من الصعب مشاهدة النسخة السينمائية من مسرحيّة «أوسلو» للسيناريست الأميركي جيه تي روجرز من دون الشعور بالسخرية القاتمة من أنّ هذا المعمار الكاريكاتوري لقناة المفاوضات (السريّة) والخطابيّة الهوليوودية الساذجة بشأن تسويق وهم «السّلام»، انتهيا إلى المأساة التاريخيّة المسماة بالسّلطة (الوطنيّة) الفلسطينيّة. لكن مصاعب الفيلم (2021 ــ ساعة و58 دقيقة) لا تتوقف عند الحصاد التاريخيّ المُخجل لكل نهج أوسلو (وأبطاله). فالعمل مهلهل من الناحية الفنيّة المحضة، والمعالجة فيه منحازة سياسياً وشكليّاً، تماماً كما يُتوقّع من كل عمل هوليوودي يتعلّق بالصراع العربي ـ العبري، ويفشل تماماً في الخروج من أجواء الغرفة المسرحيّة الخانقة التي قُدّمت أول مرّة في برودواي عام 2016. هذا ما يجعله في المحصّلة فيلماً عديم القيمة
سوّقت ماكينة البروباغندا البرجوازيّة الغربيّة الترتيبات الاستسلاميّة التي قام بها منفرداً ياسر عرفات وأزلامه مع الجانب الإسرائيلي في أوسلو 1993 بوصفها إنجازاً تاريخيّاً للإدارة الأميركيّة وسلاماً للشّجعان. وسارعت الأكاديميّة السويديّة إلى تتويج الموقعين عليه (عرفات ورابين) بجائزتها الشهيرة، «نوبل للسلام» التي مُنحت على سبيل المفارقة الفلسفيّة أيضاً لأمثال أنور السّادات وباراك أوباما. نعرف بالطبع الآن النتائج الكارثيّة لتلك الترتيبات والتشوّهات التي لحقت بقضيّة شعب فلسطين من ورائها. لكن تفاصيل أوسلو بقيّت دائماً مخفية بعناية خلف ستار سميك من السريّة سواء لناحية جذور علاقات عرفات وفريقه بأطراف إسرائيليّة وأميركيّة منذ وقت مبكّر، قبل إطلاق القناة السريّة، أو طبيعة ما تم التوقيع عليه بالفعل في أوسلو بما في ذلك «البنود السريّة». ولغاية اليوم، يظلّلها مناخ أشبه بعلاقة خيانيّة آثمة خارج الزواج، فيما كان الأميركيون يواصلون وقتها مسرحيّة المفاوضات العلنيّة الرسميّة المتعدّدة الأطراف في واشنطن حيث لعب الفريق الفلسطينيّ المفاوض - الآتي من الأرض المحتلة بالتوافق مع منظمة التحرير الفلسطينية - وحده دور الزّوج المخدوع.
هذا التّناقض/ البرادوكس بين الشّهرة الفائقة للحدث الأوسلويّ مقابل سريّته المُطلقة خلقت فضاءً ممكناً للخيال الدراميّ بأن يحلّق في أجوائه مع محاذير أبديّة بتهمة الانحياز المسبق ربطاً بخلفيّة صاحب الخيال، يهوديّاً/ إسرائيلياً كان أو فلسطينيّاً/ عربيّاً. روجرز – وهو سيناريست أميركيّ قليل الخبرة عديم الإبداع - اكتشف هذا التّناقض، وقرّر أن يقتحم سوق الدّراما العالميّة بعمل مسرحي يسجّل أوسلو - لا أقل – بكل ما تحمله تلك اللحظة من إمكانات الكوميديا والتّراجيديا معاً. المسرحيّة التي قدّمها بالفعل في 2016 كانت مخيّبة للآمال، رغم حصولها على جائزة لأسباب سياسيّة من دون شك: مجرّد صدى تجاري الطابع للسرديّة الرسميّة التي تمّ تسويقها من قبل الأطراف المتورطة، ورؤية مبسترة لم تخرج قيد أنملة عن الصيغة الهوليووديّة الشديدة التّسطيح لكل ما يتعلّق بصورة الصراع العبري الفلسطيني، وفرصة ضائعة بجدارة لتناول فلسفي معمّق سواء لخلفيّة الحدث أو تناقضه الداخلي أو حتى لنتائجه.
