I ـــ العصف في العنق، والملحق. نسير بمحاذاة كنيسة مار مارون. نزولاً باتجاه الفوَّهة البوابة، في محور جادة جورج حدَّاد. الرصيف واسع. مظلَّل بشجر وارفٍ، مزروعٍ بانتظام. المطعم الذي يلي الكنيسة، مقفلٌ نهائياً. زحمةُ سيارات في محطَّة المحروقات. الطرق نحو الجمَّيزة سالكة. كل المحالّ التجارية على يميننا، محطَّمة أو مقفلة.
نصل إلى الواجهة الجنوبيَّة للفوَّهة – البوابة، استُبدِلَ زجاج الدكاكين المحطَّم. الزجاج جديد ونظيف. لكنَّ المحالّ الثلاثة، مقفلة من الخارج. أُزِيلَ عنها، ناتج العصف المباشر. لكنّ آثاره باقية ومستمرة، بالإقفال الفعَّال، بهدف حماية مديدة.
نلتفُّ. ندخل في العنق. قبالتنا في الجدار الشمالي، «بول» يدلي بشهادة حياة منعشة لا لبس فيها. في الطوابق العلوية الثلاثة، فوق «بول»، الهجر فاقعٌ. الأقواس الثلاثة المتكررة، تحجبها ألواحٌ خشبيةٌ، وستائر بيضاء. لا حياة. إنه أبيض الموت، أبيض الكفن والدفن. في الجدار الجنوبي للفوَّهة، كلُّ المحالّ التجاريَّة محطَّمة. التجهيزات المقتلعة والأوساخ، والمخلَّفات، مبعثرة فوق البلاط. لا زجاج في الواجهات. ألواحٌ خشبية، تسدّ جزئياً أبواب المتاجر. تجهيزات الإنارة متدلية من الأسقف. لا شيء يشير إلى رغبةٍ في العودة. المشهد يشير، إلى أن ناس الأمكنة قد هربوا. هروبهم كان فورياً دون التفاتة، دون اكتراث بما تركوا خلفهم.
في الطابقين العلويين، أفواه الأقواس فاغرة، يندلق منها سواد الداخل الجنائزيّ. صورة الهجر هنا تطغى. يغيب سحر الحجر الرملي الأصيل. يحجبه سواد الداخل المهجور المندلق، من الفتحات.
يتلاشى نغم الشرفات الرخامية الناتئة. في واجهات لا شبابيك فيها، ولا أبواب زجاجية، ولا زجاج ملوَّنٌ في أعلى الأقواس. لا شيء! فقدت الكسوة الإسمنتية الصفراء، كلَّ جاذبيتها. في هذا المناخ الجنائزيّ. تمنَّينا، لو نستطيع أن نصعد إلى الطوابق المفزعة، لنبعد الفزع، بالتمتُّع بالتأليف المعماري، للمجالات داخل الطوابق. لنعاين صلة الدرج المشترك، بالطوابق الأربعة التي تحوطه. ولنفهم موقع المطابخ، في التأليف العام. لكنّ التمنّي كان صعب المنال، لأن بوَّابة قفص الدرج في الطابق الأرضي، مقفلة بإتقان واضح.
لم يُطاول العصفُ، ملحق العنق بقسوة. فالمبنى الحديث، ذو الطوابق الأحد عشر، لا يزال في طور الترميم. وهو فارغ في كل طوابقه بالتأكيد. مهجورٌ. منسيٌّ. والمبنيان الكولونيَّاليان، قبالة مدرسة القلب الأقدس، صمدا، بوضوح. الهيكل من الخرسانة المسلحة، في الطابق الأرضي وفي الطوابق العلوية. المبنيان مسكونان، والألوان الزاهية تطغى في الواجهة الرئيسة. لكنَّها لا تُخفي أثرَ العصفِ في الأمكنة.
