أجرت الحوار نادين أبو زكي *
■ من هو نزيه خاطر؟
لا أتكلّم أبداً عن نفسي، ومعكِ ستكون المرّة الأولى.

■ كيف ترى إذن نفسك؟
أحبّ أن أكون أنا نفسي. لقد كنتُ دوماً أميناً لنفسي. أكره ألاّ أكون كما أنا حقاً. لقد كنتُ ما أردت أن أكون بكثير من السخرية. في نزيه خاطر نزيه آخر يسخر منه: الشخص العلني الذي يقرأه الناس في «النهار»، والشخص «الجوّاني» الذي لا يملكه أحد ولا يقترب منه أحد.

■ أخبرني عن هذا «الجوّاني»؟
أنا كائن بدنيّ جداً وحسّي جداً. شهواني جداً في الحياة. أتلمّظ كل ما أعمل. أحب الحياة، الحياة الوجودية. أتلمّظ الوقت والمكان والجسد والغذاء والكتابة والقراءة.

■ ألا تعرف «الزّهق»؟
لا أملّ أبداً. شخصٌ مثلي لا يملّ لأنّه متعدد: ثمّة «أناواتٌ» عدّة في أناي. أشعر أنّي أُخيف النّاس. يُقلقهم أن يكونوا ذواتهم. أحياناً أقول إنّي رواية، إنّي لستُ حقيقيّاً. وحين أُلاحظ نفسي أحيا، أقول لنفسي: «أيّ مجنونٍ هو هذا الرجل؟!».

■ وماذا عن أولئك الآخرين؟
قليل من الناس يعرفون من أنا. فتحتُ بابي لقلّة قليلة من الناس. بيني وبين الآخرين شبه مرآة. ينظرون إليّ فيرون أنفسهم. الناس يجعلونك فلاناً. يصيبني الهلع من أن أفكر أنّ الآخرين يفكّرون ما أنا. أنا هكذا، طيّارٌ وهمي. وأحياناً أخترع نفسي لنفسي. لذا أرى أنه ينبغي أن نكون بلا حياء مع الحياة. الطاقة مرتبطة دوماً باللاحياء. والناس الذين ليسوا بلا حياء، مضجرون. إنّهم لا يجرؤون. وحين لا تجرئين، فأنتِ كئيبة. ذات لون رمادي، بلا لون.

■ وماذا عن نزيه والمرأة؟
أشعر غالباً أنّ النساء مُلكي، ويسلّيني ألاّ أقربهنّ. والنّساء اللّواتي كنّ أكثر لي، هنّ اللّواتي لم يكنّ لي. لم أدع قطّ امرأة ترحل. كلّ اللواتي رحلن، حفظنني عندهنّ. تسكنني النساء وأنا أسكنهنّ. أحب النّساء غير المُخلصات، الـ «أجْرُنْ لبرّا». حين ألمس جلد امرأة، يقشعر جسدي. عندي، جسد الآخر هو أجسادٌ عدّة، وليس البتّة جسداً واحداً. الآخر ليس صوتاً فقط بل أصواتٌ عدّة. ذاك أيضاً نوع ترحال. لا شيء يساوي الدّعوة إلى التّرحال مثل جسد المرأة. يُمكن أن نقضي لياليَ عدّةً في التّرحال في جسد المرأة من دون التّمسّك بها.

■ ولمَ لمْ تتزوّج؟
أمضي وقتاً طويلاً مع العديد من النساء. لكن لم يخطر في بالي أن أتزوّج واحدةً منهنّ. كان ثمّة شيء غير مكتمل. كان ينقص شيء ما، فارقٌ ما. فارقٌ بسيطٌ يضع كلّ الفرق بين الناس. بي حاجةٌ إلى أن أحسّ الزّمان والمكان والآخر. أرغب في إعادة اختراع جسد الآخر. لكن ذلك ممتنع. الجسد يُتلمّظ. جسد المرأة التي نحبّ يُتلّمظ. نترحّل فيه، على جلده بأيدينا، بأعيننا، بشفاهنا. نهتكه ونعيد بناءه في كلّ لحظة. المرأة تجمل إنْ استطعنا أن نهتكها ونعيد بناءها. النّساء اللواتي هنا طوال الوقت عالمٌ قاسٍ حقّاً. وأكثر الأشخاص روعةً هم الذين يمكن أن يتغيّبوا. غالباً ما كنت أرغب في مجامعة امرأةٍ وكنت أشعر أنّي سأفقدها إنْ جامعتها. لذا أقترب منها وأدعها على مسافة منّي. وهي تلعب معي اللّعبة نفسها. لأنّنا لو سكنّا معاً، أشعر أنّه لا يمكننا أن نفترق أبداً. وأحسب أنّ هذا مستحيل.
ينبغي أن نكون بلا حياء مع
الحياة ولا شيء يساوي الدعوة إلى الترحال مثل جسد المرأة