ومع ذلك، فإن HBO التي تحاول مجاراة نتفليكس في إنتاج أعمال تخاطب جمهوراً عالميّاً لا أميركياً فحسب، وقّعت عقداً مع روجرز لتحويل المسرحيّة إلى فيلم سينمائيّ عهدت بإخراجه إلى بارتليت شير. وكلّفت المخرج الصهيونيّ المعروف ستيفين سبيلبيرغ - بحكم معرفته المفترضة بأبعاد الصراع – بأن يشترك في الإشراف على إنتاجه، واستدعت وجوهاً معروفة لتقديم الأدوار الرئيسيّة فيه.
حاول السيناريو شخصنة الحدث الأوسلويّ وفصله عن السياق السياسيّ/ التاريخيّ


وبحسب الشريط (119 د)، فإن الزّوجين النرويجيين منى جول (روث ويلسون)، الدبلوماسية في وزارة خارجية بلادها، وتيري رود لارسن (أندرو سكوت)، عالم الاجتماع ومدير مركز أبحاث مؤسسة «فافو» ــ وبعد زيارة عاصفة لهما إلى قطاع غزّة الملتهب ـــ أصيبا بما يشبه اللّوثة الدينيّة وقرّرا في كانون الأول (ديسمبر) 1992 إطلاق حملة لفتح الباب أمام محادثات مباشرة إسرائيليّة – فلسطينيّة على أرض محايدة وتحت غطاء من السريّة، بعدما فشلت المفاوضات العلنيّة التي انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام واستمرّت لعامين (1992 – 1993) في تحقيق أيّ تقدم يذكر. هذه اللّوثة شبه الدينية المزعومة أربكت حبكة الفيلم منذ البداية إلى النهاية، وعجزت عن تقديم تبرير (مقنع) للنضال الذي لا يكل من قبل الزوجين سواء لإطلاق المفاوضات بداية أو لضمان استمراريتها تالياً.
وبعد تمنّع (غير مقنع) من الطرفَين الإسرائيلي والعرفاتي، ومناورات حول الشكليّات ومستوى التمثيل ولقاءات تحضيريّة، متّسمة بكثير من الإسفاف الفني، يلتقي المفاوضون (عن منظّمة التحرير سليم ضوّ في دور أحمد قريع، مدير ماليّة عرفات، ووليد زعيتر في دور حسن عصفور، ضابط اتصال عرفات) في قصر تاريخيّ على أطراف العاصمة النرويجيّة أوسلو، ويخوضون جولات عدة من الجدل التفاوضي (غير المقنع)، والخطابيّات الفارغة (غير المقنعة) تفصلها محطات من السكر والعربدة وتناول الأطايب وتبادل القفشات، كما الادعاء بإجراء الاتصالات مع تونس (حيث مقر عرفات) وتل أبيب، بغرض التوصّل إلى توافق حول إعلان مبادئ ينظّم شيئاً هلاميّاً يعجز الفيلم عن توصيفه ويسمى اصطلاحاً بعمليّة «السّلام».
الشريط – باستثناء مشاهد نادرة – هو مراوحة مقيتة تثير الملل بين جلسات الجدل (التفاوضي) والسهرات تلك بما تضمنته من خطابات الطرفين العنجهيّة وحبيسين أبداً في الغرف المغلقة الفارغة فكأننا نشاهد عملاً مسرحيّاً حدوده الخشبة، برغم كل وعود المكان الأوسلوي الخلّاب التي لم يستفد منها العمل مطلقاً.
