«أوسلو»، فيلم HBO الجديد حول مفاوضات القناة الخلفية بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي أدت إلى توقيع «اتفاقيات أوسلو للسلام» في 13 أيلول (سبتمبر) عام 1993، يُعرض الفيلم في وقت بلغت فيه التوترات ذروتها في الشرق الأوسط، في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة منذ أسابيع.يُجادل الفيلم بأن الاختلافات الدينية والثقافية والسياسية لن يتم تجاوزها أبداً إذا لم يتمكن الخصوم من إيجاد طريقة لإجراء حوار بنّاء.
تدور الحبكة الدرامية حول مساواة شاب ببندقية آلية (إسرائيلي) بشاب يحمل حجرة صغيرة (فلسطيني). يُقتل الفلسطيني بسهولة، لكن الرحمة النرويجية تقرر إيقاف هذا الجنون. كيف يتم ضرب جندي مدجج بأحدث الأسلحة بحجر، فهذا قد يجرح مشاعره على أقصى تقدير!
ذكريات الماضي المتقطعة لتجارب مراقبين لدى الأمم المتحدة في غزة التي مزقتها الحرب، تشكّل نقطة محورية. بصرياً، كل شيء بطيء وحالم، بألوان باهتة، مما يدل على صدمة البطلة التي تعيد سرد ما شاهدته في غزة، بينما ألهمها ما رأته من «الصراع» لاستخدام سلطتها في سلك الدبلوماسية النرويجية من أجل استمرار عملية «السلام». تركز ذكريات الماضي بشكل أساسي على وجهها المرعب. يريد الفيلم مِن مشاهديه أن يستثمروا شحنة العواطف في «شفاء» الجراح الشخصية للبطلة من خلال رؤية «السلام في الشرق الأوسط» من دون التركيز على أي حساب: المُحتَل أو الواقع تحت الاحتلال. فلا أحد يتحمل المسؤولية في هذه السردية، نحن أمام حقّين، يمكن التوفيق بينهما عبر وجبة سمك، وبسكويت «وافل»، والكثير من
الكحول.
إنّها الاستعارة الطبيعية لقصة مماثلة، حيث يجتمع رجال مخمورون في غرفة واحدة لتبادل النُكات، ويجدون مبدئياً علاقة حميمة مع أعداء محتملين. إننا أمام فلسطينيين لديهم فعلياً رغبة في مقايضة شرعية احتلال مقابل تمويل لدفع فواتير الكهرباء. هذا كافٍ لاجتياز المفاوضات الشاعرية المدججة بخطاب اليسار الإسرائيلي عن السلام وتبادل الورود حفاظاً على «دولة إسرائيل الديمقراطية».
في الزاوية الأخرى، نحن أمام مسؤولين ورجال إسرائيليين، ذوي تعليم عالٍ سياسي ودبلوماسي، يتّحلّون بضبط نفس استثنائي وطيبة ورغبة مفرطة في الحياة، ونسيان الماضي، أي ماض؟ لا يجيب الفيلم، لكن في حين كان الإسرائيليون يقومون بصياغات قانونية صارمة لاتفاق مُلزم، كان الفلسطينيون، يشربون الخمر ويدخنون السجائر ويقدمون مقترحات اعتباطية سرعان ما يتنازلون عنها بعد مشهد تكرر أكثر مِن مرة لتمزيق المفاوضين الفلسطينيين مسودات التفاوض أو صفعهم الآخرين، سواء النرويجيين أو الإسرائيليين. وكان الطرف الأخير لا ينفعل إطلاقاً، فهم رجال مهذبون في بدلات رسمية، بينما النرويجيون لا يكذبون أبداً. يبدو أنهم مِن نسل ملائكة!
لم يفُت الفيلم التركيز على حُب الفلسطينيين المظاهر، حيث يظهر المسؤول الفلسطيني أحمد قريع (أبو علاء) وهو يتساءل مستهجناً لعدم توفير موكب سيارات أثناء استقباله في النرويج للمرة الأولى. ثم في مشهد آخر يظهر استغرابه من تواضع غرفة إقامته، وهذا التركيز على تفاصيل بسيطة تسيء للوفد الفلسطيني، لا تقابله مشاهد تشير إلى أي صفات للوفد الإسرائيلي.
بالمثل، يشير الفيلم إلى دوافع مختلفة للطرفين مِن أجل السلام: يظهر المسؤول الإسرائيلي راغباً في وقف نزيف سمعة إسرائيل التي صارت تُتّهم بالنازية في أوروبا بينما هي تدافع عن أمنها، في حين أن المسؤول الفلسطيني مدفوع للسلام بعدما أدت السياسات الخاطئة التي اتبعتها منظمة التحرير، إبان حرب الخليج، وتأييد العراق في غزو الكويت، إلى هذا السلام.
وصف إدوارد سعيد «أوسلو» بأنها «أداة للاستسلام، فرساي فلسطينية»


يأتي توقيت عرض «أوسلو» في أعقاب اتفاقيات إبراهام لتطبيع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع إسرائيل، وبالتزامن مع حرب إسرائيلية على قطاع غزة، الذي كان محور مفاوضات في الفيلم لانسحاب إسرائيلي مقابل الاعتراف بشرعية دول الاحتلال. والفكرة مِن هذا كما يعبّر عنها الفيلم: «إذا كان بإمكاننا جميعاً أن نتواصل مع بعضنا البعض كأشخاص، فربما يمكننا إيجاد حلول لمشاكلنا.