في الطابق الأرضي، النشاط التجاري مدفون، خلف الأبواب المحصَّنة بالألواح الخشبية، المثبتة بإحكام من الخارج. دكان هنا، وثان هناك، وثالث على بعد أمتار، دون قيمة فعلية تُذكر. إلاَّ أنَّها فارغةٌ كلُّها. لا أحد في داخلها غير صاحبها، يجلس خلف طاولة عتيقة، في العتمة لأن التيَّار الكهربائيَّ مقطوع. ولا أحد على الرصيف تشدّه سلعٌ معروضة في الواجهة. صاحب الدكان لا يبيع. ولا أحد يريد أن يشتري. فالشارع التجاري لا يعيش، والطوابق العلويَّة كلُّها فارغةٌ، مهجورة. باستثناء المبنيين الكولونياليين. والنسيج التراثي الملحق بالعنق، باقٍ على حاله، حتى كنيسة مار يوسف، بحجرها الرملي الأصفر الأصيل، تحكي عمارة بيروت التاريخيَّة، والذي يعود معظم المتبقّي منها، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

II ــــ العصف، بعد العنق والملحق
بعد كنيسة مار يوسف، يصل شارع لبنان إلى الجمَّيزة، مارّاً بمحلة التباريز. في الزاوية، عند تقاطع شارع لبنان مع شارع غورو - الجمَّيزة، قبالة كنيسة مار يوسف شرقاً، ينتصب المبنى الحديث الثاني. يقطع المبنى بوقاحةٍ فاقعةٍ، تَواصُل النسيج التراثي المبنيّ في واجهة شارع غورو – الجميزة، الجنوبية.
المبنى العَمودي الضخم، يتألَّف من طابقٍ أرضيّ ومن سبعة طوابق علوية. في زيارتنا للجمَّيزة في أواخر آب من العام الماضي، كان الطابق الأرضيُّ مدمَّراً في زاويتيه. في وسطه مطعم – مقهى، يعمل بخجل. الطابق الأوَّل في المبنى مدمَّرٌ كلياً. زجاج الواجهة في الطوابق السبعة، محطَّم بشكل كامل. المبنى في الطوابق، فارغٌ، منسيٌّ، مهجور.
اليوم، الأربعاء في 5 أيار من العام 2021، أي بعد ما يناهز التسعة أشهر، لم يكتمل ترميم المبنى بعد. في محور الطابق الأرضي، يعمل المطعم – المقهى، بفعاليَّة متزايدة.
المجالات الواسعة، في زاويتي الطابق الأرضي، فارغتان. لم يكتمل ترميمها بعد. استُبدِلَ الزجاج المحطَّم في الطابق الأول، لكنَّ الهجر يسكنُ المجالات، خلف الزجاج الجديد. استبدل الزجاج المحطَّم، في الطوابق السبعة. الحياة تطلُّ خجولة، يتيمة، من مكتب صغير في منتصف المبنى. إلاَّ أن المبنى لا يزال مهجوراً، منسياً. والمناخ العام في الأمكنة، ينضح وحشةً معتمةً، مفزعة.
بعد الفجوة، التي تلي المبنى العَمودي الزجاجي الحديث، رتلٌ من المباني التراثية التاريخية. تصطفُّ المباني عند الحدود جنوباً. إنها الجدار الجنوبي لشارع غورو – الجميزة، وهي بارتفاعات مختلفة. شُيّدت كلّها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. المبنى الأول، مكوَّن من طابق أرضي، ومن طابقين علويين. والثاني، من طابق أرضي، ومن ثلاثة طوابق علوية. والثالث، من طابق أرضي، ومن طابق علوي واحد.
المباني الثلاثة متلاصقة. جدار متدرج الارتفاع، يزهو بحجره الرمليّ العتيق. شهادة أصالة أكيدة، ونغم تاريخيٌّ يصدح في المكان، عذباً، مرئياً.
مطاعم كثيرة تعود، يحركها الحنين الذي تحدثنا عنه، ومباني الحداثة الأولى المهجورة


ضُمَّة الأقواس الثلاثة، ترسم محور المبنى الأول، في طابقيه العلويين. والضمَّة ذاتها، عَموديَّة الدلالة، تاريخيَّة الإيحاء في المبنى الثاني. أما المبنى الثالث، فهو تكرارُ محترفٍ، للبيت ذي الأقواس الثلاثة.
القوس الوسطيُّ أكثر عرضاً من القوسين على جانبيه. يؤكّد بهذا التفصيل، محوريَّة التأليف. الأعمدة رخامية أنيقة.
لا أطر خشبية. لا زجاج في الأقواس. ولا أطر خشبية ولا زجاج، في النافذتين اللتين تحوطان المحور. الشرفة الناتئة ممتدَّة، برخامها الأبيض، أمام الأقواس الثلاثة في المحور. ألواح خشبية تسدُّ كل الفتحات. ستائر من «القاش» الأبيض تغلّفها، فتحجب الداخل كليّاً.
