في شتاء 2016، أي قبل خمس سنوات، اجتاحت الشاشات المحلية موجة برامج ترفيهية وكوميدية. كنا وقتذاك أمام طفرة في هذا النمط من البرامج، بعضها مأخوذ عن فورما أجنبي، والباقي لا يحتاج إلى ميزانيات عالية. كانت أزمات لبنان الاقتصادية والسياسية متراكمة، فيما عجلات القنوات تنحو نحو الترفيه بنسخته السطحية والمشوّهة، وحتى الخطرة في منع العقل اللبناني من التفكرّ ووعي ما يحدث حوله في السياسة والاقتصاد والمعيشة. كانت عبارة الكوميدية أرزة الشدياق لافتة في برنامجها «حلوة منك» الذي لم يعمّر طويلاً على «الجديد»: قالت حينها: «ما بدنا بروغرامات، ونحطّ إيدنا ع الجرح، بدنا نبعد عن السياسة والكهربا... ونجرب نضحّكم». إذ كان المطلوب في ذاك الوقت إبعاد المشاهد عن أي تفاعل مع الشأن العام، وتصنيف السياسة وبرامجها وتحليلاتها على أنها «طوشة راس»، ويحقّ لهذا المشاهد المتعب والعائد إلى منزله مساء، بحصة ترفيه ولو سعت إلى تسطيح تفكيره. بعد عامين، وتحديداً عام 2018، نفضت البرامج السياسية على القنوات المحلية، الغبار عنها، وغيّرت شكلها، وطريقة تقديمها. انطلق وقتها برنامج «وهلق شو؟» على «الجديد»، الذي شاهدنا في إعلانه الدعائي خلع جورج صليبي للكرافات وساعة اليد، لإيصال فكرة بأننا بتنا أمام تغيير في جدية البرامج السياسية، ووضعها في خانة أن يكون المذيع cool، والمضمون أقرب إلى الناس. في الفترة عينها، انطلق «صار الوقت» على mtv، معلناً لعبة استعراضية مختلفة، اختلطت فيها مفاهيم الترفيه مع «التوك شو» السياسي، واتكأ إلى خاصية الإبهار ومساحة الاستديو الضخمة، إضافة إلى حضور عشرات المشاركين من الجمهور تحلّقوا حول مارسيل غانم. طبعاً، النفضة الشكلية التي طالت البرامج السياسية، لم تنسحب على المضمون، الذي ظلّ ثابتاً، من ناحية تنفيذ كل منها أجندته الخاصة. في الآونة الأخيرة، أي في فترة ما بعد تفجير المرفأ، وصلنا إلى مشهدية إعلامية مغايرة، قلبت الموازين، وهيمنت السياسة على الشاشات، وبدأت طفرة أخرى تتبدى، بإطلاق المزيد من البرامج الحوارية السياسية، في برمجة الصيف، التي كانت تخصص عادةً لمساحات ترفيهية خفيفة، وإذ بنا اليوم، أمام استمرار للبرامج السياسية التي اعتادت أن تأخذ استراحة في الصيف، مع زخم أكبر، تُضاف إليها، منصة «صوت بيروت» (مالكها بهاء الحريري) التي لا يمكن عزلها عن المشهد التلفزيوني المحلي، كونها تتشارك مع lbci، في بث بعض البرامج، وتحظى بحضور على منصة فايسبوك، وتضع ثقلها في التغطيات الخبرية المحلية، والبرامج السياسية والترفيهية، التي وصل عددها إلى حدّ التخمة، مع استقطاب المنصة البيروتية مزيداً من الوجوه، لا سيما من mtv.
هكذا، بعد تفجير المرفأ، الذي استثمرت فيه بعض القنوات سياسياً، واتخذت قراراً بمنع نقل تصاريح السياسيين (قابله ضخّ في البرامج السياسية الموجهة)، إلى جانب تأثير الأزمة الاقتصادية على البرمجة الرمضانية، وحتى على برمجة الخريف، بدأت تتبدى موجة المضمون السياسي، الذي ظهر هذه المرة بأقنعة أخرى، اتّخذت البرامج الترفيهية لإدخال السياسة وحتى التسييس والتصويب على أحزاب وشخصيات دون أخرى، تبعاً للأجندة المتبعة. للمرة الأولى، نكون أمام خلط في أنماط البرامج التلفزيونية، بين الترفيه والسياسة، بدأ في كانون الثاني (ديسمبر) الفائت، مع برنامج «ع غير كوكب» الترفيهي على mtv. خصّص الأخير فقرة تعليق سياسية ثابتة تولّاها سلام الزعتري، وأقحم فيها المضمون السياسي المنحاز، لتكرّ السبحة، لا سيما على «صوت بيروت» التي تعاني من تخمة حقيقية في البرامج السياسية الحوارية، التي قد تتشابه، مع تغييرات تطال الديكور واسم المذيع. ومع هذا الثقل في المضمون السياسي للمنصة البيروتية التي صوّبت سهامها السياسية صوب «التيار الوطني الحر»، و«حزب الله»، كان لافتاً إقحام المضمون السياسي في الترفيه. على سبيل المثال، يطالعنا برنامج «مع السلامة» (كارين سلامة) المفترض أنه يندرج ضمن خانة الترفيه وإعلام المهتمين بأخبار الفن ووجوهه، بمضمون سياسي فاقع أقرب إلى الثرثرة، تصر سلامة على إدخاله في برنامجه، إلى جانب «Hishow»، لهشام حداد، و«المواجهة» (يعرض على lbci أيضاً) الذي يقدمه رودولف هلال، وتذهب نسبته الأكبر إلى كفة السياسة. علماً أنه مخصص لاستضافة الوجوه الفنية، وبرنامج «سؤال محرج»، (يبث أيضاً على lbci) لطوني خليفة، الذي يتضمن بدوره منسوباً عالياً من السياسة، رغم صيغته الترفيهية. أما mtv، فقد أطلقت أخيراً، برنامجين سياسيين «مأخر بالليل»، و«كلام صادق»، واستكملت في فترة الصيف بث باقي برامجها الحوارية السياسية، إلى جانب lbci، و«الجديد» التي بدورها، أطلقت سلسلة برامج جديدة، يطغى عليها المضمون السياسي: «ع الحرف»، و«البديل»، و«هنا بيروت».. إذاً نحن أمام مشهدية إعلامية مختلفة، مطلوب فيها الضخّ السياسي العالي، في البرامج الحوارية السياسية أو الترفيهية. مشهدية لم نعتَد عليها سابقاً، مع اتخاذ هذه البرامج استراحة في فترة الصيف، وإذ بها تستكمل على الشاشات، ليس سعياً نحو تحفيز عقل المشاهد صوب التغيير ووعي حقيقة ما يدور من حوله، بل لتغرق به أكثر في لعبة الاستقطاب والشحن والتصويب، وتأليب اللبنانيين على بعضهم ضمن لعبة تصفية الحسابات السياسية والخنادق المنصوبة، في زمن الانهيار.