ما يصنع سحر بيروت أنّها ثابتة
من «جوّا» ومتقلقلة من «برّا» عكس المدن الأوروبية الكبرى


■ حدّثنا عن نزيه خاطر والكتابة...
لم أكتب كتباً. الكتابة عندي هي الترحّل. أترحّل في حياتي. بهذا المعنى أنا فينيقي. أمضيتُ حياتي في التّرحال وكان ذلك ممتعاً. يُمكنني أن أترحّل داخل نزيه خاطر. ولهذا السبب أكتب. لا يمكن أن تتصوّري كم أستمتع وأنا أكتب مقالة كلّ يوم: أنا لا أعود على بدء، بل أكمل. ذاك ما أحبّه حين «أقرأني» من بعد. ذاك ما كتبته طول 45 سنةً من دون أن أكرّر الأشياء مرّتَين. لا أكتب إلاّ لنفسي. وأقول دائماً لنفسي إنّي قارئي الوحيد. وهذا يمتّعني. يُسلّيني أن أكتب مقالَين في واحد: واحد للآخرين وآخر لي. ولذا كنت «أفرفش» وأنا «أقرأني» لأنّي أعرف كيف يقرأني الناس وكيف أقرأ نفسي.

■ ألهذا الحد تبلغ العشرة بينك وبين الكتابة؟
الكتابة مغامرة جميلة. من المدهش أن تعلمي أنّها ستبقى بعد موتك بأشياء تُقرأ وتُحسّ وتحمل فكرة... على الرغم من أنّها لا تفعل سوى أن تمضي. الكتابة طريقة من طرائق قهر الموت. ولعله لهذا السبب يموت المثقّفون بلا ضجيج. لأنّهم ما زالوا هنا، أرسطو وسواه من قبل ومن بعد. لكن، عندما تكتبين تشعرين أنّك أكثر تعقيداً ممّا كتبت، ممّا قلت. وذاك مدهشٌ حتّى لمن يقوله. إنّ ما هو قائم من نزيه خاطر، في مقالاتي، يدفعني إلى الظن بأنّي أكثر من متعدّد. وأحبّ ذلك.
أنا ناقد فنّي، وأرى الحياة بحسّ إبداعي. أمضي وقتي في ابتداع أفكار حول ما أرى. والنقد ليس سوى فرع اختصاص. كل ما أسمعه يمرّ في ميزان الرّأي: مع أو ضد. كل الأمور تجري عندي بلا قصد، أطرحها، أعيشها. الأمر مختلف. أنا لديّ الاثنان معاً.

■ دعنا ننتقل إلى ما هو أكثر «جوّانيّة». ماذا عن أمك وأبيك؟
كانت أمي توحي لي دوماً بأني مسافر. كانت تعشق الصمت. وكان صمتها ينطق لي. كنت بالأحرى أخترع الأشياء التي كانت أمي تقولها لي. والحال، إنّي أحس دوماً أنها آتية من هناك: من الأرجنتين، من إيطاليا، من بيروت... أبي كان رجلاً حقاً. وذاك ما كان يبهرني. ولم أكن أعرف في الوقت نفسه لماذا يتملّكني الإعجاب أمامه، هو الذي كان لا يتكلم كثيراً. لكني كنت أنظر بعدها وأفهم. كان أبي، مع ظهوره مظهر اللامبالي، يضع بصمته على ما يعمل، يترك آثاراً. كان مثقّفاً من الثلاثينيات. وكان سيداً في القرية ولا أحبّ أن أحدّده.
■ كنت أظن أنّ أمّك هي التي علّمتك الصّمت!
ليست وحدها. في بيتنا كان الصّمت هو السيّد.

