«شمس الأورنت حاضرة وادي العاصي وحرب القصير» (دار المحجّة البيضاء ـ بيروت) للشاعر والكاتب والوزير السابق طراد حمادة، رواية واقعيّة بكلّ ما يحمله هذا المصطلح من دلالة على معناه، فتعود بنا الرواية إلى التّاريخ تنهل منه وتقدّم الحقائق الثابتة التي نتج عنها عالم جديد، لكنّه لا يتخلّى عن تاريخه، فيعيده بصورة أخرى. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
وللرّواية عنوانان، أوّلهما يُشير إلى الأورنت أي نهر الشّرق وهو أكبر الأنهار في بلاد الشّام، ينبع من الهرمل ويصبّ في أنطاكية على المتوسط، والأورنت هو الاسم القديم لنهر العاصي، وهنا يأتي العنوان الفرعيّ «حاضرة وادي العاصي وحرب القصير»، ويثير العنوانان السّؤال عن هُويّة هذه الرّواية، وماذا يريد كاتبها أن يقول؟
إنّ إجابة هذين السّؤالين تنطلق أوّلاً من انتماء هذا العمل إلى الفنّ الروائي الذي يتّخذ من الواقع الاجتماعي مساراً له، مستنداً إلى الأبعاد الجماليّة للسرد الروائي، ويبدأ القصّ في هذا العمل عبر راوٍ عليم، يخبرنا عن جلسات الأنس على ضفاف نهر العاصي. ومع الغوص في طيّات الرواية، نكتشف تعدّد الرّواة فيها، وأوّل هؤلاء الرواة هو الحكواتي سمعان، واللافت أنّه حكواتيّ يختلف عمن نراهم في الحكايات الشعبيّة. هو واسع الثقافة، خبير بالشعر وبالأدب وبالتاريخ وبالعشق الصوفي، قادر على جذب المستمعين، وإثارة انتباههم، وأيضاً هو حاذق في اقتناص اللحظات التاريخية المهمة، فيسقطها على واقع جديد وحرب تدور رحاها في القصير، فيجعل من المعلومات التاريخيّة كشفاً للسرّ. ولم تكن مهارة هذا الحكواتي خافية عن جمهوره، فيقول له راشد الشّاغوري: «ما أدهاك، يا سمعان تكون راوية التاريخ مرة، وعالماً في الجغرافيا [مرة] أخرى، وكأنّك تُمسك بخيط الحكمة، تاريخ الأرض، وتاريخ سكانها...» (ص 14).

وقد ينتقل القصّ من الحكواتي إلى بطل حكايته أي علاء الدّين الصوفيّ، الذي يسرد لشمس ابنة عامل حيرى ما جرى مع الشّاعر ديك الجنّ الحمصيّ مع حبيبته ورد، ويأخذنا هذا الرّاوي إلى حكايات الرّند العارف العاشق من أهل العرفان والتجوال (ص 54). ومن الرّواة أيضاً شخصية من الواقع الحقيقي وهو الدكتور غسان العميريّ الرّوائي الأشهر في حاضرة وادي العاصي، فتكون روايته «الدفاتر العتيقة»، مصدر أخبار «طاحونة العميري»، هذه الطاحونة التي لها نوادر تشبه الأسرار كونها دخلت الحرب السوريّة وباتت قلعة من القلاع المنيعة.
ومن خلف هؤلاء الرّواة، نلمح طراد حمادة ناثراً عطر ثقافته الواسعة، ووجدانيته الصوفيّة، وانتماءه المقاوم، فيعلن ربما عن الحاجة إلى ولادة رواية من نوع آخر تسرد أحداث حرب القصير، وتحتاج «قدرة سرديّة على وصف الحرب، ولا يصف الحرب في الرواية إلّا من شهدها، لقد كتب عنها كثيرون، وعرضت أفلام وثائقيّة بمعاركها، يظهر أنّ المشاهدة تختلف عن الوصف في الرواية» (ص 152)، وإذا كان الرّواي العليم قادراً على سرد الأحداث، ففي هذا التصريح ربما تدخّل مباشر من الكاتب، ليبرز أهمية هذه المعركة التي تعدّ من أهم المعارك في الحرب السوريّة.
