أقامت مؤسسة «المهرجان الشعري» في هونغ كونغ أخيراً سلسلة أمسيات شعرية افتراضية لتكريم شعراء سبق أن شاركوا في المهرجان في السنوات الماضية. في هذا السياق، حلّ أدونيس ضيف إحدى الأماسي، حيث قرأ مجموعة من قصائده وشارك في حوار أداره مترجم شعره إلى اللغة الصينية شوي تشينغ قوه (بسام)، الأستاذ في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين. علماً أنّ «مهيار» يحظى بشعبية هائلة في الصين بعد صدور ديوانه الأول في اللغة الصينية بعنوان «عزلتي حديقة» في 2009، تلته ستّة كتب بين شعر ونثر لقيت إقبالاً كبيراً في الصين. ننشر هنا النص الكامل للحوار بين أدونيس وشوي تشينغ قوه، الذي قارب عدد المشاهدين له 400000 مشاهد في الصين وقت بثّه عبر قناة «فينيكس» المشهورة على الإنترنت

أستاذ أدونيس، أولاً، يسعدني كثيراً أن أدير هذا الحوار معك. سبق أن شاركنا مع ابنتك أرواد وأصدقائك في أنحاء العالم في الاحتفال بتسعينيتك في بداية هذا العام. يريد كثير منهم أن يعرفوا سرّ حفاظك على الصحة الجيدة في هذا العمر المتقدّم، بخاصة بعدما عرفوا أنك صعدت الجبل الأصفر في الصين قبل سنتين. لا شك في أن هناك أسباباً وراء ذلك؟
ـ شكراً. اسمحوا لي أولاً أن أشكر هؤلاء الأصدقاء واحداً واحداً. أحبّ أن أقول لكل هؤلاء الأصدقاء ما أعيشه عملياً: عِشْ، وفكّرْ، واحلمْ، وأبدعْ، كما لو أن الإنسان في كل بلد صديقٌ لك، أعني كما لو أنه ليس لك عدو أبداً. عميقاً وفي التحليل الأخير، لا يستحقّ العدوّ حتى أن تفكّر فيه. فإذا حسبت له حساباً، فهذا يعني أنه جرّك إلى وحله وأنك صِرت من عالمه وشبيهاً به. وفي هذا بداية انهيارك. لا عدوّ للإنسان إلا جهله: هذه هي القاعدة الأولى لحياتي، نظريّاً وعمليّاً. وهذا ما يمنحني ما أودّه لهؤلاء الأصدقاء أيضاً: الغبطة، والقوة، والحياة الطويلة التي تتيح لي أن أقول مع المتنبي: إذا ما تأمّلتَ الزمان وصرفه/ تيقنتَ أن الموتَ نوعٌ من القتل. وأنا موقِن أن الموت الذي ينتظرني ليس موتاً وإنما هو نوع من القتل.

عندما عرف أصدقاؤك في الصين أنني سأجري هذا الحوار معك، أرادوا أن يعرفوا كيف أحوال أدونيس خلال هذه السنة، خاصة في فترة الحجر الصحي في باريس؟ وإلى أيّ مدى تتأثر حياتك وإبداعك بالوباء وبهذه الفترة الاستثنائية؟
ــ أولاً، حقّقتُ نوعاً من الانتصار على الوباء بنوع من الهجوم المضاد: حوّلت الحجر الصحي إلى مناسبة لمزيد من التأمّل والتساؤل والبحث، والقراءة والكتابة، بحيث تحوّل الحجر إلى فرصة خلّاقة وممتعة. وثانياً، بعثرني هذا الحجر في أنحاء العالم كله. وولّد في نفسي وعياً وشعوراً بضعف الإنسان وبحاجته الكيانية إلى التضامن مع أخيه الإنسان فيما وراء الحدود كلها، أياً كانت- عرقية أو لغوية، إيديولوجية أو اقتصادية. وهكذا كان الحجر مرآة أرى فيها نفسي والعالم في جبهة واحدة، مقابل الوباء الذي يقف وحيداً في وجه البشر جميعاً.

توفّر فترة الحجر الصحي الوقت الكافي للجميع للتفكير في المسائل التي تهمّهم. وبصفتك شاعراً ومفكّراً كبيراً، ما هي المسائل الرئيسية التي شغلت بالَك في الفترة الأخيرة؟ هل الوباء والتطورات الأخيرة المصاحِبة له غيّرت آراءك السابقة في العالم، أم أنها رسّخت هذه الآراء؟
ــ ازددت يقيناً أن الإنسان لا يكون نفسه حقاً إلا بمقدار ما يكون الآخر المختلف، وأن العدوان والطغيان والاستعباد في مختلف أشكالها التي نعرفها، خصوصاً في العالم العربي، تُجرّد الإنسان من إنسانيّته وتهبط به إلى ما دون الإنسان. وفي هذا ما يرسّخ بعض ما قلته سابقاً في العالم، ويدفعني إلى مزيد من الاستقصاء والاستبصار في المدار ذاته من أجل مزيد من المعرفة، ولكي تتّسع الرؤية وتتّسع العبارة أيضاً.

جميل، في قولك هذا اقتباس ضمني لما قاله النفري: «كلما اتّسعت الرؤية، ضاقت العبارة»
ـ صحيح، وأنا أتمنى أن تتّسع عبارتي مع رؤيتي.
في الغرب والشرق مشكلات لا ترجّ أسس الحضارة المستقرة وحدها، وإنما ترجّ أسس الكينونة الإنسانية


لننتقل إلى الشعر. وردتْ قصيدة «بين عينيك وبيني» التي قرأتها قبل قليل في ديوانك «قصائد أولى» التي صدرت عام 1957، مع ذلك فالقارئ الدقيق لهذه القصيدة يلاحظ فيها النضج الفني والفكري للشاعر. فهي ليست قصيدة غزلية بالمعنى التقليدي، إنما تعبّر عن تأمّلات الشاعر في الوجود والكون، وإحساسه بالتاريخ، إضافة إلى إيحاءات صوفية فيها. كذلك نجد هذا النضج في قصائد أخرى في هذا الديوان الذي هو باكورة إبداعك الشعري. هل توافق على رأيي هذا؟ وكيف تفسّر هذا النضج عند أدونيس الشاب؟ هل يكفي أن أقول إن أدونيس هو عبقري في الشعر والفكر؟
ـــ أشكرك يا عزيري على هذا السؤال، فهو سؤال يلامس العمق الغامض الذي أحار أنا نفسي في إيضاحه، لأنني أحار في فهمه، وأتساءل: كيف كتبت هذه القصيدة في مثل هذا العمر؟ فهو سؤال لا أعرف أن أجيب عنه. أرجو أن تعذر جهلي، وإن كان عليّ أن أشير إلى أن فهم المناخ الثقافي التربوي الطبيعي الذي نشأت فيه، بفضل أبي على الأخص، ضرورة حاسمة لفهم هذا النضج الفني والفكري، وفقاً لتعبيرك. والآن عليك أنت يا عزيزي أن تفسّر لي هذا النضج، وفقاً لتعبيرك.

أرى شخصياً أن العبقرية هنا تلعب دوراً مهمّاً. طبعاً هناك عناصر أخرى، مثل ميلك إلى استكشاف المجهول، والتمرد على كل ما هو جاهز وقديم ومبتذل، بالإضافة إلى اطّلاعك على الفكر والأدب في الغرب وخاصة في فرنسا. ولا ننسى تأثّرك بالتراث العربي الإسلامي وخاصة الفكر الصوفي منه. كل هذه العناصر مجتمعة ربما أدت إلى هذا النضج الواضح الذي نلاحظه. لا أعرف إن كان تفسيري صحيحاً أم لا.
ــ شكراً. أنت تفهم شعري أكثر مني.

لا أبداً! دائماً تحبّ المزاح يا أستاذي! في قصيدة «أول الكلام»، كنتَ تخاطب «ذلك الطفل الذي كنتُ». اليوم، وبعدما تقدمتَ في العمر، هل يخطر في بالك أحياناً أن تخاطب «ذلك الطفل الذي كنتَ»؟ وماذا تريد أن تقول له؟
ــ طبعاً، أحب دائماً أن أخاطبه وأن أتحدث معه، لأنني أشعر أني كلّما تقدمت في العمر أزداد طفولة. وأشعر أن شيخوختي ليست إلا بحثاً تلقائياً ومهيّماً عن طفولتي. الإنسان يكبر، يشيخ، ولكن في اتجاه الطفولة. الطفولة هي الجسر المتلألئ الذي يصل بين نقطة مجيئك إلى هذا العالم ونقطة رحيلك عنه. هكذا تبدو لي شخصياً الإنسانية كأنها هي أبدياً طفولة الكون.

