في معرضه الاستعادي الضخم «حياة بلا حدود» الذي افتتح أخيراً في «مركز بيروت للمعارض» بالتعاون من «غاليري عايدة شرفان»، نعود لمعاينة تجربة حسين ماضي (1935) من خلال 800 عمل تعود إلى مراحل وأساليب وتقنيات مختلفة من ممارساته التي شملت الرسم والنحت، واشتغل فيها بالحبر الصيني والباستيل والأكريليك والكولاج والحفر والفحم والغرافيك، إضافة إلى نماذج من منحوتاته المعدنية المدهشة.
الاستعادة تُرينا النقلات والتعديلات والتطورات التي حكمت تجربة أحد المعلمين الكبار في المحترف اللبناني. لا نتأخر في العثور على فن حسين ماضي الذي يبدو أنه بدأ ناضجاً، وراح يتطور داخل نفسه، في مسيرة طويلة من مجاراة الفنان لفنه. تسربت تأثيرات وقراءت بصرية من دراسته في روما، ومن اطلاعه على تاريخ الفن وتياراته، لكن ذلك ذاب في شغله، وتحول إلى مقتنيات شخصية. توصيفٌ مثل هذا يسهّل علينا نسب تجربته إلى هوية عالمية تتجاوز انتماءه المحلي الضيق. حسين ماضي، ومن دون مبالغة، يذكرنا بتجارب كبرى في الفن. كثيرون وجدوا فيه شغف بيكاسو ومودلياني بالإتقان والكمال، ولكن من دون إفساد كبير للمقاييس، أو لعله إفسادٌ من نوع آخر ذلك الذي تُرسم به نساء حسين ماضي بخطوط حادة وواضحة تبرز حضورها الجسدي بمبالغات شهوانية، أو براعته الهائلة في تطويع لوح معدني واحد لإنجاز منحوتة من دون قصّه أو تقطيعه أو لصق أجزاء معدنية أخرى عليه، أو احترامه الداخلي لمنطق الأشكال البشرية والحيوانية وتشريحها الجسماني والعضلي أثناء ذلك. المنطق مفردة يكررها الفنان نفسه في حديثه عن فنه وعن الفن الذي يفضّله في تجارب الآخرين. المنطق بالنسبة إليه هو ذاك الانضباط غير المرئي الذي يحكم إنجاز العمل وهو يصل إلى نسخته النهائية. المنطق يجد تأويلاً لائقاً في ميل حسين ماضي إلى أن يكون تصويرياً وشكلانياً أكثر من ميله ليكون ملوِّناً. أعماله هي نتيجة خطوط وكتل ومنحنيات قاسية ومدروسة. الأشكال تأخذ حضورها من هذه الخطوط، وليس من التلوين الذي يبدو كأنه يتأخر في احتلال مساحاته المفترضة في جسد امرأة، أو في حركة حيوان، أو تصميم أزهار، أو في كولاج، أو في خلق تجاور بين مساحات تجريدية وأشكال تشخيصية. التجريد هنا هو في الأشكال الهندسية التي تنتج من الخطوط والمنحنيات، وليس طموحاً قائماً على نحو منفصل.
المذاق التجريدي الذي
ينبعث من لوحاته يعود إلى
شغفه بالاختزال والزهد

ابتداءً من أعماله المبكرة، يبدو ماضي كأنه تعرف على الرسم بالخط. اللون سيظل ممارسة أو حاجة تالية. الخط نفسه سيظل محكوماً بالتقشف والاختزال. بمستقيمين قصيرين وخط مائل مثلاً، ينجح في رسم حصان أو حركته المندفعة، أو رسم حوض امرأة مكتنزة بل التدفق اللحمي الذي يحدث تحت جلدها. نُدهش حين نرى لماضي لوحات كاريكاتور تعود إلى الستينيات، ونتنبه إلى مهارته في اختزال الوجوه والأحجام. الاختزال ترجمة للتخلص من الثرثرة والمجانية والميوعة اللونية أيضاً. وهو الرغبة في الوصول إلى جوهر المادة المرسومة أو المنحوتة. كأن ماضي يسعى إلى خَلْقٍ آخر، فنيّ هذه المرة، يحاكي فيه إعجاز الخلق الأول. فكرةٌ تتعزز أكثر بمديح الفنان الدائم لعمل الخالق الأكبر وعمل الطبيعة على موجوداتها وعناصرها.
حين يحدثنا ماضي عن المنطق والمعايير يستشهد بآيات قرآنية، بدلاً من اقتباس جملة أو قول مأثور لفنان أو ناقد ما. المذاق التجريدي الذي ينبعث أحياناً من بعض لوحاته يعود إلى شغفه بالاختزال والزهد، بينما كثافة التشخيص تتأتى من الشغف ذاته.
كأنه يُظهر ما نراه بقوة خفية تعمل بطرق لا نعرفها، لكننا نهتدي إليها من دون نرى توقيع الفنان على لوحته أو منحوتته. في الحالتين، لا نجد ثرثرة أو تنميقاً شكلانياً في أعماله التي يصعب علينا أن نضيف إليها أو نحذف منها. هناك قسوة وانضباط في الخطوط والألوان والأشكال، ولكن هذه القسوة تنتهي إلى انسيابية عذبة وشفافة. القسوة والتوتر موجودان في فكرة الرسام عن موضوعاته، وطريقة إنجازه لها، وليس في الموضوعات ذاتها. العنف موجود في خطوطه ولطخاته التي تتكرر فيها معادلات القوس والوتر من خلال تجاور الخطوط المنحنية مع الخطوط المستقيمة والعمودية. يتجلى ذلك في أجساد النساء المتكررة بكثرة في أعماله، حيث نراهنّ حاضراتٍ بأقل ما يمكن من الخطوط، وبأكثر ما يمكن من الشبق والحميمية. نرى ذلك أيضاً في منحوتاته المعدنية المنجزة بالطريقة ذاتها، وفي كولاجاته التي يُنجزها بالمقص وليس بالرسم. المنحنيات نصف الدائرية تصنع تشابهاً فريداً بين حوض المرأة وظهر الثور وحبة التفاح أو الرمان أو حتى بتلات الورد في مزهرية. كأن المعلم اللبناني يصعِّب المطلوب منه كي يصل إلى تلك البساطة والاختزالية في أعماله التي تنبعث منها مذاقاتٌ تكعيبية وهندسية وغرافيكية. مزيج يتكرر ببراعة سواء كانت اللوحة طبيعة جامدة أو امرأة فاتنة على حصان أو تفاحة موضوعة على مائدة، أو منحوتةً على شكل طائر أو ثور أو ديك. بطريقة ما، يبدو ماضي مشغولاً برسم الحركة الخفية المدسوسة داخل التشريح الجسدي لنسائه، أو مقتفياً الخط التصاعدي لتحليق طيوره في الفضاء، أو الوثبة المتوقعة لثيرانه في مواجهة مصارعٍ غائب.
الاختزال الأسلوبي يصنع تقارباً بين لوحاته ومنحوتاته. كأنه يرسم ما ينحته وبالعكس. كأن الفنان رسم اللوحة ذاتها ونحت المادة نفسها طوال الوقت. كأن لوحاته ومنحوتاته الموزعة في فضاء المعرض هي تلك «الإيثاكات» التي تعرّف عليها وهو في طريقه إلى إيثاكا، بحسب القصيدة المعروفة لكافافيس.

«حسين ماضي: حياة بلا حدود». حتى الأول من حزيران (يونيو) ــ «مركز بيروت للمعارض» ـ للاستعلام: 01/980650