ويتبين لنا من هذا السرد المتداخل، أنّ هذه الرّواية هي من أدب المقاومة، ترسم أحداث الحرب، رابطة بينها وبين مجد حاضرة العاصي وتاريخها، وهي قصة حبّ بأبعادها الصوفيّة، وهي قصة وفاء ومحبّة لأبناء هذه المنطقة الذين برزوا في الرواية بشخصيّتهم الحقيقيّة، فكان إهداء الرواية إلى والده المرحوم كنج حمادة. وهي رواية وصفيّة لما احتوته من مقاطع جعلت من الوصف عملاً تزيينياً يشكّل استراحة وسط الأحداث السرديّة، وكان للوصف وظيفة رمزيّة دالة على معنى معيّن في إطار الحكي، فكم هو جميل هذا التماهي بين وصف شمس ووصف الطبيعة، يطيل السارد في تبيان جمال شمس، فلا ندري إن كان يتحدّث عن امرأة أو يبرز جمال الطبيعة، فيرى علاء الدّين أن هناك وحدة وجودية مضمرة بين شمس الكينونة وشمس الأورنت (انظر ص 21 إلى 23). ولم يكن هذا الوصف عبثاً، إنما لتأكيد الحالة العرفانيّة التي تسيطر على علاء الدين، وهي تبرز العلاقة بين العاشق والمعشوق، وأنّ الطبيعة والإنسان واحد صادر عن واحد في الحقيقة، ومن هنا ترمز شمس إلى الجمال الكوني. إنّها تمثّل تجدّد الحياة، في موجات عذبة تحقّق الوجود، إنّها عنصر من عناصر الطبيعة، وفيها تجسّد معنى الخلود ووحدة الوجود.
ويؤدّي المزج بين السرد والوصف دوره في الرواية، فتتناثر الموصوفات في ثنايا الرواية راسمة المشهد بأكمله، وتجعل القارئ يتخيّل ما يجري، فيعيش أجواء السهرات، ويتخيّل كلّ شخصيّة من شخصيات الرواية عبر الوصف الدقيق الناقل لطبيعة الشّخصيّة، فهذا راشد الشّاغوري فتى من فتيان القرى أعالي النّهر «حرّ طليق جميل المحيا لطيف الحديث رقيق المعشر. له قلب عاشق وخصال فارس، وخبرة فلّاح عجنته التّجارب بطينة الأرض الطّينة المعطاء...» (ص 39). ولم يكن هذا الوصف بعيداً من سلوكيّات راشد مع تطوّر الأحداث وتعرّفه إلى سلوى خوري الفتاة السوريّة التي فقدت أهلها نتيجة الإرهاب الواقع في سوريا، وكانت أن وصلت إلى لبنان لتكون محطّة عبور إلى الهجرة لاحقاً. وفي لبنان يكون اللقاء مع راشد، وتكون حاضرة العاصي أرض لقاء الحبّ بين علاء الدين وشمس، وبين راشد الشّاغوري وسلوى الخوري، ليكون التاريخ هو الحاضر أو في الحاضر عودة إلى التاريخ. وتؤكّد الأحداث في ختام حرب سوريا ورحيل الخوري، طلب راشد منها «كوني سورية كما أنتِ، ابنة حاضرة العاصي، كوني أنتِ شمس الأورنت» (ص 39)، وفي ذلك تأكيد على وحدة المكان والانتماء إلى خطّ المواجهة والمقاومة.
يعلن ربما عن الحاجة إلى ولادة رواية من نوع آخر تسرد أحداث حرب القصير


وفي العودة إلى التاريخ، حفلت الرواية بالكثير من الحقائق التاريخيّة، ومنها ما له علاقة بالحركة الناصريّة، والسبت الأسود في الأردن، والقاعدة، وهوية المعارضة السّوريّة، واهتمّ الكاتب بربط هذه الأحداث بما يجري حاضراً. وفي حرص الكاتب على واقعية الأحداث، نراه يتحدّث عن شخصيات من أرض الواقع، كان لها الدور البارز والفاعل في الهرمل. ومن هؤلاء الحديث عن كنج حمادة أي والده، ولم يكن بعيداً أيضاً من الإشارة إلى نفسه كوزير تولّى الوزارة في حقبة زمنيّة ممثلاً «حزب الله»، وفي ذلك تثبيت لهذه الحاضرة المشتركة من الحدود اللبنانيّة السّورية، وتثبيت لإرثهم في هذه المنطقة. ولم يغفل طراد حمادة تضمين الرواية أشعاراً لديك الجنّ الحمصيّ يرويها علاء الدين لـشمس. وقد يستطرد ليقتبس شعراً لعمر الفرا قاله في مدح رجال الله، ويعرض قضايا أدبيّة ونقديّة مشيراً إلى العديد من الشّعراء، وما يجمع ذلك هو مقهى الفردوس الذي يجمع الأصحاب مع الحكواتي سمعان. وقد يستمتع القارئ أيضاً بما حوته الرّواية من إشارات إلى بعض العادات والتقاليد عند أبناء المنطقة، وخصوصاً في قطاف الجوز والعنب، أو يستمتع ببعض الآراء حول القضايا الفنيّة. وفي ختام ذلك نكتشف هوية الرّواية وما دفع الكاتب إلى تسطير أحرفها. إنها رواية حاضرة وادي العاصي الذي كان له تاريخ عريق في الممالك التي قامت على ضفافه. إنّها رواية حاضرة الأدب والثقافة والفكر والفلسفة. إنّها حاضرة الحبّ والعشق العرفانيّ، إنّها حاضرة أرض المقاومة والنّضال.
* أكاديمية لبنانية