كنّا نعيش أجواء إحباط بعد نكسة حزيران 1967، وكنّا نفتش عن نقطة ضوء في النفق المظلم، يوم جاءنا المناضل البعثي التونسي الشهيد عمر السحيمي (اغتيل في بيروت في أوائل تشرين الأول 1971) حاملاً معه كتاباً باللغة الفرنسية لكاتب تونسي غير معروف آنذاك هو الدكتور هشام جعيط، ويتضمّن إنصافاً للفكر القومي العربي وللحركة القومية العربية...فرحنا بذلك الكتاب، ورأينا فيه، كما في محاكمة المناضلين التونسيين محمد بن جنات وأحمد نجيب الشابي وغيرهما بتهمة محاولة حرق السفارة الأميركية في تونس إثر انكشاف الدور الأميركي في دعم العدوان الصهيوني على مصر يومها.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بداية حراك ما في مغرب الوطن الكبير متفاعلاً مع مقاومة بدأت تولد في مشرق هذا الوطن، وكان هشام جعيط بكتاباته أحد المفكرين والمؤرخين ممن أشعل شمعة بدلاً من الاكتفاء بلعن الظلام.
منذ ذلك الحين، بدأنا نتابع ما يكتبه هذا المفكر الجريء الشديد الالتزام بأمّته العربية والإسلامية، لنجد في كل كتاب يصدره، وكل محاضرة يلقيها، زاداً فكرياً نستكمل فيه جوانب مشروعنا النهضوي العربي... كيف لا والدكتور هشام كان من أعضاء المؤتمر القومي العربي الأول الذي انعقد في تونس في ربيع 1990. ولعل ما يميّز هذا المفكّر الكبير، الذي نال شهادة الدكتوراه في جامعة السوربون في باريس، ودرّس في جامعات الغرب الكبرى من أميركية وفرنسية وكندية، هو أنه بقي متجذّراً في حضارة أمّته وثقافتها رغم أنه كان ضليعاً بفكر الغرب وتراثه، لكنه لم ينبهر بهذا الفكر والتراث اللذين تفاعل معهما، بل أفاد منهما في ربط أفكاره العربية الإسلامية بروح العصر...
كتابه «الفتنة» كان نبوءة للفتن التي شهدتها بلاد عربية عدّة، مثلما حملت كتبه الأخرى تعمّقاً متوهّجاً في تاريخ العروبة والإسلام وحضارتيهما الواسعة الامتداد...
ولقد أحسن التونسيون أنهم اختاروه بالإجماع ليكون أول رئيس للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بعد الثورة، فيما هو أدرك أنّ للثورة التونسية المباركة بُعدها العربي والإسلامي فاختار من موقع المفكّر والمثقف أن يقف الى جانب قضايا أمّته العادلة صوتاً مدوّياً مدركاً أنّ المبادئ والقيم لا تتجزأ، فأن تكون مع الحرية في مكان يتطلب منك أن تكون معها في كل مكان، فكيف إذا كان هذا المكان هو في قلب أمّته، فلسطين....
ولقد التقيته أكثر من مرة في «بيت الحكمة» في بغداد قبل الاحتلال، ويبدو أنّ عمق انشداده الى العراق جعله يحمل الاسم معه الى تونس ليقيم فيها «بيت الحكمة» بعدما دمّر المحتلّ «البيت» في بغداد....
جعيط الذي غادر دنيانا الفانية وهو في السادسة والثمانين من العمر، رحل مرتاحاً أنه أمضى أكثر من ستين عاماً من عمره مسكوناً بهموم أمّته الثقافية والحضارية ومهموماً بقضايا نهضتها وتحرّرها ووحدتها.
*كاتب وسياسي لبناني