السيناريو المُختَنق انعكس على أداء الممثلين – من دون استثناء - وطريقة تعبيرهم وادعاءاتهم بالظّهور في موقع الحنق أو التوتر، فجاء كثير التصنّع، وفشلوا كليّة في التّواصل مع المتلقي، وظلّوا طوال الساعتين سجناء شخصيّات تتلاقى داخل بُعدَين اثنين من دون أي عمق يذكر. أما النصّ، فمصاب بفقر دمّ ثقافيّ واجتماعيّ حاول روجرز تعويضه من خلال أكوام الكليشيهات والنكات المبتذلة التي أضافت مزيداً من الوهن إلى العمل، فيما لم تساعد الموسيقى التصويريّة الباهتة في إنقاذ الموقف أو حتى ملء الفراغات بين الجلسات.
إخفاق السيناريو الأكبر وافتقاده الفضائحيّ للمسؤوليّة، كان في محاولته شخصنة الحدث الأوسلويّ وفصله عن السياق السياسي/ التاريخي الذي لا يمكن بأي حال إغفاله عن عمل مرتبط بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني حتى النّخاع كهذا، ومن ثمّ ميل الفيلم التلقائيّ – كما المعتاد في الثقافة الأميركية - إلى تلميع الشخصيات الإسرائيليّة وتبييض مواقفها وأنسنتها مقابل انفعاليّة الشخصيّات الفلسطينيّة وسخافتها وفجاجتها، وتقديم الأوروبيّ الأبيض بوصفه العقلاني والمتجرّد والمنقذ للجميع من الضلال في متاهة المواجهة الدائمة في الشرق الأوسط، مع تتفيه القضية الوطنيّة للشعب الفلسطيني إلى مستوى التوصلّ إلى حلّ سحري لـ 100 عام من الصراع واكتشاف المفاوضين الفلسطيني والإسرائيلي أنّ ابنتيهما تحملان ذات الاسم (مايا). ولذلك فإن الصورة التي يطرحها الفيلم تبدو غريبة ومنحازة ومحدودة للغاية ومتخمة بالثقوب والنقاط العمياء وغير قادرة على إرضاء أيّ نوع من المشاهدين. فالملمّون بالقضيّة الفلسطينيّة – عرباً وإسرائيليين – سيجدون سريعاً أن الفيلم كاريكاتور لا يشبه حقيقة أوسلو ورجالها بشيء، والمشاهد المستجدّ على صراعات المنطقة لن يفهم مطلقاً موضع مفاوضات أوسلو من التاريخ أو الحاضر، فيما المهتمّ بكفاءة العمل السينمائي كفنّ محض سيجد أنّه يودّ لو ينتهي الفيلم سريعاً بعد أوّل عشر دقائق.
فيلم «أوسلو» الشديد الانحياز للطرف الإسرائيلي، يقدّم صورة ساذجة طفوليّة عن عمليّة التفاوض، وسرديّته مفتقدة إلى أدنى مكونات التشويق الدرامي، وشخصيّاته مجوّفة مفتقدة للعمق، وأداء ممثليه يراوح بين التصنّع والافتعال، ولغته منقولة حرفيّاً من سجلّ للكليشيهات، وموسيقاه باهتة وغير ذات صلة. مع ذلك كله، تتبقى له فضيلة واحدة وحيدة: توقيته العبقريّ في هذه اللّحظة المفصلية من الصراع. إنّه تذكير سوداوي بجذور الحالة الخيانيّة التي أنتجت سرطان التنسيق الأمنيّ المسمى «السُّلطة» وكبّلت نضال الشعب الفلسطيني. لقد دفعنا غالياً ثمن النزوة العرفاتيّة ذات أوسلو. وسنستمر في الدّفع في المدى المنظور، ولم ينجح روجرز ـــ ولن ينجح غيره ـــ في إصلاح صورة ما قد أفسده «الختيار» (اسم التحبّب الذي كان بعضهم يطلقه على الرّاحل عرفات).
Oslo على HBO