صدر أخيراً ديوان «فهرس لأعمال الريح» باللغة الصينية، وهو يضمّ قصائد جميلة يحبّها القراء كثيراً. لاحظتُ أنك كتبتَ هذا الديوان في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أي في نفس الفترة التي كنت تكتب فيها ديوانك العظيم «الكتاب: أمس المكان الآن» في ثلاثة مجلدات كبيرة. لا شك في أن المسحة اللطيفة الجميلة في «فهرس لأعمال الريح» تختلف كلّياً عن الجو التراجيدي الذي يخيّم على ديوان «الكتاب». إذا كان «الكتاب» هو نتاج مشروع شعري ثقافي طالما حضّرت نفسك له لمدة طويلة، فهل «فهرس لأعمال الريح» هو وليد المصادفة؟ أرجو أن تتحدث لنا عن تجربتك في كتابة الديوانين في الفترة نفسها تقريباً.
ـــ في «الكتاب»، كنت أكتب كأنني أصعد جبلاً ضخماً ووعراً، أعني تاريخاً من الطغيان وتاريخاً آخر من الإبداعات في جميع الميادين. أما في «فهرس لأعمال الريح»، فكنت فيما أصعد ذلك الجبل، أتحدث مع زهرة أو ظل أو ضوء. وكنت ألهو مع الريح، تغلبني حيناً وأغلبها حيناً. وكنت لا أنام إلا في أحضان حلم، ولا أستيقظ إلا لكي أمسك بيد الفجر، وأسير معه في نزهة قصيرة، لكي أجدّد قواي. هذا هو «فهرس لأعمال الريح». كان يؤجج شهواتي لمتابعة الصعود إلى أعالي هذا الجبل، أي إلى أعلى ذروات «الكتاب».

أتذكر أنك سألتني في لقائنا الأول في الطريق من المطار إلى الفندق في بكين في ربيع عام 2009: «هل لشعري قيمة في اللغة الصينية؟». أظن أن الإقبال الكبير على قراءة شعرك وفكرك في الصين، ومحبّة القراء الصينيين لك ـ وهي ظاهرة لم أتوقعها أنا أيضاً ــ قد أجابت عن سؤالك هذا. ولا أبالغ إذا قلت إن شعرك أسْهَمَ في جعل كثير من الناس، وخاصة الشباب الصينيين يحبّون الشعر، ويتذوّقون جماله، كما أسهم في توسيع آفاقهم المعرفية والفكرية والجمالية، بالإضافة إلى زيادة معرفتهم لعمق وجمال الثقافة العربية المعاصرة، وللمشاكل الكامنة فيها في آن واحد. وبهذه المناسبة، أرجو أن تجيبني بصراحة ودون تواضع: في رأيك ما هي قيمة شعرك وفكرك بالنسبة للمجتمع العربي؟ أحب أن أستمع إلى جوابك أولاً، وربما سأقوم ببعض الإضافات لاحقاً.
ــــ شكراً. هذا السؤال ليس محرجاً فقط وإنما هو صعب أيضاً. ولكن سأحاول أن أجيبك. الحقيقة أن شعري وشخصي طبعاً موضع خلاف جذري، لا في سوريا وحدها، وإنما أيضاً في البلدان العربية كلها. وأساس هذا الخلاف يجد جذوره في نظرتي الخاصة إلى الثقافة العربية، وتبعاً لذلك إلى المجتمعات الإسلامية العربية. فهذه الثقافة لا تزال في جوهرها كما أرى دينية (فقهية - شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً. وهذا في نظري لا يجعلها متناقضة مع ثقافة العصر والانقلابات المعرفية الكبرى في جميع الميادين، وإنما يجعلها كذلك ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها. وهكذا أشقّ العرب إلى قسمين، فبعضهم إلى جانبي في هذه النظرة، وهم القلّة. وانطلاقاً منها يرون أن شعري وفكري يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، ولا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي وبخاصة الحديث. أقول هؤلاء قلة، ولكنهم القلة الخلّاقة الرائية.
وبعضهم، وهم الكثرة ـــ أفراداً وجماعات، ومؤسسات وأنظمة ـــ يرون على العكس، أن جميع الكتّاب العرب، شعراء ومفكرين، أكثر أهمية مني. وبعضهم يذهب إلى أبعد، فيرون أنني لست شاعراً ولست مفكّراً. إنه انشطار ضخم يكاد أن يكون مضحكاً لكثرة ما هو فاجع، أو فاجعاً لكثرة ما هو مضحك. وأقول في نفسي: ما أسعدني! فلو كان العرب جميعاً إلى جانبي، لكنت أشكّ في نفسي، بل أكثر من ذلك: كنت أرفضها، وأتبرّأ منها.
إنه انشطار يمنحني قوة أو طاقة كبرى من أجل العمل مع هذه القلّة على نقل الثقافة العربية من وهمها الراهن القائم على التقاليد وأوهامها وتصوراتها، وبخاصة الدينية، إلى عالم آخر قائم على الكشف المعرفي والعلمي والفلسفي والفني، وعلى أن الإنسان هو مركز الوجود. وهو عالم آخر يختلف كلياً في أُسسه وفي أبعاده وفي أشكال التعبير عنها. والتجربة في هذا المجال مضيئة. فما أكتبه، شعراً وفكراً، يزداد انتشاراً، لا في مسقط رأسي سوريا وحدها وإنما في العالم العربي كله. والقرّاء الخلاقون يتزايدون. ويضيئني أيضاً المستوى الرفيع الذي يتميز به استقبال نتاجي الشعري والفكري في العالم كله، شرقاً وغرباً. لكن عليّ أن أشير هنا إلى أن هذا الوضع خلق ويخلق لي صعوبات كثيرة على مستوى العيش اليومي والعملي. وهذا ما كان أساساً في هجرتي إلى الخارج والحياة في بلد أجنبي- فرنساً تحديداً، علماً أنني كنت أفضّل البقاء والحياة والعمل في سوريا أو في لبنان أو في أي بلد عربي آخر.

