هذه المرّة، كان علينا أن نستعيد المشهد بمرآتين، بملاءتين، بقبرين: بدر شاكر السياب (1926- 1964) في المستشفى الأميري في الكويت، وسعدي يوسف (1934- 2021) الذي رحل أول من أمس في منزله في إحدى ضواحي لندن. كلاهما من أبي الخصيب في البصرة. شاعران شيوعيان ماتا خارج بلادهما مثل معظم الشعراء العراقيين!
في منزله في هيرفيلد (تصوير صموئيل شمعون)

رحل السيّاب باكراً، ولكن بعدما أشعل جمرته في موقد الحداثة الشعرية بأيقونته «غريب على الخليج»، فأكمل سعدي يوسف المغامرة من موقعٍ آخر أكثر احتداماً وتنوّعاً وابتكاراً في تأصيل معجمه الجمالي، بعيداً عن الحماسة والبيانات الشعرية التي وسمت تجارب مجايليه، في مسعى محموم إلى ترويض الإيقاع واستنبات شعرية مضادة في مشتل اليومي والملموس والمهمل، بأقلّ قدر من الهتاف، أو كما يقول: «النص الشعري يمسّ الأشياء، بأنامل مرهفة. إنه يومئ. ولا يوجه. وفي النصّ إنصات. محاولة فعلية للإنصات. لكنه الإنصات إلى المبهم. إلى الأصوات غير المسموعة» (خطوات الكنغر). سيُشار إلى شعره بمصطلح صميمي هو «النبرة الخافتة» كانعكاس صريح لانتصار المرئي والمحسوس على الصوت العالي ومتطلّبات الشعر المنبري. لكن صاحب «صلاة الوثني» سيغزل قصيدته بنولٍ مختلف، يتجاوز منجزه التأصيلي نحو مهارات بلاغية غير مأهولة قبلاً، فهو لا يمكث طويلاً في التضاريس نفسها. ستخبو غنائيته تدريجاً باكتشافات مبهرة تعمل على الإفادة من المشهدية والسرد فوق قماشةٍ واحدة، حتى إنه لا يتوانى عن استخدام مفردات يومية نافلة بالنسبة إلى الآخرين، أو ما يقع في باب ما ليس شعراً، إلا أن خيطاً خفياً يمنحها حميمية ما، وسوف يجازف لاحقاً باستخدام مفردات طللية وألفاظ متروكة في عتمة القاموس، وتطويعها في نسيج جملته الراهنة، في تشابك آسر، ليؤكد ربما أنه «حفيد امرئ القيس» حقاً، وفقاً لعنوان أحد دواوينه المتأخرة، مراهناً على زخم المفردات القديمة والمهملة وصهرها بخلائط بلاغية من مشاتل شتى، مبتعداً عن رطانة الغيبيات، واليقينيات، ورنين الإيقاع المستقر، كقوله «وتسألني ليزا وقد أطبق الدجى»، و«عسعس الليل»، و«ألا إن نار الحيّ بعر وعرفج».
وفي المقابل سنقع على أبعادٍ بصرية واضحة في رسم قماشة النص في مشهديات شبه فوتوغرافية. هكذا يربك سعدي يوسف قارئه ببداهة مفرطة في بناء قصيدته، كأنّها من الطين المشوي وسعف النخيل، من دون زخرفة. ما يبدو مجرد تدوين يوميات ومشاهدات واستذكارات، هو في الواقع نتاج خبرة واشتغالات لغوية، نأَت عمّا خارجها، وإذا بها تشير إلى صاحبها من دون تلكّؤ، فالجمال يكمن في ما يقع بمرمى اليد وانخطافة العين. علينا أن ندرك أن صاحب «طيران الحدأة» قد أحدث انعطافة جذرية في تجربته الشعرية منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم، لجهة النبرة الخفيضة وتشذيب الجملة الشعرية من الهتاف والضجيج اللفظي والزوائد، ملتفتاً إلى أرشفة المعيش واليومي. ربما بتأثير من اطّلاعه عن كثب على أعمال ريتسوس، وكافافي، وويتمان، ولوركا، وأونغاريتي، الأعمال التي ترجمها إلى العربية بمذاقه الإيقاعي أولاً، ثم راح يحفر مجراه على مهلٍ لتشفّ قصيدته إلى حدود المشافهة، والتحديق إلى الموجودات من دون مواربة.
