في عددها الجديد (السنة الثانية/ العدد الأول/ آذار 2021)، تحتفي مجلة «ماكو»، التي يرأس تحريرها الفنّان ضياء العزاوي برفيق دربه التشكيلي العراقي رافع الناصري (1940-2013) أبرز وجوه الحداثة داخل الساحة العراقية إبان ستينيات القرن المنصرم. جعل رافع الناصري ضيفاً للعدد، يأتي أوّلاً بسبب المكانة التي أضحت المجلة تحتلّها داخل الحركة التشكيلية العربية في الآونة الأخيرة. مكانة تأتي لتُغطّي عن العجز المُميت، الذي يطبع شحّ المجلات الفنية داخل العالم العربي. سلفية ثقافية تحتكم إليها هذه المنابر منذ نهاية القرن الماضي، مشدوهة أمام ركام الروايات التي تصدر هنا وهناك، كأنّ في هذه الأخيرة يكمن ميلاد العرب وانبعاثهم وخلاصهم وموتهم.
طباعة من لوح خشبي (40 × 60 سنتم ـــ 1961 ـــ مجموعة الابراهيمي ـ عمان)

أجمل ما في «ماكو» أنّها لا تأتي كمطبوعات فنيّة تلهث جاهدة إلى نقل أخبار الفنانين ومعارضهم، بل إنّها تعيد تتويج المسار التشكيلي العراقي على شكل دراسات تاريخية مونوغرافية، تقرأ التجارب الفنية الرائدة على ضوء مفاهيم جديدة وداخل سياق ثقافي ومجال معرفي مخصوص هو «تاريخ الفنّ التشكيلي». وهذا الأمر، يجعلها متفرّدة داخل السياق الفنيّ العربي، بحكم ما تُقدّمه من دراسات وصور ولوحات وبورتريهات عن التشكيليين العراقيين، بما يجعلها مرجعاً قويّاً لذاكرة الفن التشكيلي العراقي. ولا شك في أنّ إصدار مجلة تُعنى بالتشكيل العراقي، في وقت أضحت فيه الرواية معيار نجاح الثقافة العربية المعاصرة، يجعلها تسقط في سلسلة من التنميطات الفكرية، فالثقافات العالمية الناجحة فكراً وأدباً وفنّاً، تُنصت بهدوء إلى مختلف التغيّرات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تستبدّ بجسدها وتستبطنها، ثم تجعلها عبارة عن تحوّلات مهمة تنبعث من داخل هذا الجسم الأم (الثقافة)، الذي يفطن إلى سلسلة من الاختراقات، فيعمل على تصويب رؤيته صوب مفاهيم جديدة وقضايا مركزيّة تشغل الاجتماع العربي، كما هو الشأن لقضايا الصورة والتصوّر وتمثّلاتهما داخل الفنون العربيّة المعاصرة... عوض الركون إلى جنس أدبيّ تمّ إفراغه من محتواه الفكري، فأضحى منجزه الإبداعي عبارة عن كتابة تفتقر إلى التخييل وإلى كل أشكال الصناعة الثقافية التي تتّسم بها الرواية المعاصرة في مراكز العالم. أضف إلى ذلك تحوّل كُتّاب ونقاد وشعراء إلى كتابة الرواية... أمرٌ يستدعي بعضاً من التفكير والنقد في هذه الظاهرة، التي لا علاقة لها بالثقافة، بحكم الحظوة المادية التي أضحت تعرفها الرواية في الآونة الأخيرة. غير أنّ صدور «ماكو» داخل هذا الأفق الثقافي المُستلب، يجعلها تضرب بقوّة في صلب حداثة الثقافة العربيّة، ليس لأنّها تتحدّى صعاب الطبع والدعم والاستثمار في صناعة مجلة فنيّة تتطلّب نوعاً من العناية الفائقة على مستوى طبيعة الورق والحرص على إخراجها بحلّة معاصرة، ولكن لأنّها تغامر في ارتياد عالم الصورة الفنيّة ومُتخيّلها الإبداعي، أمام ثقافة فقهية لا تكفّ عن تدوير نماذجها وأنماطها وأشكالها بدون التفكير في إمكانية فتح هذه الثقافة على ما يشهده الواقع العربي اليوم، بحكم منزلة مرموقة أضحت تتنزّلها الصورة في حياته اليومية، سواء تعلّق الأمر بالثقافة أو حتى بالأبعاد الجيوسياسية وحروبها، التي اقتحمتها الصورة وعرّت كلّ تفاصيل ونتوءات تتستّر عليها الأنظمة القمعية.
أهميته تتمثّل في حرصه على جعل الفعل التشكيليّ ينبثق من جسده وهواجسه الفنية والإبداعية


أما الأمر الثاني والمهم، الذي يجعل «ماكو» تفرد عدداً خاصّاً برافع الناصري، فيعود إلى مكانته على الساحة التشكيليّة العراقية والدور البارز، الذي لعبته تجربته في مجالَي الحفر والتصميم. فهو يُعدّ من أوائل الفنّانين العراقيين الذين فتحوا اللوحة العراقية على هذه العناصر الجماليّة في وقت كان فيه التشكيل العراقي كأنّه أضحى مدرسة حروفية تلهث وراء الهوية العربيّة ومحاولة إدماج الخط كإحدى العلامات الجماليّة، لمُحاولة إعطاء البُعد التاريخيّ للحضارة العربيّة الإسلامية داخل اللوحة. رغم مظاهر التجديد التي وسمت الحروفية مع جماعة البعد الواحد وتوسيع أفقها وجماليّاتها، إلا أنّها تبدو اليوم عربياً قد استنفدت حياتها، بخاصّة أنّها ارتبطت بسياق تاريخي بعينه أسهم في إبرازها وتغذيتها وجعلها ميسماً فنياً تنطبع به اللوحة العراقية. لكن أهمية الناصري ظلّت تتمثّل في حرصه على جعل الفعل التشكيليّ ينبثق من جسده وهواجسه الفنية والإبداعية على شكل تجربة تغوص في الرسم وفن الغرافيك ودفتر الفنان. المتأمّل لتجربته يندهش من حجم الغنى الذي عرفته منذ بداياته الفنية في الصين، فالرجل لم يعرف التجريب الفني، بل اشتهر بنمطه الواحد في فنّ الرسم واكتسح بسبب معرفته ودراساته المعمّقة في الفنون اليدوية متاحف وقاعات العالم منذ سنة 1965 على شكل دعوات رسمية جماعية أو فردية.

بدون عنوان (أريليك على قماش ـــ 90 × 100 سنتم ـــ 1979 ـــ مجموعة بارجيل ــ الشارقة)

ولأنّ الفنّان قد اتّجه إلى مناحٍ جماليّة واشتغالات فنيّة، لم تعرفها الساحة العراقية إلا في سنوات متأخّرة، فقد جعله ذلك يعرف كفنّان غرافيك مجدّد يفتح للوحة آفاقاً جديدة على مستوى الشكل والتخييل. الحداثة في أعماله لا تتبلور كمفهوم لاحق عن تجربته الفنية، لكن كعملية فكرية رافقت مسار وعيه التشكيلي، إذْ يصعب نزع الحداثة عن أعماله الأولى، وقد يبدو ذلك مختلفاً بالنظر إلى جغرافية التجارب التشكيلية العربية، التي عادة ما ترتسم في ذهنية النقد الفني مدى تشابك بعض اللوحات مع تجربة غربية، سواء عن طريق صياغة المادة أو الأسلوب أو الموضوع، لكن في حالة رافع الناصري في لوحاته الأولى، فإنّ الناقد لا يعثر إلا على جسد الفنّان بآلامه وجراحاته. أعماله تُحلّق بنا بعيداً عن قبح العالم الذي ننتمي إليه، بخط عربي لا يتوقّف عند جماليّاته الحركية، ولكن عند موسيقاه البصريّة وهي تُدهش العين بتموّجها وتختفي نهائياً من فضاء اللوحة، ثمّ يبدأ معها رافع تجربة أخرى تأخذنا إلى فضاءات أخرى من الحلم تستند إلى تجاور الفنون وتواشجها في نسج عمل فني. فالفنّان حدس منذ الستينيات داخل «جماعة الرؤيا» إلى العلاقة العضوية التي تربط بين الفنون البصريّة، وعمل على استحضارها والتوغّل في مسامها. إنّه يلعب على الحدود بين الفنّ واللافنّ، بين الحلم واليقظة، بين التاريخ والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة وسواهما من الثنائيات الفكرية، التي تُؤسّس مسار التجربة التشكيليّة العراقية خلال الستينيات المعروفة بتنوّع أنماطها وأشكالها وصياغاتها وتوليفاتها داخل مختبر الحداثة العراقية.
المواد المُتضمّنة داخل العدد الجديد، تختلف بتعدد مرجعياتها ومنطلقاتها المنهجية، التي تصوغ تجربة رافع الناصري، بين الكتابة التي تأخذ البُعد السير ذاتي، وأخرى تُحاول أنْ تُقيم عناقاً قويّاً مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وصولاً إلى الكتابة العاشقة التي تحفر في تجربة رافع الناصري من الداخل وتُقيم معها سجالاً ينطلق من المادة وينتهي داخلها. لكن ما يجعل هذه المواد نوعيةً رغم قلّتها، أنّها تبحث عن اللامفكّر فيه من حياة الفنان وعلى عناصر لم تطرق من قبل داخل تاريخ الفن العربي مثل الغرافيك ودفاتر الفنّ والتصميم. فهذه العناصر المُشكّلة لمشاغل الفنانين العرب، ظلّت منسيّة داخل خطاب النقد الفني العربي، والسبب أنّها لا تدخل ضمن الخط العام الذي عادة ما ينصاع إليه الكُتّاب والنقاد والصحافيون، وهو السيرة الفنية والشخصية للفن العربي أو مراجعات للكاتالوغات الفنية أو متابعات للمعارض واللقاءات التي تُقام هناك وهناك. هذه الموضوعات تندرج في خانة المونوغرافيات التي لا يستشعرها إلاّ مؤرّخ الفنّ الحصيف المُتتبّع لأطوار نشوء العمل الفني داخل سياقات محدّدة.
الفنان في بيكين عام 1960 (أرشيف محترف الناصري)