لا أحد على الرصيف، أمام المباني الثلاثة. لا مشاة. لا مارَّة. لا أحد يُطلُّ من إحدى الشرفات، أو من إحدى النوافذ. لا أحد. لا حضور. لا حياة. المباني الثلاثة، تسعة أشهر بعد عصف النكبة، لا تزال مهجورة. العصف باقٍ. الموت حاضر. دون منافس. في الواجهة الشمالية، قبالة رتل المباني التراثية، بعد مدرسة القلب الأقدس، أعمال الترميم مستمرة. في مبنى ممتدّ، أفقياً وعَمودياً. في المبنى مطعم لبناني المطبخ، أعيد فتحه. المطعم فارغ. والدكاكين المجاورة فارغة أيضاً. والرصيف فارغ. لا مارّة، ولا مشاة، ولا فضوليُّون يقفون أمام واجهات الدكاكين، أو أمام زجاج المطعم. يغامر الجميع هنا، بضخّ المال وببذل الجهد. هدفهم، إعادة الحياة إلى الأمكنة المهجورة الميتة.
نعود إلى الفجوة في الجدار الجنوبي، بعد المبنى الحديث الثاني. ندخل. السقف عقدٌ أسطوانيّ. في الداخل خلف الواجهة الجنوبية الرئيسة، مجالات مفاجئة، وحياة أخرى. بيوت، ربما عادت في بنيانها، إلى الخمسينيات من القرن العشرين. وهي، من طابق أرضيّ، ومن طابقين علويين، مسكونة. وأخرى، مثيلة لها مهجورة. تتراكم المخلَّفات عند المدخل الرئيس، وعلى الشرفات. يحجب نوافذها الأباجور الخشبي الملوَّن. تكثر الأشجار المختلفة، حول المباني. وتكثر الحدائق.
المفاجأة الرئيسة، في الأمكنة، هي في المجالات الحرة الفسيحة، غير المبنيَّة. في الطرقات المتعرّجة. في الأدراج، التي تقودك دائماً إلى تلة الأشرفية. في الأبراج التي تنطح السماء، وقد بنيت كلها فوق التلة.
غلاف بعض هذه الأبراج، صَلْبٌ، فيه نوافذ، تساعدك في تعداد الطوابق فيها، وفي تقدير ارتفاعها. وغلافُ البعض الآخر، من الزجاج الملوَّن الداكن، يحجب كل شيء. فتتساءَل، وأنت في غمرة التنقيب، عن الحياة وعن العيش في مجالات عصفتها النكبة، تتساءَل، وأنت تعيش القلق والخيبة، كيف يستطيع الناس، أن يعيشوا حياة طبيعية، في أقفاص زجاجية ملوَّنة قاتمة؟ هيكلها من الحديد الأسود، أشبه بقضبان سجن؟!
تعود إلى الشارع الرئيس وأنت تردّد، ألا تكفيهم، قتامة الأوضاع العامة السائدة في البلاد؟ ألا تكفيهم، عتمة بيوتهم؟ وسواد معاشهم؟ والقحط في رزقهم؟ وفي الموارد؟! ألا تكفيهم، الدكاكين القليلة حولهم، فارغة؟! البائع وحده في ظلمة دكانه، وقد قُطِعَ التيار الكهربائي، ولا من يشتري! ولا من يقف أمام «الواجهة للفرجة».

III ــــ العصف باق، في الجزء الرئيس، من شارع غورو – الجميزة.
نترك صاحب الدكَّان، في وحدته المعتمة. نتركه جالساً خلف طاولته العتيقة. وقد طال انتظاره لمن يشتري، أو، في الحد الأدنى، لمن يتفرّج. نترك صاحب المطعم، ومطبخه اللبناني الأصيل، واقفاً أمام باب مطعمه، خلف ستائر الترميم الخضراء، نتركه، يصطاد أحد المارة القلائل، مبتسماً مرحّباً. المطعم فسيح، منظم، نظيف. يذهب كل هذا الجهد عبثاً، لأن لا مشاة على الرصيف نكرّر، ونكرّر، كي يصبح مشهد الرصيف، وقد هجره الناس، مرئياً، ملموساً.
يبقى صاحب المطعم منتظراً. وصالة المطعم الكبرى، خلف الباب، فارغة. وحده نادل، ينتهي من ترتيب طاولة، لينتقل إلى أخرى. ونادل آخر، يبالغ في حرصه على تنظيف الكراسي، وعلى رصفها بانتظام، حول الطاولات.
دكانان، ثلاثة... أبوابها مفتوحة، مضاءة، حين لا يكون التيار الكهربائي مقطوعاً. المشهد السائد، في شارع غورو- الجميزة، ثابت لا تغيير فيه. تسعة أشهر بعد عصف النكبة. استثناءَات نادرة وسط الإقفال القاسي. بالألواح الخشبية هنا، أو بالأبواب المعدنية الجرارة، هناك. أو، بالحد الأقصى، مجالات مفتوحة، فاغرة الأفواه. أماكن، لتجمّع الأوساخ، والمخلَّفات.
أُريدُ للمشهدِ أن يكون حقيقياً، مأساوياً، صادماً. لو كنت متحدّثاً، لسألت المستمعين، هل نجحت في ذلك؟
من التفاصيل الصادمة، إلى العصف في الجزء الرئيس من شارع غورو، الممتد حتى الالتفاف المزدوج، بعد كلية الثلاثة الأقمار. صعوداً، في طلعة العكاوي نحو منطقة الجعيتاوي، ونزولاً، نحو شارع باستور، في منطقة الرميل.
في منتصف هذا الامتداد الطويل، في منتصفه تقريباً، درج مار نقولا. معلمٌ رئيس. فُجوة عريضة لا تفصل. فالمباني المسكونة، تحوطه من الجانبين. واستدراجٌ واضحٌ للمارَّة، إلى الصعود باتجاه منطقة السراسقة الشهيرة، بمحاذاة مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس.
مخفر قوى الأمن الداخلي، في الواجهة الشمالية لشارع غورو- الجميزة.

عودة خجولة للدكاكين، بائع الخُضر الوحيد

معلم، مزدوج الدلالة في المكان. فهو برج مرتفع، وارتفاعه هو الدلالة الأولى. وكاسرات الشمس في واجهته، وهي الدلالة الثانية، إذ يواجه المبنى أشعة الشمس، قبالته جنوباً.
عبر عقد أسطواني، في مبنى تراثي، حجره رمليٌّ أصفر عتيق، ندخل ثانية، إلى المجالات المختبئة، خلف الواجهة الجنوبية الرئيسة. المفاجآت تتكرر، وكأنها انتقلت إلى الأمكنة من سابقاتها. مساكن في طوابق.
انفراجات. مجالات غير مبنية وحدائق. بعض المباني مسكونة. وبعضها مهجور. هجروا أمكنةً لا يطاولها العصف. قرَّروا، أن لا حياة ممكنة، في الأمكنة المختبئة، حين يعمُّ العصف والدمار، الشارع الرئيس.
لصيق الفُجوة إلى المخابئ، مبنى عَمودي، زجاجي، حديث. إنه القطع الثالث، في تواصل النسيج المبنيّ المتراكم، طيلة قرنين. أكرر للأهمية. نهمل القطع الفجّ، لنمعن النظر بعد الطريق، في مبنى تراثيّ، من طابق أرضي ومن طابقين علويين. ضرب العصف بقوَّة. هجره ساكنوه. لا نوافذ فيه ولا زجاج. ألواح خشبية تسدّ الفتحات. ستائر من النايلون السميك، تحجب الرؤية. مشهد يتكرَّر، بتكرار نتائج العصف المدمّر، القاسي المسيطر، حتى هذه اللحظة، يوم الأربعاء، الربيعي الدافئ المشمس، في 5 أيار من العام الجاري.
وسط المشهد المأساوي، يُفرحنا الحجر الرملي الأصفر العتيق. الظاهر بوضوح عنيد، في واجهة المبنى. الزمن تاريخي، بحضور الحجر الرمليّ الظاهر. يعود تشييد المبنى، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كالمباني التي سبقته، في سياق الواجهة الجنوبية لشارع غورو – الجميزة. يسرد المبنى حكاية تحطيم أسوار بيروت، وخروج ناس المدينة من الأسر، إلى منازل بنوها، على جانبي طرق بيروت الرئيسة آنذاك. طريق الشام، طريق طرابلس، وطريق صيدا. تتذكَّر خريطة بيروت في توسعها، هدية جوليوس لويتفد، إلى السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1876.
