف ينهدون هم عليه من الخارج... ولسوف نجعله يشف بين أكتافنا حتى يذوب!». قبل أن تسدل ستارة المسرح، نجد شداد يرفس بعنف كرة كبيرة من المطاط يقترح عليه هبا أن يواظب على قذفها إلى الحائط وترتد إليه في عذاب أبدي، وكأنها صخرة سيزيف. وفي هذا الفصل تبلغ المقاومة أوجها، فشداد رغم موته لا يرضى أن يخضع لهبا، ولا يريد أن يخضع أولاده، ويتمنى أن تستمر المقاومة عبر الأجيال القادمة.
يتسلم مرثد منصب أبيه عاد. وهنا تبلغ المسرحية نهايتها، لكنها تترك خلفها دلالات على استمرار المقاومة حتى الوصول إلى الحرية نهائياً، فنجد أن مرثد وجدته اللذين كانا يؤمنان بهبا، لم يعودا يؤمنان به، ولا بجنته. والجدة هنا تأتي بفكرة جديدة، فتقول: «إنني أشهد البداية دائماً، وأعيش لأشهد النهاية.. ودائماً ينتصر هبا، ودائما تنهزمون.. ولكنني بدأت أفكر الآن بشكل جديد… إنكم تخسرون دائما لأنكم... تعطون هبا بملء إرادتكم حياته وقوته وسلطانه، وتحسبون أن ذلك جدير بإعطائكم فرصة بناء جناتكم على الأرض... دون أن تعرفوا بأنكم إنما تحكمون على هذه الجنات بالدمار منذ البدء... وها أنت تبدأ من حيث بدأ شداد تماماً... من المعبد الذي يتربع هبا فوقه!». الجدة تعي وتسرب العبرة الثورية الجبارة أن المقاومة التي تبدأ بالاعتراف بهبا لن تفضي إلا إلى الهزيمة، فالمقاومة المنتصرة يجب أن تبدأ برفض إطاعة هبا والاعتراف بألوهيته. هذا الوعي الثوري والنقد الجذري والجدلي، هو شرط تمكين مرثد للأخذ بمعطيات الصراع وإدراك جذوره من أجل استمرارية المقاومة من خلال الأجيال المتعاقبة.
هذا الوعي الثوري والنقد الجذري والجدلي هو بالذات ما مكّن غسان من أن يواجه نكسة الـ ٦٧ التي رسخت نكبة الـ ٤٨، وأن يرفس كرَة هبا وزمناً فلسطينياً كاد ينتفي فيه الأمل، وأن يحطم باب الهزيمة الموصد ويفتحه على عالم التفاؤل الثوري والذي رسم فيه «الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق». يوصد غسان الباب على رواياته ما بعد النكبة التي لها طعم الهم، والإحباط والهزيمة المرة (كما في أرض البرتقال الحزين، رجال في الشمس، عالم ليس لنا)، ويتّجه نحو روايات وقصص التحدي والتمرد وبدايات العمل الثوري، والطعم اليومي للمقاومة، نموذج البطولة المستمرة في عن الرجال والبنادق، وحقيقة أن الجماهير الفلسطينية الكادحة واللاجئة في المخيمات هي التي تدفع ثمن الهزيمة واللجوء، ومع هذا تدكّ الباب من الخارج، من الحدود، وعبر النضال، تبشّر بالمقاومة كطريق للتحرير، كما في ثورة ١٩٣٦ أعلن الفلاحون التمرد والنضال من أجل فلسطين، في الأرياف وفي الجبال، فيما كانت القيادات الفلسطينية التقليدية تحاول البحث عن طرق للحوار، وتتجاهل الالتفاف الشعبي في الريف الفلسطيني حول المقاومة المسلحة. صدرت رواية عن الرجال والبنادق في ١٩٦٨. وهي عبارة عن ثمان لوحات، ذيلهم غسان بلوحة تاسعة شكلت لاحقاً الفصل الأول من رواية أم سعد التي صدرت في العام التالي ١٩٦٩.

رمز ثقافة المقاومة الراديكالية
لا يختلف اثنان على ثورية أدب غسان، إلا أن هناك تقييماً شائعاً مفاده أنه أدب ذكوري بسبب تقصيره في تناول قضايا المرأة وحركيتها ودورها الطليعي. سأختم حديثي برواية «أم سعد» واستقراء إبداع غسان لغة كتابة يقطع فيها مع الأدب الذكوري في فضاء غير مسبوق في عصره. في اللوحة الأولى، تجلس أم سعد في مقعدها واضعة كفيها المتشققتين مطويتين إلى بعضهما على حضنها في عناق حميم وهي تقص على غسان قصة المختار الذي طلب من سعد ورفاقه أن يكونوا أوادم. يغالطها غسان لوقوفها بوجه المختار، فيرتجف جسد أم سعد ويجتاحها غضب، وتقول: «تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس.. أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟ حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس». وفي كل حوار، تواصل أم سعد تحدّيها، تنهي حديثها وهي تشير بذراعها السمراء وتدورها إلى كل شيء، ثم تصوبها نحو غسان كجسر ممدود أو كحاجز وتسأله: أتفهم؟ أرأيت؟ فهمت؟ وفي كل مرة، ينتفض غسان للسؤال.
شكلت «رجال في الشمس» علامة في الأدب الفلسطيني والعربي، وقفزة في الشكل والمحتوى


من لوحة للوحة، يرقى غسان لمستوى التحدي؛ يذيب صوته في السرد فيعلو صوت أم سعد، وبهذا تحقق تمثيلها لنفسها، وتنتزع حقها في إعادة إنتاج الخطاب، فتنتصر باللغة التي تكرست فيها أصلاً سياسات التغييب والتفضيل والتفرقة والتمييز ضدها. وما كان هذا ليكون لولا تحدّي أم سعد لغسان وتحرر غسان من حبس لسان الأب الذي يمثل السلطة والنفوذ، وزعامة الخيال الذكوري الذي يفرض على المرأة أن تظل دوماً في موضع التابع والهامش ويحكم على صوتها بالصمت أو التهميش. هنا يستبق غسان كنفاني مقالة غياتري سبيڤاك «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»، والذي تحاجج فيه أن فئة التابع، أي الطبقات المهمّشة غير المسموعة في المجتمع أو «معذبو الأرض» بتوصيف فرانز فانون، غير قادرة على التعبير عن اضطهادها وحاجاتها وتطلعاتها ورؤيتها لأن قوة التبعية للتقاليد الدينية أو الثقافة الأبوية أو الثقافة الاستعمارية تحول دون انبثاق صوتها والتعبير عن استغلالها، ولأن صوت التابع هو أيضاً صوت محكوم بالصمت بسبب طبقات النخبة والمثقفين الذين يساهمون في تغييب صوتها ويحتجزون لأنفسهم حق تمثيلها. تأتي رواية أم سعد بالردّ القاطع أن صوت التابع وسبر أغوار كلامها وكتابته إبداعياً مطمح ممكن من خلال لغة كتابة تعيش في منفى لغوي، خارج حدود وطاعة لغة الأب بقواعدها ومنظوماتها الدلالية، تماماً كما يعيش اللاجئ منفياً خارج مكانه وزمانه. باعتماده آلية إعلاء صوتها على صوته، تحقق أم سعد تعبيرها وتمفصلها وإدراكها وتمثيلها لذاتها في لغة كتابة تشاركية وتحايثية، غير متعالية وأكثر مرونة وأقل بطشاً بالكبت وبكل الإكراهات الاجتماعية.
لا يتحرر غسان من الخطاب الأبوي، بل يتحرر أيضاً من حبس النظام الأبوي وكافة أشكال تمركزه على القطيعة مع جسد المرأة/ الأم. ينادي أم سعد «يما» ليغدوا غسان، كما سعد، «ابن أمه». يعرف غسان نفسه كنقطة انطلاق من المرأة التي تحوّل خيمة اللجوء إلى خيمة مقاومة وتربي فدائيين، لا كما تعرّف المرأة كنقطة انطلاق من الرجل ومن ضلعه الأعوج. يعلن غسان عودته إلى جسد هذه الأم الفلسطينية وللعلاقة الغيرية التي تجسدها، وبهذا يعيد غسان تقييم الأمومة بعيداً عن معطياتها البيولوجية والنفسية والاجتماعية الوظيفية. هنا يستبق غسان نقد النسوية الفرنسية المابعد حداثية لمؤسسات التحليل النفسي واللغة والثقافة والحركة النسوية لإقصائهم الأمومة والحط من قيمتها وإخراجها من دوائر اهتماماتهم. يعود غسان إلى ملحمة الخليقة الكنعانية ويقلبها على رأسها. وفيما تنفى الأم من الحضور الفاعل فلا يتم الوصول إلى قمة السلطة لدى الأحفاد الذكور إلا بإطاحة سيادة الأم الأولى، يمو، وتمثيلها كرمز للشرور وقتلها ليصنع الإله الذكر، بعل، من جسدها النظام/اللغة، تتأرجح أم سعد بين السيميائية والرمزية، بين اللغة وشاعرية الكلام، فينفلت جسدها الأمومي من معناه البيولوجي الأحادي لتصنع من رحمها مكاناً أعقد من كونه مجرد حاضنة، «كوارة وأفرغت» كما في المثل الشعبي، أو مكاناً غامضاً يهدّد اتزان المجتمع، إلى إمكان خارق دائم الامتلاء بالغرائز والهواجس والنكبات والرغبات والأحلام، وتجسيد لغيرية باهرة، وحبل سري بين سبيل الحياة اليومية بمعاركها ودموعها ودمائها وبين إرادة الحياة الكريمة وإن بالموت سبيلاً. تفجر أم سعد أمومتها لتسترد قداسة المرأة/الأم الفلسطينية وعبقريتها لا بالحنين لشكلها الأسطوري، بل من خلال سعيها الثوري لإنتاج وإعادة إنتاج ذات وذوات أكثر تمرداً وأكثر عصياناً لهياكل السلطة الاستعمارية الصهيونية بكل تمثيلاتهم وهيمنتهم وفحولتهم الذكورية التي تفرض على الشعب الفلسطيني والمرأة التموضع في موقع التابع والهامش والمغيب، وعلى تمكين المرأة/ الأم الفلسطينية من أن تخلق هويتها وتكتب تاريخها وتاريخ شعبها وأرضها بجسدها.
يهدي غسان الرواية «إلى أم سعد، الشعب والمدرسة»، يهديها إلى هذه الشهرزاد الفلسطينية التي لم تعِش في القصور بل على أرض المخيمات ولم تنزلق في وحلهم، بل ارتقت من شقائها وانتصرت على الخرافة والأسطورة والنكبة والنكسة وحولت على مسرح جسدها خيمة اللجوء إلى خيمة مقاومة وثورة.. هذه الشهرزاد الفلسطينية التي تستثمر فعالية سردها لتسرب العبرة الجبارة أن التحرير يلزمه التحرر وخيمة مقاومة ترفع عمادها امرأة على أوتاد ثوابت الإجماع الوطني في ثورة وعودة بتاء التأنيث.