فإذا تعرفت على طفولتك، فسأكون قادراً على رؤيتك كبشر». ربما عشرات الأطفال الفلسطينيين القتلى أخيراً في العدوان الإسرائيلي كان يجب أن يفتحوا مناقشة لتقديم أنفسهم لطياريين إسرائيليين. وقتها كانوا اكتسبوا صك البشرية وسُمح لهم
بالحياة!
ربما كانت اتفاقيات أوسلو للسلام تاريخية، لكن ليست بالمعنى الإيجابي للكلمة. ويمكن هنا الاستناد إلى شهادة إدوارد سعيد (1935 ــ 2003)، الذي وصف «أوسلو» بأنها «أداة للاستسلام الفلسطيني، فرساي فلسطينية». يرى سعيد أن القيادة الفلسطينية، وللمرة الأولى في التاريخ الفلسطيني الحديث، تنازلت لا عن حق تقرير المصير فقط، بل عن القدس وقضية اللاجئين. وقد ارجأت هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات «المرحلة النهائية» غير محددة الشروط. وقد ظهر شيمون بيريز في لقطة في الفيلم وهو يوافق متكرماً على هذا التنازل مرتدياً روب النوم. والجدير بالذكر أنه كان مِن المُمكن اعتبار بيريز جزءاً مما يمكن تسميته باليسار الإسرائيلي، الذي يشهد رواجاً لسرديته حول السلام هذه الأيام، حيث بدأ بيريز بعضوية حزب «مباي»، ثم حزب «رافي» تحت قيادة دافيد بن غوريون، وأخيراً، حزب العمل الإسرائيلي وهو حزب يساري، تأسس عام 1930 من مجموعة من الاتحادات ذات الطابع الاشتراكي. ونشأت تحت مظلته منظمتا «الهاغاناه» و«البالماخ» اللتان كانتا نواة الجيش الإسرائيلي بعد قيام «دولة إسرائيل».
تضمنت موافقات بيريز بروب النوم، أثناء محادثة هاتفية مِن استوكهولم، قبول تقسيم الشعب الفلسطيني ـــ الذي ناضلت قواه منذ عام 1948 من أجل الحفاظ على وحدته ــ إلى سكان الأراضي المحتلة، وهؤلاء يتم التعامل معهم داخل إطار عملية السلام، وإلى آخرين، وهم يمثلون حوالى 55 في المئة من الفلسطينيين آنذاك، تتجاهلهم «عملية السلام» هذه.
وقد دفعت التنازلات بإدوارد سعيد، الذي كتب «لقد كنت دوماً، ولا أزال، من المؤمنين بعدم إمكانية حلّ الصراع العربي-الإسرائيلي عموماً، والصراع الفلسطيني-الصهيوني خصوصاً، حلاً عسكرياً محضاً. فأنا أؤمن، وبإخلاص، بمستقبل تتصالح فيه الشعوب والثقافات التي تبدو متنافرة الآن. وقد جعلت من هذا الإيمان والعمل على الاقتراب من تحقيقه شغلي الشاغل» إلى تقديم استقالته مِن المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991.
فقد كانت الشروط التي قبلتها القيادة الفلسطينية في أوسلو تقود إلى كارثة لا سلام. وعلى الرغم من أن سعيد قد أعطى صوته في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في الجزائر عام 1988، لصالح حل القضية على أساس وجود دولتين، إلا أنه أيقن أن مفاوضات أوسلو، وإصرار ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على رأسهم أحمد قريع، على قبول أي شيء تلقي به إسرائيل في طريقهم، حتى لا يفوتهم ركب «عملية السلام» أمرٌ سيهدر المكاسب التي حققتها الانتفاضة، آنذاك.
تنازلت قيادة منظمة التحرير عن الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني كافة لصالح ما يُعرف بـ «الحل الانتقالي». خرج الفلسطينيون بلا اعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم، وبلا ضمان لسيادة مستقبلية، وبلا حقوق في التمثيل، وبلا ذكر حتى لأي تعويضات لهم من الدولة التي تسبّبت في تشريدهم وضياع حقوقهم، هذا في الوقت الذي حصلت فيه نفس هذه الدولة من ألمانيا على 40 مليار دولار أميركي تعويضاً عما لحق باليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
أخيراً، يُعيب الفيلم سرديته عموماً، ومساواته مظلومية المُستعمِر والمُستعمَر، بل تلميع الجانب الإسرائيلي، لكن لا يمكن إنكار أن الجانب الفلسطيني ذهب للتفاوض على اتفاقية ملزمة دولياً، من دون أن يأخذ معه مستشارين قانونيين أكفاء، وأن المفاوضين الفلسطينيين السريين كانت تنقصهم الدراية والحنكة. فهم في نهاية المطاف مجموعة من «الفدائيين» الذين لم يفوضهم شعبهم للذهاب، كما يصفهم إدوارد سعيد.
أرسلوا إلى أوسلو في مهمة تم بمقتضاها تفكيك بنية المقاومة الفلسطينية بأكملها، من دون أن تكون في حوزتهم خرائط تفصيلية، ومن دون أي معرفة جادة بالحقائق والأرقام، ومن دون أي إلمام حقيقي بطبيعة إسرائيل أو مقتضيات المصلحة القومية للشعب الفلسطيني. لكن تكفي هنا مقولة «إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية».