تعيد الممثلة المسرحية ومحركة الدمى اللبنانية فاديا التنير، في عرضها الجديد «وحدي»، اكتشاف العلاقة التفاعلية بين المسرح والجمهور. خلال العرض، تحفّز على إعادة البحث في وظيفة المسرح، وتطور هذه الوظيفة وتبدلها عبر الزمن، بدءاً من التماهي مع الشخصية المسرحية وإيهام الجمهور بأن المسرح حقيقة، وصولاً إلى تحوّل الممثل إلى عنصر فاعل ومحفّز للجمهور، عبر كسر الجدار الرابع معه. الثقل الذي في داخلنا من ذكريات، نوستالجيا المدينة العتيقة، شوق حواسنا لمن نحب، أعادت فاديا كتابتها خلال فترة الحجر المنزلي، في نصّ سلس، بسيط، مكثف بالعواطف، والأسئلة حول مصير الإنسان في وحدته. اتصلنا هاتفياً بفاديا التنير، للحديث عن عرضها «وحدي»، عبر هاتفها المحمول. خلال الحديث، يتكرر رنُّ الهاتف الأرضي أكثر من مرة. نسألها إن كانت تريد الإجابة على المتصل، فتجيب: «لا أحد يرنّ لي هنا». ومع العزل المنزلي والتباعد الاجتماعي، لم يأتِ أحد لزيارة فاديا منذ وقت طويل، في هذا البيت البيروتي القديم، في شارع عمر بن الخطاب في منطقة رأس النبع، حيث تقطن «وحدها»، بعد فقدان أمها، ورحيل أختها حنان التي كانوا ينادونها بـ «المتخلفة عقلياً» عن هذه الحياة. هذا البيت حوّلته المدربة التي بدأت عملها مع الفرقة اللبنانية للدمى في التسعينيات، إلى فضاء مسرحي، لتعبْر برفقة خيالاتها، إلى حدود الجمال الفني، غير المألوف في عصرنا هذا، وتقدمه في قالب فني مسرحي، عُرف في ستينات القرن الماضي، يتمثل في «العروض المنزلية» التي يقوم بها الحكواتي. أعادت فاديا ضخ حياة جديدة في نفوس المهتمين والعاملين في المسرح لهذا الشكل الفني، ولفتت أنظار المخضرمين في هذا المجال، كالمسرحي اللبناني فائق حميصي. بعد مشاهدته «وحدي» في منزل فاديا التنير، يستحضر حميصي قولَ الكاتبة الروسية تمارا بوتينتسيفا في كتابها «ألف عام وعام على المسرح»، إنه يكفي وجود حكواتي يضع سجادة بينه وبين الجمهور، ليصبح المكان مسرحاً.
عرض بلا إضاءة، ولا أزياء، ولا خشبة، مكثف بجمالية المسرح الفقير