شاعر مشّاء يتنزّه على هواه، في تجوال طليق، فيسجّل مشاهداته في مدن نائية، وساحات، وشوارع، وحانات، ومراكب، وجبال، كأنه لا يريد أن يقول أبعد من هذا الوصف العادي. لكنّ جملةً خاطفة ومباغتة، ستغيّر مجرى السرد، وتشحنه بكثافة غير مرئية، كثافة محمولة على غبطة شخصية في اختبار حياة أخرى، لم تكن متاحة قبلاً. حياة رعوية متفلّتة من القوانين، لا تتشبّث بمكان، وإن كانت تستدعي مكاناً غائباً، بإشارات صريحة إلى «وطن لم يعُد قائماً». يقول: «ترحّلتُ حتى ما عادَ من مُرتحلٍ»، و«غير إن المنازل مثل الطباشير تمحى». لعل هذه الجملة تختصر آلام الشاعر المنفي وارتباكاته ومكابداته في تدوين الغياب. وحسب قراءة فاطمة المحسن لتجربته، فإن مشروعه الشعري «يولي العالم الشخصي أهمية تفوق تجريدات الفكر وتهويماته خارج التجربة» (سعدي يوسف النبرة الخافتة في الشعر العربي الحديث). عند هذا المنعطف تنزوي القصيدة إلى ركنٍ شفيف، من دون ادّعاءات بلاغية، كأنها لا تقول شيئاً عدا المشافهة، لكنها في العمق تنطوي على نموذج يفترق عن سواه، يتأسس على روحانية تخصّ سيرته الشخصية في المقام الأول، تبعاً لترحاله بين الأمكنة وما تمنحه له من مرئيات، كما فعل في كتابه «الدروب الذهب»، مقتفياً أثر ابن بطوطة في رحلاته من طنجة إلى حلب، في عملية تناص مبتكرة. مقاطع مما كتبه ابن بطوطة عن المدن التي زارها، يليها ما كتبه شاعرنا عن الأمكنة نفسها، أو ما جاورها، من موقع المشّاء أو جوّاب المدن، لكنه خلافاً لسلفه لا يعتني بالجغرافيا، إنما يلتفت إلى المحسوسات أو ما سيسميه لاحقاً «جنّة المنسيات». جنّة قد تكون «حانة» أو «غرفة في شيراز»، أو بحيرة وخفق أجنحة طيور، أو ساحة في بكين، تبعاً لتجواله، كأن تحوّلات قصيدته تأتي ترجيعاً لتبدّل الأمكنة، واستنفار الحواس. وهو بذلك يؤجل معنى المنفى الشاق باللااستقرار، إذ لم يعُد المنفى عقاباً دنيوياً بقدر ما هو فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفقدان. كأن «البلاد التي قد وُلدت بها لم تكن» يقول. ويضيف: «لم أبدأ في اكتشاف نفسي، ومعرفة ما أريد، إلا حين صرت رحّالة وحيداً»، منوّهاً إلى أن «المغادرة هي الأصل، والإقامة هي المؤقت»، وصولاً إلى فكرة «لا وطن ولا منفى».
