في الكتاب الفني «محمد بنيس: مقامُ الشعر» (2021) الصادر أخيراً عن «أكاديميّة المملكة المغربيّة» إلى جانب كُتيّب شعري صغير (مختارات) في مناسبة التكريم الخاصّ بالشاعر المغربي محمد بنيس (1942)، تنكبّ مجموعة من الكُتّاب والشعراء والمترجمين والمُفكّرين من العالم على معاينة سيرة بنيس الأدبيّة/ الشعرية والثقافيّة من قدرة على اجتراح «مشروع» شعريّ مُتفرّد داخل العالم العربي، في وقت كان فيه الشعر المغربي، يميل صوب تأكيد الذات أيديولوجياً أكثر من التحامه بالقصيدة جماليّاً. هذه الطريقة في التعبير عن مآزق الجسد وتصدّعاته بدت ناجعة لمحمد بنيس، وهو يرسم صورة مُتخيّلة عن جسده وأحلامه على أعتاب مرحلة جريحة تنغل سياسياً. فكانت الأيديولوجيا بالنسبة لعدد من الشعراء الطريق الآمن، صوب كتابة نصّ مُضمّخ بقهر المرحلة السبعينيّة، التي انتمى إليها محمد بنيس إلى جانب عدد من الشعراء أمثال: عبد اللطيف اللعبي، وعبد الله راجع، ومحمد بنطلحة، وعبد الله زريقة، ومحمد الأشعري. والحقيقة أنّ ما كان يشهده المغرب آنذاك من صراعات سياسية بين الحداثة والتقليد، ظلّ يُضمر في طيّاته تحوّلاً عميقاً سيشهده الشعر السبعيني ومعه الثقافة المغربيّة بمفهومها المُركّب (إدوارد تايلر). كانت «قصيدة» محمد بنيس داخل جيل السبعينيات الأكثر انسجاماً في طرائق تشكّلها مع التغيّرات، التي بدأت تطبع الثقافة المغربية، ونعني هنا الأساليب الفنية الجديدة في صياغة نصّ أكثر تجذراً في التربة المغربية، لكن من دون أنْ تظلّ هذه القصيدة تعيش في ذاتها ولذاتها، لأنّها ظلّت لدى بنيس مختبراً حيّاً ومفتوحاً على التجريب وعلى مختلف التحولات المفاهيمية والجماليّة القادمة من الشعر الفرنسي المعاصر. تحولات اقتحمت النصّ الشعري المغربي بحكم الدور الطلائعي الذي لعبته بعض المجلّات المغربية في ترجمة النصوص الشعريّة إلى العربيّة. هذه الحركة جعلت شعراء السبعينيات يفطنون إلى أنّ كل شيء موجود في الجسد وفي علاقته بالأشياء اليومية وبتاريخه الشخصي متشابكاً مع تواريخ الأجساد الأخرى. ومن يقرأ الأعمال الشعريّة الأولى لمحمد بنيس سيكتشف أنّها قصيدة جسد بامتياز، إذْ تبدأ منه وتنتهي داخله. لكن في هذا الدوران الحلزوني حول الذات، تتماهى القصيدة بطريقة غير مباشرة، قد لا يُدركها المرء بحواسه وببلاغة صمت يكاد يستبد بالقصيدة. إنّه نشيد الفراغ، حيث اللغة أكثر تقشّفاً، فهي تأتي لتهدم عناصر الأشياء وتُعيد بناءها كما تُريد كمركزية للعالم، وتبحث عن المُتوارى في الجسد وعن اللامفكّر في حياتنا اليومية. بهذا المعنى، لا يكون الشعر عند بنيس شهادة عن واقع، كما نقرأ ذلك عند عبد الله زريقة في دواوينه الأولى «رقصة الرأس والوردة» و«ضحكات شجرة الكلام» حيث اللغة أكثر التصاقاً بالواقع السياسي العيني وما شهده في السبعينيات من نكبات ومآزق. النصّ عند بنيس، يتجاوز الواقع المادي في صوره المباشرة، ولا يستكين إلى ما يحدث في هذا الواقع سياسياً واجتماعياً. قصيدة بنيس الأولى، ظلّت تائهة في أدغال الجسد تحفر نشيدها الوجودي فيه. هذا التواشج البصري، الذي تشتغل به شعريّة محمد بنيس، يجعل النصّ أشبه ببلور مُتعدّد الأضلع. كل صورة تعكس واقعاً/ جسداً/ لحظة تاريخيّة، لكن سرعان ما تتبدّد ويتلاشى وقعها في الذات لتحُلّ مكانها لحظة شعريّة أخرى. إنّ البُعد الأيديولوجي، يبدو أكثر تخفّفاً لدى بنيس، فأعماله الشعرية منذ دواوينه الأولى «ما قبل الكلام» (1969)، و«في اتجاه صوتك العمودي» (1980)، و«شيء عن الاضطهاد والفرح» (1972) يغيب فيها الشرط السياسي المحض، الذي وسم المرحلة بأكملها سياسياً واجتماعياً وثقافياً من خلال جعل النصّ الشعري يستكين لجسده وتصدّعاته.