ففي الوقت الذي يرصد فيه المُؤرّخ سيرة فنّان، عادة ما يتوقّف عند هذه التفاصيل الجماليّة، سيّما في تجربة مثل رافع الناصري، فيما تُميّزه كونية تتحدّى حدود المحلية والسياجات الإقليمية والقوالب الفنيّة وإرثها التصويري. تُفيد مواد كل من سعد القصاب، وكريم السعدون، ومي مظفر على فهم الكثير من «الرجّات» التي طاولت تجربة الناصري، وتُظهر هذا الـ «ما بين» الذي وسم أعماله منذ الستينيات. فالدفتر الفني ظاهرة، بدأت تتلاشى من الساحة العربيّة، فهي ربما قد لا تهمّ المُشاهد بشكل أكبر بالمقارنة مع الناقد/ الباحث/ المؤرّخ لفهم المخاض الفني الذي انبثق من لوحة أو منحوتة أو تصميم، خاصّة إذا رافقت هذه الخطوط التصويرية كتابات شخصية ترصد حجم المعاناة، التي تستبد بالفنان قبل مباشرة العمل صباغياً. أما التصميم في العالم العربي، فيطغى عليه الترفيه والبُعد الإعلاني والصناعة التقنية القائمة على التدوير والنقل، لكنّه عند الناصري يتّخذ طابعاً فنياً وجمالياً، فرغم أنّه صناعة مستقلّة، يبقى التصميم مرتبطاً بشكل وثيق باللوحة. ولم تتوقّف مواد المجلّة عند هذه العناصر الفنية والجماليّة فقط، بل اعتمدت على النمط السير ذاتي من خلال تأريخ مسار الفنّان ذاتياً وفنياً. فالعدد يتضمّن عدداً هائلاً من المعلومات التي تحتاج إلى ترتيب دقيق يرسم منطقها الخاص داخل تجربة الناصري، قبل الولوج إلى مرحلة أخرى من الكتابة، حيث يرتفع منسوب التحليل والتدقيق في طبيعة اللوحات والتصاميم ورصد سياقاتها التاريخيّة والفكرية ومدى تميّزها واختلافها عن الأعمال الأخرى الموجودة اليوم داخل العراق. وهذا الأمر مُغيّب في العدد، إمّا لأنّ النمط يحتاج إلى وقت للاختمار أو لأنّ المادة جاءت داخل مجلّة موجّهة إلى قراء وشرائح مختلفة من المجتمع داخل العالم العربي، لا تهمّه هذه الكتابات الفكرية، بحكم الطابع المجرّد الذي يُلجم منطلقاتها المنهجية أفقها التأمّليّ والمعرفي. مع ذلك، فإنّ هذه الأنماط كلّها التي وردت في المجلّة، تبقى مهمة بغضّ النظر عن طبيعة الاختلافات المُتباينة بين هذه الكتابة، فقد استطاعت أنْ تُحقّق تناغماً بين الشكل والمضمون للوصول إلى مبتغى واحد يرتكز إلى فحص تجربة الناصري وإبراز مكانته، بما يجعلها في طليعة السير التشكيليّة العربيّة المُبكّرة، التي تعلّمت الغرافيك وأعادت من خلال هذا العنصر الفنيّ نسج علاقة خاصّة وآسرة مع الراهن التشكيلي العراقي منذ الستينيات.