■ لكن ماذا عن الترحّل؟
عندي، الصفاء الذهني هو مفتاح الترحّل، والأشخاص الذين لا يجعلونني أترحّل أهرب منهم أو أكاد.
أن نتكلّم يعني أن نترحّل. إنّه أسلوب ترحّل مع البقاء حيث نحن جالسون... وأسرّك: أينما أكُنْ أحنّ إلى المكان الآخر. عندي، أن أكون في مكان ما يعني أنّ الأرض مفتوحةٌ أمامي، ليس جسديّاً بالضرورة بل نفسيّ وتخيّل. أنا كائن على سفر دائم. لم أكن قط مستوطناً في محلّ ما، ومع ذلك أينما أكُنْ، أكُنْ في بيتي. كما لو أنّني أتابع العيش فيه. وفي كل مرّة أنتقل من حيّ إلى آخر أكون كمن ينتقل من مدينة إلى أخرى. وحين أنتقل من مدينة إلى أخرى كأنّي أنتقل من مقهى إلى آخر في الحيّ نفسه.
أشعر أنّي كنت رحّالةً منذ شبابي. لم أكن أعرف لماذا لكن كانت لدي الرغبة في ذلك. بدأتُ التّرحال منذ سنّ الـ 14. في المجلات الأجنبية ثمّ في تكلم اللغات ثمّ في لقاء الأجنبيّات.
كان لديّ شعور دائم بأنّي أجنبي، وأنّي على أهبة المغادرة. وحيث أكون أرغب في الرحيل. حتّى في باريس كنتُ أرغب في الرحيل. هكذا جلتُ في كل أوروبا. زرتُ موسكو وبطرسبرغ والعراق والخليج وسوريا. أمضيتُ عمري في المغادرة. لم أكن أعرف لماذا ولا أعرف ذلك اليوم أيضاً. كان فيّ شيءٌ ما يدفعني إلى التعرّف. أرغب في أن أعلم ما لا أعلم. ما أعلم لا يهمني. حسبتُ دوماً أنّ رجلي مصنوعتان للسير وكان يجب أن أسير. أروح إلى بيتي، أروح إلى أوروبا، أطوف العالم. أخترق العالم. كنت أرغب في معرفة كل المناخات وكل أنواع الأشخاص. والشيء الذي يدهشني دوماً هو أنّني كنت دائماً في بيتي ليس فقط في لبنان. في لبنان كنتُ في بيتي كمحطّة ذهاب. حيث كنتُ، كنتُ في بيتي وعلى أهبة المغادرة.

■ تغادر دوماً لكنّك تعود إلى بيروت، لماذا؟
أعتقد أنّي مغرم ببيروت لأنّها مدينة تتبدّل في كل ساعة. ما يصنع سحر بيروت هو أنّها ثابتةٌ من «جوّا» ومتقلقلة من «برّا»، على عكس المدن الأوروبيّة الكبرى. هنا لديك «جوانيّتك» التي تسكنين إليها. في بيروت، أشعر أنّ المدينة هي التي تنتمي إليّ. ليس لديّ هذا الشعور في أيّ مكانٍ آخر.
هنا في مقهاي، على طاولتي، المدينة فيّ. غريب الشعور بالقول: إنّ المدينة فينا. إنّك المدينة. أنا لا أتكلّم عن نزيه الكاتب والناقد الفني، بل إنّه انطباع سيّال ودخانيّ. بيروت مدينة مليئةٌ بالفخاخ والأسرار والعشائر. حين تبدّلين الحي، تبدّلين حزبك السياسي وجنسيتك. بيروت كانت كسموبوليتية معيشة في نوعٍ من الجميع في الجميع. كانت العالم في حيّ. إنّها مدينةٌ رائعة. فيها تكونين في كل مكان. ويكون العالم بين يديك