تنظر إلى حجارة البناء الرملية الصفراء الداكنة، فتسمع صوتها، تحكي انتقال ناس المدينة في سكنهم إلى مطارح جديدة، منتشرة بامتداد الطرقات، أكرر. دون أن ننسى، الانتقال إلى مكونين رئيسين في جغرافية بيروت، تلة الأشرفية شرقاً، وتلة المصيطبة غرباً.
ماذا في الواجهة الشمالية، في هذا الجزء الرئيس من شارع غورو – الجميزة؟
الحكايات كانت طويلة مشوّقة، يُرويها حجر المباني التراثية المتتابعة. مجموعات متباعدة، متلاصقة، متناغمة. تكتب، رغم تباعدها، الروح الحيَّة المنعشة، لهذا الجزء من واجهة الشارع الجنوبية.
منعشة!؟ والعصف باقٍ بحضورٍ موجعٍ؟ يُحاصر المنطقة بكاملها!؟
منعشة!؟ وكل الطوابق العليا، فوق الدكاكين المخلَّعة، معتمة، مهجورة خاوية. يسكنها، طيف جنائزي أسود مفزع! مقيت!؟
ماذا في هذا الجزء من الواجهة الشمالية؟ وقد كانت محمية نسبياً، من عصف النكبة الآتي من خلفها، من الشمال، من البحر؟ أعود إلى سؤالي، والألم يعصرني. ونكبة الهجر الجماعي المعمَّم، تحاصرني. متمدّدة في الواجهة الجنوبية للشارع، متواضعة محدودة، في واجهته الشمالية.
في هذا الجزء من الواجهة الشمالية، حراكٌ لافت في الطابق الأرضي. جهد مكثَّف يُبذلُ. وهو يهدف، رغم المناخ العام السائد، إلى إحياء الحنين إلى الماضي القريب، عندما كان سكان الطوابق يشكون، من صخب الساهرين، في مطاعم الطابق الأرضي، وفي حاناته.
مطعم ثان أعيد تجهيزه، بعد المطعم الأول. الذي سبق وأدهشنا وجوده، في مبنى طويل يُرمم، بعد مدرسة القلب الأقدس.
مطعم ثان، بواجهات زجاجية أنيقة، وإنارة مميزة، وتجهيزات منتظمة جميلة. واستمر دفع الحنين فاعلاً في الجوار الشرقي، حيث جُهّزَ مطعم ثالث، باحتراف وحرص، واضحين.
الرغبة في استعادة بعض ميزات الشارع السابقة، واضحة. والحنين إلى استعادة طابع الأمكنة طاغٍ. مع ضرورة التأكيد، على التناقض الفاقع، بين هذا الحنين الطبيعي المحيي، وقسوة المناخ العام المسيطر في الأمكنة، كل الأمكنة.
ــ مناخ الفراغ الأسود والهجر الجماعيّ الهارب الخائف.
ــ مناخ المتاجر المقفلة بما تيسَّر، والأرصفة التي لا حياة فيها، ولا ناس.
ــ مناخ الشارع مزدحماً، بسيارات عابرة إلى مطارح بعيدة.
أعمال الترميم مستمرة، حتى الالتفافة عند طلعة العكاوي، نحو منطقة الجعيتاوي في الأشرفية.
في الأجواء السائدة هذه، أجواء هَرب الناس واندثار الحياة، نصادف في جزء الواجهة الشمالية، بعد هجمة المطاعم، مبنى كولونيالياً، من طابق أرضي ومن ثلاثة طوابق علويَّة. المبنى مرمَّم، ولكنَّه، كغيره من المباني معتِمٌ ومهجور. يضيف المبنى، إلى استقرار فعل العصف في الأمكنة، منشأة أنيقة معدّة لسكن الأشباح، وربما، كما يقول البعض، لاستقرار الأرواح الشريرة.
أفواه الأقواس فاغرة، يندلق منها سواد الداخل الجنائزيّ. صورة الهجر هنا تطغى. يغيب سحر الحجر الرملي الأصيل


في منتصف الجزء الرئيس من الواجهة الجنوبية، بائع الفواكه والخُضر الوحيد، في الشارع الطويل الممتد. يفلش البائع بضاعته على الرصيف. تحوط البضاعةُ مدخلاً ضيقاً، إلى داخل الدكان، حيث جلس البائع، على كرسي خشبي ينتظر. تفاح، وموز، وبرتقال، وخُضر مختلفة. امرأة عجوز تأتي، فيقفز صاحب الدكان عن كرسيه مهملاً انتظاره. تفاحتان، وثلاث حبَّات من البرتقال، وضمتان، بقدونس ونعنع. تدسّها المرأة داخل كيس تحمله. تدفع للبائع. تغادر...
نموذج، عن نمط الحياة السائد في الأمكنة المهجورة. لا يتكرر المشهد في دكَّان الأجبان والألبان، الذي يفاجئنا، بعيداً عن دكان الخُضر. الواجهة ضيقة، لا بضاعة على الرصيف. الدكان فارغ. وحده البائع في داخله، بيده سُبحة يلهو بها.
نعود إلى أعمال الترميم المستمرَّة، بعد حاشية المبنى الكولونياليّ المهجور، وواقع الدكاكين راهناً.
بعد فجوةٍ في جدار الواجهة الجنوبية، عمّالٌ، منهمكون بترميم مقر حزب الكتلة الوطنية. المبنى رمادي اللون، من طابق أرضي، وطابق أول جزئي. كتلُه متداخلة. جدرانه شبه صمّاء. ونوافذه قليلة. قد تدلّ هذه اللغة المعماريَّة، على الوظيفة السياسيَّة للمبنى المتواضع.
بعد المبنى المتواضع، بيت فخم، من طابق أرضي ومن طابق أول. سور خارجي. حديقة وارفة أمامه، وعلى جانبيه، الشرقي والغربي. البيت لآل داغر في الطابق الأرضي. وربما لغيرهم في الطابق الأول، الذي نصله، عبر درج خارجي، يحمله قوسان من الحجر الرملي الأصيل. باب الطابق الأول في الجدار الغربي، عند نهاية الدرج الخارجي.
تسعة أشهر مضت، والبيت لا يزال قيد الترميم. تغلَّب على العصف الذي أصابه، فاستعاد قرميده. واستعاد «الليوان» الواسع، في الطابق الأول. وحافظ على الأقواس الثلاثة في الطابق الأرضي. واستمرَّ السور يحميه، ويحمي الحديقة الوارفة، تزيّنه، وتظلّله.
نصل، بعد مسافة من هذه الدارة الفخمة، إلى درج مار نقولا الشهير. وقد حدَّدنا موقعه سابقاً، في منتصف الجزء الرئيس من شارع غورو – الجميزة. وقلنا أيضاً، في موضعٍ سابق من هذا النص الطويل، إلى أن الدرج، لا يشطر الأمكنة، لا بل يوحّدها. لأن المباني المسكونة، تحوطه من الجانبين. وهو بمثابة شارع متدرّج، يصل شارع غورو – الجميزة، بمنطقة السراسقة. يصلها، ملاصقاً مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس.

IV ـــ تراث، ومطاعم كثيرة تعود، ومبان تراثية منتشرة، أصابها العصف.
مطاعم كثيرة تعود، يحركها الحنين الذي تحدثنا عنه، ومباني الحداثة الأولى المهجورة. يعود الزمن التاريخيُّ، ويعود معه تراكم المباني عبر السنوات، في الحضور المباشر. مبنى تاريخي مهجَّن. الطابق الأرضي، والطابق الأول، بُنيَا في زمنٍ سبق بنيان الطابق الثاني والسطح. يلاصقه مبنى تراثي أصيل. طابق أرضي فوقه طابقان علويان. يفرحنا مجدَّداً، الحجر الرمليُّ العتيق، الظاهر في واجهة المبنى.
تعود موجة المطاعم، المفتتحة حديثاً في الواجهتين، بعد هذا الفاصل التراثيّ الملتبس. ولا تترك مجموعة المباني التي تلي الفاصل، في الإدراك، أي التباس حول عمرها. فهي حديثة، من طابق أرضي، إلى ستة أو سبعة طوابق علوية. بنيت كلها في زمن الحداثة الأولى الوافدة، من أوائل، إلى منتصف خمسينيات القرن العشرين.
وفي التراكم التاريخي المعتاد، نقف أمام مبان تراثية مرمَّمة. تكثر في الواجهة الجنوبية هنا، الفجوات نحو تلة الأشرفية، حيث النسيج المبني المختبئ كالعادة، والمهجور مثل كل الأماكن التي عرفناها قبله. والأبراج الوقحة، تنطح السماء، كالعادة أيضاً.

