تونس | لم يكن التونسي نبيل دغسن (1980) يعلم أنّ رحلة العلاج التي قادته صغيراً من قرية مطماطة الأمازيغية إلى باريس، ستتحول إلى إقامة دائمة في فرنسا. خلال ذلك، تفتّحت مواهب الشاب المتعدّدة. شهرته الأولى كانت عبر عالم الراب والـ SLAM (شكل شعري شفوي يعتمد الإيقاع الصوتي لحروف الكلمة). كان هذا الشاعر وراء أول عرض SLAM في فرنسا عام 2001 ضمن «مهرجان لقاءات حضرية» وكان أحد المساهمين الأساسيين في نشر هذه الثقافة في الضواحي، كما أسّس مع مزيار زارندار فرقة «كلام» Kelem، فأصدرا ألبومهما «ياسمين أحمر» قبل سنوات.
اكتشف حبّه لأبي الفنون من خلال الارتجال المسرحي. في فضاء «ماغازان» في مالاكوف (جنوب باريس)، تشرّب آليات الأداء المسرحي على يد فرنسوا لاموت، ومارك عجاج، وأرنو ديكرسان بين 2005 و2006. شارك في مهرجانات عدّة وانطلق من ورش تكوينية في المسرح مع توفيق الجبالي في فضاء «تياترو» في تونس. ومن هناك بدأ في خطوته الأولى والخاصة كتابةً وإخراجاً تحت عنوان «كاميكاز». حققت هذه المسرحية حلمه بالمشاركة في «أيام قرطاج المسرحية» خلال دورتها السابقة، بعدما عرضت في باريس. واليوم، تحلّ مسرحية الشاب في بيروت، لتقدَّم على خشبة «مسرح مونو» حتى الرابع من أيار (مايو).
قصة العمل التي كتبها دغسن وأخرجها، تأخذنا إلى اللحظات الأخيرة في حياة شاب انتحاري تعطّل حزامه الناسف خلال إحدى العمليات، فسُجن حاملاً الرقم 3005، وحكم عليه بالإعدام بعد تورطه في قتل حوالى 300 شخص. يدخلنا العرض في المناخ النفسي، وتفاصيل حياة هذا السجين. فترات الانتظار هذه، تستثير بعض التساؤلات حول الندم والحب وقيمة الحياة والأمل والحرية، لكن أكثر ما يزعج السجين الرقم 3005 ليس أن نعرف إن كان بريئاً أم مذنباً، بل فكرة تقبّل الآخرين لموته ورحيله. الأهم أنّ صورة الرجل في عزلته الأخيرة خلال العرض، تراوح طوال الوقت بين المسخ والبطل، الضحية والجلاد.
يجد المشاهد
نفسه أمام عالمين: عالم افتراضي
وآخر حقيقي

يتحقق ذلك من خلال لعبة إخراجية يلجأ إليها دغسن، محرّضاً المشاهد على التفكير والتساؤل: ما هي مسؤولية كل فرد في تطرّف هذا الانتحاري الذي وحده يدفع ثمن خطأ منظومة اجتماعية كاملة دون الآخرين؟ يتطور هذا السؤال على ألسنة الشخصيات التي تلتقي السجين في ساعاته الأخيرة. في موازاة ذلك، نرى الشاشات تنسج الحكايا عن هذا «الكاميكاز»، بحثاً عن الإثارة وكل شيء ما عدا الحقيقة. في هذا العرض الذي تشارك فيه مجموعة من الممثلين العرب والفرنسيين، مزج دغسن بين الأداء المسرحي وفن الصورة، حين وضع أجهزة تلفزة على المسرح، كأنه يشكّك في الحقيقة التي تخضع لدوافع تجارية بحت. هكذا، صاغ المسرح داخل المسرح ليجد المشاهد نفسه أمام عالمين: عالم افتراضي وآخر حقيقي تغيب فيه أدوات التجميل، فتصبح عملية الانتحار عملاً مشهدياً تمثيلياً استخدم فيه تقنية الصورة والفيديو ليدخلنا في تفاصيلها. يمثل الزمن والموت ثيمات أساسية في العمل، لا لأنّ الموت نهاية لكل الناس، بل لأن الوجع بأكمله يصبّ في الانتظار وفي صمت الآخرين أمام رحيله. هذا التوجه الفلسفي في العمل، يستثير تساؤلات عميقة حول الوجود والعدم، وخصوصاً حين يتقاسم السجين لحظاته الأخيرة مع أشخاص أثروا فيه، كالمحامي والصحافي والمكلّف تنفيذ حكم الإعدام. لا يمكنه هنا منع نفسه من محاولة معرفة ما يخفيه كل واحد منهم، وما يجمعهم. لا يمكنه منع نفسه أيضاً من العودة إلى الذكريات والتفكير في ثقل الموت على الانسان، لكن أكثر ما يزعجه هو فكرة تقبّل الإنسان قتل قريب أو صديق أو حبيب أو حتى أي إنسان حر في حياتنا على نحو عابر. أسئلة وأفكار تفجّر رأس الإنسان حين يمشي مصيره أمام عينيه، ولا يمكنه التحكم فيه ولا حتى تغييره.



«كاميكاز»: حتى 4 أيار (مايو) ــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422