أنهي كتابة سيرتي الذاتية ومشروع آخر حول تحوّلات اللغة العربية بعنوان «جمالية التحوّل»


إجابتك مهمة جداً. وأحبّ أن أضيف بعض المعلومات ليعرفها القراء الصينيون. ففي العالم العربي، كان وما زال لأدونيس كثير من المعجبين به، في الوسط الثقافي، ربما أكثر مما يتوقّعه هو نفسه. قرأت أخيراً رواية بعنوان «الإرهابي 20» للكاتب السعودي عبد الله ثابت. نعلم جميعاً أن هناك 19 إرهابياً قاموا بتفجير برجَي نيويورك في حادثة 11 أيلول، وتحدّث هذا الكاتب السعودي، على لسان بطل الرواية، عن الأثر الكبير الذي تركته فيه أعمال أدونيس الفكرية والشعرية، فلولا قراءته لأدونيس ولغيره من المثقفين المتنورين، لكان من المحتمل أن أصبح الإرهابي الرقم 20! إن هذا مثال واحد يدلّ على أهمية كتاباتك في بناء الإنسان العربي الجديد.
ـــ شكراً على هذه المعلومة. نعم أعرف جيداً هذا الكاتب-الشاعر، وقد قابلته هنا في باريس. وأعدّه، شخصيّاً، واحداً من الخلّاقين العرب المتميّزين في لحظتنا التاريخيّة الرّاهنة

ذات مرة، قلتَ في حوار مع بعض الشعراء في الصين كلاماً لن أنساه: إنك لست أدونيس، وإنما في الطريق لتكون أدونيس. أرجو أن تشرح هذا الكلام بمزيد من التفاصيل، لأنه في رأيي يحمل رؤية عميقة لمسألة الهوية والنظرة إلى الذات. وسؤالي المتعلق به هو: أي أدونيس تريد أن تكونه؟
ـــ لا يُولد الإنسان كاملاً. هذا بَدهيّ. فالإنسان صيرورة مستمرة، وهويته نمو متواصل. إنها، جوهرياً، مستقبل. الإنسان لا يرث هويته كما يرث بيته أو حقله. الإنسان يبتكر هويته، فيما يبتكر عمله وفكره، أي فيما يبتكر حياته. الشيء وسيلة أو أداة أو وظيفة. الإنسان غاية: كل شيء من أجله، من أجل سعادته وتقدّمه. الشيء مغلق على ذاته. لكن الإنسان منفتح على غيره - جوهرياً. فلا يكون الإنسان بنفسه وحدها، وإنما يكون بغيره. في البدء كان المثنى، وليس الواحد. الواحد، وحده، مجرد شيء. في هذا الأفق، الإنسان، بطبيعته ذاتها، عالم لانهائي. حياته هي العمل والنظر لكي يتجاوز ما هو نحو الأفضل أو نحو ما يجب أن يكون. الإنسان ليس مَن كان، الإنسان هو مَن يكون وما يكون. أعمق ما يحلم به أدونيس هو أن يعيش هذه الحركة الحية التي تخلق ذاته فيما تخلق زمنه. حين يعرف أدونيس من هو، يصبح شيئاً بين الأشياء. الإنسان مشروع يتحقق فيما يظل مفتوحاً بلا نهاية. يعرف أدونيس طريقه تماماً لحسن الحظ. ولكن لحسن الحظ أيضاً، لا يعرف من هو وما صيرورته.

كلامك عميق وجدير بأن نتأمّل فيه طويلاً. أنتقل إلى سؤالي التالي: يقول كثير من الناس إن العالم ما بعد الوباء سيختلف كثيراً عن العالم ما قبله. هل تتوقع أن يصبح العالم الجديد الذي سيخرج من قبضة الوباء، عالماً أفضل أم أسوأ؟ وما رأيك في أهمية الشعر في العالم ما بعد الوباء؟
ــ من المؤكد أنه سيختلف. وها هو الآن يختلف. لكن لا أستطيع أن أقول: كيف سيكون هذا الاختلاف؟ وما مستواه؟ خصوصاً أن العالم، قبل الوباء، كان مريضاً. في الغرب وفي الشرق مشكلات لا ترجّ أسس الحضارة المستقرة وحدها، وإنما ترجّ أسس الكينونة الإنسانية، وعلاقات الإنسان بنفسه وبالإنسان، وعلاقات الشعوب بالشعوب، والأمكنة بالأمكنة. الغرب الأوروبي الأميركي الذي هو الآن في موقع الهيمنة، والذي أعرف مشكلاته بشكل أفضل من غيرها، يواجه مشكلات معقّدة في الداخل تلامس هويته ذاتها، فيما يتجاوز مشكلات البيئة والتقنية والاقتصاد والهيمنة الاستعمارية وما يرتبط بها من الأبعاد الثقافية والإنسانية. أما عن الشعر، فعليه أن يخرج من ماضيه المستقر: من العلاقات التي أُسّس لها بين الكلمات والأشياء وبين الإنسان والعالم، منذ الثورة الفرنسية، مروراً بالثورة الاشتراكية الأولى. وعلى الشعراء أن يجددوا هذه العلاقات، فربما تفتح أفقاً أمام السياسة لبناء أنظمة، ومجتمعات، وثقافة وعلاقات إنسانية وجغرافية جديدة تتمحور جميعاً حول جمالية الأشياء، لا حول وظيفيتها، وحول عظمة الإنسان الفرد، لا حول سلطة الجمع، باسم الدين أو العرق أو العددية الأكثرية التي لا تقتل الديمقراطية وحدها، وإنما تحوّل الإنسان أيضاً إلى مجرّد كرة لا بين أيدي اللاعبين وحدها، وإنما بين أقدامهم، أيضاً.

أرجو أن تتحدث لنا عن خطتك المستقبلية في الإبداع الشعري أو الفكري. أحب أن أعرفها حتى أقول لأصدقائي أو طلابي الذين ينتابهم الكسل في بعض الأحيان: «هل تريد أن تكسل وترتاح؟ انظر ماذا يفعل أدونيس وهو فوق التسعين من العمر!»
ـــ عندي مشروعات كثيرة أصارع الزمن وصعوباته الكثيرة هي أيضاً لتحقيقها. المشروع الأول هو أن أنهي كتابة سيرتي الذاتية، وهو في هذه الآونة مشروع يأخذ معظم وقتي. وبين يوم ويوم، لكي يظل وقتي يقظاً ومتحركاً وبعيداً عن الرتابة، أكمل مشروعاً أو آخر بدأته: كتابة الشعر مثلاً، أو كتابة الرقائم أو القصائد التشكيلية، أو تصنيف أوراقي المتراكمة منذ حوالى نصف قرن، أو العمل على كتابي حول تحوّلات اللغة العربية فكراً وشعراً وفنّاً، وهو بعنوان: جمالية التحوّل. ولا ننسى القراءة. وإن كان وضعها بالنسبة إليّ أصبح أمراً لم يعد سهلاً. والأسباب كثيرة ومتنوعة. أنا نفسي أكمل حياتي كأنني لست إلا مشروعاً لا ينتهي.

في الأخير هل تريد أن تقول شيئاً آخر لأصدقائك وقرّائك في الصين، وخاصة الشباب، عبر الأثير؟
ــ أكرّر تحيتي إلى جميع من يصغون إلينا الآن، خصوصاً الأصدقاء والقرّاء. إن حياتي قوية بهم وبأمثالهم. وإنني شخصياً أعتزّ بكل فرد منهم. وأذكّرهم بأن القراءة كمثل الصداقة - إبداع آخر. تجمعنا معاً وتوحّدنا قوة الفرح والاعتزاز بجمال الإنسان وإبداعاته، والعمل ليس على خلق المكان، وحده، وإنما على خلق الزمن، أيضاً. ليس هناك ماض أو حاضر أو مستقبل إلا بالإنسان وإبداعاته. الإنسان بصيرة الكون وبصره، هو الذي خلق الماضي وهو الذي يخلق الحاضر والمستقبل.