مبانٍ كولونيالية أصابها العصف، زاهية بألوانها، مهجورة تسكنها الأشباح

ويُخرجنا من هذه الرتابة، مبنى تراثي مزين، مرمَّم بإتقان، مكوَّن من طابق أرضي ومن طابقين علويين. والمبنى، رغم زينته، ورغم كل الإتقان في ترميمه، ورغم كل العناية في صيانة واجهته، المبنى، رغم كل ذلك، مهجور، معتم، جنائزي، تسكنه الأشباح.
شارع غورو- الجميزة، طويل ممتد. والمباني التراثية، التي أصابها عصف النكبة، كثيرة. وهي متتابعة في تموضعها، مع امتداد الشارع، حتى الالتفافة في طلعة العكاوي، نحو منطقة الجعيتاوي في تلة الأشرفية.
أبنية تُرمَّم بإشراف وزارة الثقافة، المديرية العامة للآثار. أعمال الترميم، مختبئة خلف ستائر بيضاء، تغلف هيكلاً معدنياً. الستارة تُستعمل كلوحة إعلانية. تحمل اسم الاستشاري، المكلف بدراسة أعمال الترميم، وإمكانية تنفيذها. وتحمل اسم شركة المقاولات، التي تقوم بتنفيذ أعمال الترميم. وتحمل، بشكل بارز خاصة، الإشارة الواضحة إلى مسؤولية وزارة الثقافة للمديرية العامة للآثار.
ومبانٍ أخرى، تقول لنا الستائر التي تغلفها، إن مؤسسة «أبساد» (Apsad) تتحمَّل مسؤولية الإشراف على أعمال الترميم.
وفي مبنى آخر يُرمَّم، كُتب على الستائر البيضاء، اسم المالك فقط. دون أية إشارة إلى الاستشاري، أو إلى المقاول.
بعد ضمَّة من المباني، ورشة ترميم أخرى. هيكل معدني أزرق، تغطّيه الستارة الخضراء المعروفة. أعمال ترميم متواضعة خلف الستارة. ويتكرَّر المشهد. قريب من الذي قبله أحياناً، بعيد عنه أحياناً أخرى. معزول في إحدى الزوايا، غالباً. يعزف منفرداً على وترٍ واحدٍ، وتر الترميم. تتقدَّم أعمال الترميم ببطء، وقد رأينا بدايتها منذ تسعة أشهر.
لا أحد في الطوابق العليا. كلها مهجورة. دون وجود دلائل، على رغبة في العودة. أعمال الترميم، منثورة بامتداد الشارع الطويل. والغالب في المشهد العام، العتمة في الفتحات بأفواهها العارية الفاغرة. وألواح الخشب تسد النوافذ، وتحجب كلياً المجالات المعمارية خلفها. ربما سكنتها الأشباح يقول البعض، أو احتلَّتها الأرواح الشريرة، يحملها غضب العواصف والنكبات، يقول البعض الآخر.
المهم، أنه من الممكن، وجود كائنات غريبة متخيَّلة، افترشت بلاطها. ولكن بالتأكيد، لا وجود للناس فيها، لا وجود للحياة.
الجديد، هو محاولة طرد الوحشة، التي تسير فوق الأرصفة، عبر إعادة الحياة إلى بعض الدكاكين المتباعدة. وإعادة العمل والنشاط، إلى بعض المطاعم. حنين مشروط بوجود الناس في الأمكنة.
المؤسف، أنك تزور المنطقة مرات. تسير فوق الأرصفة. تتوهَّم أن تصادف عابراً، أو فضولياً متنزهاً. ولكن، تبقى الصدمة هي الصدمة. لا مشاة، لا متنزّهون، لا فضوليون. لا أحد.
والجديد الآخر في طرف الشارع الشرقي، أن كلية الثلاثة الأقمار، استعادت بابها، ونوافذها، وسقفها. ونُظّف حجرها، واستعادت مظهر الحياة المتألقة. والجديد بعد الكلية، أعمال التدعيم، تشرف عليها المديرية العامة للآثار، لثلاثة أقواس من الحجر الرملي. فوقها بقايا مبنى تراثي متراجع، من عدة طوابق. ضاع سقفه، وانهارت أقسام رئيسة من جدرانه.
تدعيم، يراد منه الحفاظ على ما تبقّى من المبنى، بما يتيح عودة الحياة إليه.
مغامرة بلا أفق هي؟ أم أن القيامة، ستبدأ من هناك؟
* معمار لبناني