لا إضاءة، لا أزياء، لا مكياج، لا خشبة، لا شيء سوى العواطف التي يتم تقديمها للجمهور، الذي تحفزه مخرجة ومؤدية عرض «وحدي»، على استحضار حاستَي الذوق واللمس لديه، لاستذكار الجو البيروتي في العقود الماضية.
في أسلوب الحكواتي التفاعلي، الذي يعتمد على تقنيات الصوت والجسد، تفتح فاديا بابها للجمهور: «صرلو زمان ما اندق هالباب، مع انه كان يضل مفتوح، أهل الدار فلو، والزوار خفوا». يتنقل الحاضرون في أرجاء المنزل، من غرفة مغلقة إلى أخرى، تُرفع الستارةُ على الحكايا، وتتكشف القصص تباعاً، «بركة العنتبلي، كانت روتيناً بالنسبة لنا كأهالي بيروت، كانوا يبيعون الجلاب والسوس والمغلي، وعند الانتهاء من شرب أي شيء هناك، كانت أمنا تنبهنا لضرورة قول بفرحة أولادك. محل حلويات أوتوماتيك كان يبيع الإكلير والكعكة العصرية». تُحضِر خريجةُ دفعة المسرح عام 1990 في الجامعة اللبنانية، في سياق العرض، نباتات الحبق، وتدعو الجمهور لاكتشاف رائحة والدتها فيها، التي كانت توصيها دائماً بتغنيجه لتفوح رائحته.
في «وحدي» (يمكن قراءته على الملصق الإعلاني «وحدة» أيضاً)، تبسط فاديا مآسيها، وألبوم صور عائلتها، أمام الحاضرين. لا تتماهى مع الدور الذي تؤديه أمام الحاضرين، ولا تضع حاجزاً بينها وبينهم. كل التفاعلات مباحة، يمكن لها أن تفعل ما تشاء، ويمكن للجمهور أن يتلقى ويتفاعل كما يريد. حلقة مسرحية تفاعلية، تقدمها التنير، تتبعها حلقات نقاش بعد انتهاء العرض أحياناً. يحقق ذلك التفاعل الثقافي في أعلى مستوياته، وهو أشدّ ما نحتاج إليه في بيروت، مع تضاؤل الفضاءات المسرحية والصالونات الثقافية.
تطغى على عرض «وحدي» سمة أساسية هي استحضار الذكريات بشكل مكثف. إضافة إلى ذلك، تنطلق من فاديا كفنانة مسرحية، من معاناتها الإبداعية، وتطرح مفاهيم حول علاقة الإنسان ببنيته الخارجية ومظهره، فتغوص في العلاقة الشائكة التي جمعتها بجسدها «ما كنت اتطلع على المراية، وهلأ صرت كتير حب اتطلع فيها». تقول الممثلة الحكواتية النص في أسلوب عاطفي تتميز به، ينطلق من صدق الممثل الذي يعمل على تحفيز أحاسيسه. كما تستحضر التنير صلابة العلاقة مع الأم بعد موتها، ومعاناة أختها حنان، التي كانت من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومأساتها مع مجتمع متخلف في ستينيات القرن الماضي. يضع العرض المسرحي المتفرج في دوامة عاطفية لا يسهل الخروج منها، ويضخ أسئلة عن مصير الإنسان والوحدة، ويضع إسقاطاته عليها. يأتي هذا المضمون، في شكل مسرحي غير متكلّف فنياً، مكثف بجمالية المسرح الفقير، وفي سياق زمني، يحتم الدخول في اكتشافات جديدة للمسرح.


قبل فترة وباء كوفيد-19، لم يكن التفكير في إقامة العروض المسرحية داخل البيوت أمراً ملحاً. اليوم ومع المتغيرات التي طرأت، والإقفال الذي يطال المسارح بين الحين والآخر، شرعت فاديا فتح بيتها في بيروت، ولم تعجز ـــ باعتبارها أحد أهالي المدينة القدامى ــــ عن تصوير مجد المدينة للجمهور. ديكور البيت العتيق، التحف، كادرات الصور، طاولة الغداء، الشرفة، الشبابيك، تخبئ الكثير من التفاصيل الدقيقة، وتعطي طابعاً سينوغرافياً عزز أفكار العرض. تحدثنا فاديا عن دوافع العمل، حيث تنطلق من الخصوصية الفردية للفنان، إلى العامّ. «بحب الناس تجي ع بيتي»، لذلك تحشد الناس بحسّها الحكواتي، لإخبار «الحدوتات» اللطيفة والناعمة، وتوزع عليهم قبل الختام حلويات «الإكلير» و«المغلي»، لتنهي العرض بعبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». تُسدل الستارة على العرض، يغادر المتفرجون البيت، وتكمل فاديا وحدتها.

«وحدي»: 9، 16، 17 تموز (يوليو) ــــ بيت فاديا التنير ـــ شارع عمر بن الخطاب في منطقة رأس النبع ـــ الأماكن محدودة ــ للاستعلام: 03764900