■ أنت الآن في السرير ماذا تغيّر؟!
لا أعرف إنْ كان ما فكّرتُ فيه في المستشفى حقيقيّاً أو إن كان المستشفى حقيقيّاً. لا أميّز حضوري في المستشفى من نوعٍ من الغياب. تركت نزيه خاطر لأرحل. تركتني لأرحل. حين تكونين مريضةً، تكونين أنتِ نفسك وتكونين أخرى، تكونين أنت مَن ينظر إليك مريضة. أنت الذّهن السليم الذي ينظر إليك مريضة. وذاتي تغريني.
■ والآن، كيف تشعر؟
لديّ العلاقات التي كانت مستوعبةً بقوّة. ذاك يعطيني فكرةً واضحةً عن الحياة والموت، عن الحضور- الغياب فيهما. تشعرين الآن أنّك واقعيّة وفي لحظة أخرى أنّك لست كذلك. ليس فقط غير واقعيّة بل غائبة. أحب هذه المرحلة التي تفلت مني. ولا أحب أن أخترعها، لا أحب أن أخترع الأشياء. من الغريب أن يشعر المرء أنّه في لا محل. حين استيقظت ووجدت أخي بقربي، قلت له: لا تحك لي عمّا أصابني. لا أريد أن أعرف. أعلم أنّي كنت في بيتي حينما اهتزّ العالم فجأة. لحسن الحظ أنّ ابن أختي الطبيب زارني. أدين بحياتي لنقولا بعقلاني. إنّه مذهل.

■ وماذا بعد؟ بعد هذا المرض الذي يطرحك هنا؟
من المسلّي أنّي أريد الآن أن أتكلم عنه. ثمّة كثير من الصمت. من الغريب أن تعلمي أنّ جزءاً حياديّاً من حياتك يفلت منك ولا يعود بوسعك القبض عليه. أحب هذه المرحلة لأنّ الأشياء تفلت منّي. ومن الجيّد أن أكون صافي الذهن دوماً. أحبّ هذه المرحلة، فهي كما لو أنّها خلف لوح أسود. ذاك يدفعني إلى طرح أسئلة على ما بعد الحياة. وقد ولّد ذلك لديّ مسألة الحياة والموت أيْ ما الذي يحصل بعد الرحيل؟ ذاك لا يلتقط حتّى لو أردت أن أتكلّم عليه لا يمكنني الكلام. إنّه سيّال ومتحرّك وهوائيّ لا يلتقط.

■ هل تعتقد أنّ الأمر هو حقاً مبهم وغامض إلى هذا الحد؟ وماذا عن العودة؟
في عالم الترحال ثمة شيء يدهشني: لا أحد جاء من الجانب الآخر إلا المسيح. عاد وتكلم مع تلاميذه ورحل. إنّه الشاهد الوحيد لدينا على أنّ الحياة توجد هناك، أنّ ثمة حياةً أخرى. المسيحية أمرٌ يأخذك إمّا بالكامل أو لا يأخذك البتة. أنا يغمرني الإعجاب بالمسيح الذي قال لتلاميذه: الحياة توجد في الجانب الآخر وسأعود منها. تلك أجمل حكاية حكيت لي. أحب هذه الحكاية. فهي تعطيك فكرة عما يحصل بعد الموت. ليس لدينا سوى هذه الشهادة. إنّه إلهٌ تجسّد بصورة إنسان ظهر لتلاميذه في خدمة هذا الإله. إنّها شبه رواية. رواية على طريقة جول فيرن، وأحب هذا. أحب في المسيحية هذا المنحى في حكي الحكايات. إنّه أمر غاية في الأهمية لا يفكر الناس فيه كفاية: عودة المسيح.

■ أهناك أكثر من حياةٍ واحدة؟
من الظلم أن تكون ثمّة حياة واحدة. يجب أن تكون ثمّة حيوات كثيرة. يجب أن يحيا المرء مرّات عدّة في أماكن مختلفة. اليوم في القرن الـ 21 يمكن للواحد أن يكون بدائيّاً وفائق الثقافة. إنّه الأمر نفسه. ولا أرى الفرق بينهما.

■ هل من كلمة أخيرة؟
أرى أنّ أشياء كثيرة هي باطلة. حين أقوم بجرد ما يحصل في يوم واحد، أرى ذلك بائساً حقاً. المدينة لا تثيرك على مستوى ذكائك. إنها تسيل كمدينة ضئيلة.
* رئيسة تحرير مجلة «الحسناء»