ما شهده المغرب من صراعات سياسية بين الحداثة والتقليد، أضمر تحوّلاً عميقاً في الشعر السبعيني


منهجياً يُمكن تقسيم الكتابة إلى ثلاثة أقسام: الأوّل، يتضمن جملة من الرسائل التي تلقاها محمد بنيس من بعض الأسماء كأدونيس، وعبد الله كنون، وعزيز الحبابي وسواهم، وهي رسائل تُؤكّد الجانب السيري الذي قطعته تجربة بنيس ثقافياً داخل العالم العربي ومدى إسهاماتها في صنع خطاب ثقافي مغاير يهدم الأوثان الثقافيّة التقليدية الموروثة، لا لنفيها وجعلها غريبة داخل بيئتها العربيّة، بل لتفكيكها والاعتراف بها كحركة أدبيّة وثقافية ضمن التحوّلات الجوهرية، التي شهدتها الثقافة العربيّة الحديثة. ورغم ما قد يُسجّله المرء على هذه الرسائل من تقريرية وركونها إلى سياق عملي بامتياز، لكنّها تبقى مهمّة من جانب الاعتراف ببنيس كشاعر وهو يتلمّس جرح قصائده الأولى. إذ إنّها تنقلنا إلى جانب آخر من حياة الشاعر الشخصية في علاقته بكُتّاب وشعراء ومفكّرين آخرين والأسئلة التي طرحوها والمرارة التي تجرّعوها في زمن كانت فيه الثقافة قضية وطنية ومشروعاً تحديثياً ينقل المغرب من المرحلة الحيوانية، التي نعيشها بكل تفاصيلها ونتوءاتها وتغوّل الرأسمال الديني وتضخّمه في حياتها اليومية، على حساب أسئلة ثقافية وفنيّة. أليس الجمال هو ما سينقذ العالم على حدّ تعبير الروائي الروسي دوستويفسكي؟ إنّ بعض الرسائل تُضمر أكثر ممّا تُظهر، فهي وثيقة تاريخيّة، بقدر ما ترتبط بسيرة الشاعر في علاقته بالسياق الثقافي الذي يُبدع ويُنتج داخله، لكنّها سرعان ما تتصادى كصورة مع واقع الثقافة العربيّة خلال سبعينيات القرن الماضي ومدى تشابه واختلاف الهواجس الأدبيّة والفكرية والثقافية بشكل عام. أما القسم الثاني من الدراسات/ المقالات/ الشهادات، التي دبّجها كُتّاب وشعراء من العالم العربي أمثال: أدونيس، خالدة سعيد، عبد الجليل ناظم، عبد الكبير الخطيبي، عبده وازن، جهاد الترك، عبد المنعم رمضان، عبد الإله بلقزيز، أحمد المديني، قاسم حداد... فإنّها تبقى الأهم في نظرنا. أصحابها يجيدون العربيّة، فالشاعر لم يكتب بلغة أجنبية، ما يجعل هذه الكتابات حميمية ملتصقة بالمسار الشعري لدى بنيس. كما أنّ هذه القراءات تُؤسّس شرعيتها انطلاقاً من دواوين متعدّدة قديماً وحديثاً، وتأتي كقراءات في دواوين محدّدة، جعلها مميّزة وتُشكّل مدخلاً نقدياً لسيرة بنيس الشعرية/ الثقافيّة. أخيراً، يأتي القسم الثالث، الذي يشمل البُعد الأجنبي في تجربة بنيس ومدى ترحّله في شعر الآخر وثقافته. نعثر على أسماء من قبيل: أنطونيو غامونيدا، برنار نويل، لويس ميغيل كانيادا، فديريكو أريوس. لكن ما «نُعيب» عن هذه الكتابات، هو أنّ الترجمة تُشكّل بالنسبة لها مدخلاً للتعرّف إلى خصائص التجربة الشعرية، أيْ أنّ آراءها تحتكم إلى دواوين محددة، وبالتالي، يصعب معرفة التغيّرات الجماليّة والمعرفية، التي ألمّت بالتجربة الشعرية، بخاصّة أنّ شعريّة بنيس تتّسم إلى حد كبير بعنصر التجريب الجمالي. فمن عمل شعري إلى آخر، يعثر القارئ على اجتهادات فنيّة على مستوى منهجية الكتابة وطرق التفكير في مُتخيّلها، ما جعل بعض الآراء عامّة لا يُمكن النظر إليها كقراءة/ دراسة، بل فقط كشهادات مونوغرافية حول أعمال شعريّة معيّنة.