في «طعم الكرز» (1997 ــ متوافر على «موبي») لعباس كيارستمي، نشاهد السيد بادي (هومايون إرشادي)، رجلاً خمسينياً يتجول بسيارته. يحاول إيجاد شخص مستعد لتقديم خدمة له مقابل مبلغ مالي طبعاً. سيأخذ بادي أياً كان بسيارته، ليدلّه على المكان الذي يجب أن يحضر إليه غداً صباحاً في تمام السادسة، لماذا؟ لينادي عليه مرتين. إن أجاب، عليه انتشاله من الحفرة التي استلقى فيها، وإن لم يجب، ينبغي له استكمال دفنه بأن يهيل التراب على جسده. باختصار: يحتاج في انتحاره إلى شريك.نرافق بادي في السيارة في شوارع إحدى ضواحي طهران بحثاً عمن يرضى بالمهمة. يقابل كثراً، بعضهم يخاف، وبعضهم يرفض مجرد صعود السيارة، وآخرون يحاولون ثنيه عن مخططه. كل مَن يدخل السيارة، لديه طريقة مختلفة في التفكير والتصرّف. هكذا نغوص في عقول وحجج وطبائع مختلفة، نتعرف إلى كل شخصية. تصبح السيارة أشبه بممرّ إيديولوجي فكري لكل من ركابها ولنا طبعاً. لا يتجول بادي في شوارع العاصمة، بل في طرقات منطقة صناعية محاذية، لا بد من أنه سيجد بين العمال ضالته. ثلاثة يدخلون السيارة: جندي من أصول كردية، أفغاني متدين ومحاسب ضرائب تركي. كل واحد منهم يحمل معه إحدى ركائز المجتمع الإيراني: الجيش، الدين، والمجتمع. بادي لا يقرب إلا رجالاً وحيدين، يبحث عمن يتماهى معهم ربما، من يشبهونه. ليست مصادفة أنّ من دخلوا السيارة، ليسوا بإيرانيين أصيلين أو أنهم أجانب من دول مجاورة. هم غرباء تماماً مثل بادي الغريب في عالم لا يشعر أنه ينتمي إليه.
في مكان ما، تنتفي النزعة الانتحارية عند بادي، نشعر أنه يريد من يقنعه بالإبقاء على حياته. بادي يغدق بأسئلته على الثلاثة، بعضها يتكرر. إنه يبحث عن إجابات تقنعه ربما. الإجابات مختلفة طبعاً. الجندي يمثّل العدم والخوف وترعبه فكرة الموت. المتدين يتكئ على الدين، يحاول مواجهة معضلة أخلاقية بالآيات القرآنية، ويحاول انطلاقاً من نزعاته الدينية ثني بادي عن فعلته، من دون شيء من ذاته، من مشاعره أو أفكاره. حججه جافة ببغائية مصدرها الكتاب المقدس، وسبق أن سمعها بادي مراراً وتكراراً، ولا يبدو أنها ستغيّر فيه الشيء الكثير. أما المحاسب، فهو الذي يمثل الثقافة الشعبية العامة، معه نلمس تجارب الحياة التي تحفز على التفكير بوجهة نظر جديدة. في مكان ما، مرّ هذا الرجل الذي يمتهن الأرقام بتجارب مماثلة لبادي، وعلى هذا يقوم الحوار بين السائق والراكب. ثلاث شخصيات أخرى تفاعلت مع الرجل اليائس. هؤلاء لم يقبلوا ركوب السيارة، لم يرضوا التحدث مع بادي. هم أيضاً يشكلون سلوكاً اجتماعياً، هؤلاء الذين يخافون الغرباء وقد يحكمون بالسوء على النوايا.
هكذا يضعنا عباس كيارستمي على درب بادي السوداوي، المخرج الإيراني لا يكلّف نفسه عناء الكشف عن الدوافع التي جعلت الرجل يفكر بالانتحار. لهذا السبب، لا يمكن للمشاهد إلا أن يكون موضوعياً محايداً. ليست هناك أحكام مسبقة على بادي. لا نعرف أسبابه ولا يمكننا الوقوف معه أو ضده. يريد كيارستمي أن يعرقل الأحكام المسبقة أو الحتمية التي قد تتولد لدينا نحن المشاهدين، بل يطرح عبر الذين سيلتقيهم بادي كل فكرة قد تخطر في بالنا. كل شخصية تفتح باب السيارة وتبدأ الجدال مع السائق، تبدأه معنا أيضاً، لا بد من أن نجد أنفسنا في واحد منهم، يسرق أفكارنا وكلماتنا، ثم يحل بادي بقوة الردود والحجة الأخّاذة ليقنعنا بالعكس ويدفعنا للرضوخ له.
سؤال كبير نحمله معنا خلال المشاهدة وبعدها: لماذا يصرّ السيد بادي على الدفن؟ لماذا التمسك بهذا الطقس الديني أو الاجتماعي؟ ألا يعني الانتحار أنه لا يجدر به الاهتمام بتفصيل ديني ينتفي أمام قتل النفس؟ ربما بادي لا يريد الانتحار فعلاً.. ربما هو يبحث عن الإجابات، عن المغامرة، عن المجهول.. تكثر التكهنات، لكن المؤكد أن المخرج الإيراني ومن خلال الدراما المتنقلة التي تشهدها الشخصية المركزية، يحيط بإحدى أكبر المعضلات الأخلاقية والاجتماعية: الانتحار.
«طعم الكرز» فيلمٌ ببصمات كيارستمي الواضحة، يترك تأملات وأفكاراً ومشاعرَ على مدى الأيام التي تلحق المشاهدة. نُبخس الفيلم حقه إن حصرناه بأنّه عمل عن الانتحار فقط، لأنه أكثر من ذلك. هو صدام الأفكار والحجج، هو تصارع الأخلاقيات الشخصية مع الأخلاقيات الاجتماعية أو الدينية. هو عن آلام الحياة ورعب الموت، عن التلاعب والسيطرة التي تفرض على المجتمع، عن الألم والحزن وبلاهة الحياة، عن الملذات البسيطة التي تجعل الحياة محتملة. «طعم الكرز» هو طعم الحياة، حبّة حمراء أخرى زهرية وثالثة سوداء، ثمّ حدّة، فحموضة ممزوجة بحلاوة.

Taste of Cherry على MUBI