الاهتزازات في الرؤية التي تأتي من باب تطوير المعجم الشعري، لن تنسينا حقبته الذهبية التي تتمثّل في مرحلة «الأخضر بن يوسف ومشاغله»


لكن هذه الاهتزازات في الرؤية التي تأتي من باب تطوير المعجم الشعري وخصوبة التجربة، لن تنسينا حقبته الذهبية التي تتمثّل في مرحلة «الأخضر بن يوسف ومشاغله» (1972)، و«تحت جدارية فائق حسن»، و«خذ وردة الثلج خذ القيروانية»، فههنا تحتدم العاطفة بغنائية مشبعة، وشجن لن يتكرّر بالمقادير نفسها في نصوصه اللاحقة التي تكاد تخلو من البريق والدهشة، نظراً لانخراطه في اليومي والعابر، والاحتفال بحياة يقودها مركب سكران بلا مجداف «سيرتي مغادرات متصلة» يقول. ينبغي إذاً، أن نفحص تحولاته الأخيرة بمبضع آخر كي نكتشف رحيقها السرّي، وملمس عشبها اللامرئي، ونبرتها المختلفة، وزهدها البلاغي في حدوده القصوى. على الأرجح، إن غزارة الشاعر في سنواته الأخيرة، لم تُتِح لنا تأطير تجربته بطيفها الواسع، إذ اشتبكت قصيدته بكل ما يصادفها في الطريق بارتجالات تمليها لحظة الكتابة، في المقام الأول، بالإضافة إلى انخراط الشاعر في الكتابة اليومية على موقعه في الانترنت، أو في صفحته الشخصية على فايسبوك، بما يعيشه أو يقلقه أو يشغله من تحوّلات في الخريطة العربية المشتعلة بهجائيات ومكاشفات ومعارك تفضح البذاءة وأسباب الأذى وسماسرة الحقبة الاستعمارية، ذاهباً إلى مديح الخسارة في تجسير الهوة نحو ما هو مشع ونادر، وما يقع في باب الخذلان، عن بلاد تعيش القهقرى.
هكذا اخترع «الشيوعي الأخير» مدوّنته الخاصة التي تشبه سفينة نوح، إذ تتجاور الكائنات والمواقف والأشياء فوق خشبة واحدة، من دون تزويق أو زخرفة بلاغية، فضائح وفضائل، ألوان العار، وخريطة بلاد كانت ذات يوم بستاناً أو جنّة، قبل أن يجتاحها البرابرة والأوباش وصيارفة الثقافة، لكنه يهتف من متراسه المضاد «إنهم ذاهبون مع أول هبّة للريح، ولقد بدأ موسم العواصف». اضطراب النصوص الأخيرة للشاعر وانشغالاتها الجانبية قادته إلى القول «إنني الآن مدوّن حياة، ولستُ شاعراً». هكذا ينسف فكرة الكتابة لمصلحة التدوين الذي لا يتطلّب استنفاراً شعرياً، الأمر الذي يمنحه حرية تجوال بين أغراض أخرى بنزعة سردية واضحة، بالاشتباك مع رائحة نبتة منسية في الظل، أو هبوب رائحة، أو غرفة في فندق، أو جزيرة نائية، أو بيت طين مهمل في قرية بعيدة، أو حانة «أظنني في مسيرتي الطويلة استطعت أن أروّض حواسي، على أن تكون أكثر إرهافاً. أثق بارتطام الحاسّة» يقول. ويلفت إلى أنّ قصيدته هي نتاج الفوضى المحتدمة، والعزلة القسرية، والترحال «منحني الترحال سعادة المستكشف، وخفّة جوّاب الآفاق». وإذ به يضع النص في شباك الحياة مباشرة، بأقصى حالات الارتطام، وبأقل ما يمكن من الإغواء الجمالي، والانتباه إلى ما هو راهن وفوريّ وذاتي: «ليس لي من حياةٍ فعلية خارج الشعر. الشعر خبزي اليومي» يقول. من ضفةٍ أخرى، استثمر صاحب «الليالي كلها» الموروث الشعبي والطقوس المحليّة والفولكلور في تأثيث متونه الشعرية باستعادة أغانٍ عراقية قديمة كانت بالنسبة له مثل سراج في ليالي الوحشة. هكذا جلب المادة الخام أو «بداءة اللغة» إلى مختبره الشعري وصاغها بإزميل نحّات، وهو ما سيفتح باباً واسعاً أمام تجارب شعراء عرب بإغراءات متفاوتة، إذ ألقى بظلاله على تجارب شعراء السبعينيين بقوة. أما ما يخصّه مباشرة، فلم يعُد مهماً الفرق بين متطلبات الشعر وحقول الكتابة الأخرى، فالضربة الإيقاعية الهشّة موجودة هنا وهناك، ولكن خارج المنبر الجماهيري مكتفياً بقدرة المتلقي وذائقته على التقاط المعنى «أهديكَ خيطاً لتبقَ المتاهات لي». قبل رحيله بشهرٍ واحد، أهدانا المجلّد الثامن من أعماله الكاملة بعنوان «خريف مكتمل» (دار التكوين)، ثم غاب في الصيف مثل طائرٍ في ضباب المنفى!




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا