احتفل العالم منذ أسبوع بولادة الحكيم أبي الفتح عمر بن إبراهيم الخيَّام النيسابوري المشتهر بالخيّام صاحب الفكر الحائر والمتأثر بفلسفة ابن سينا والمعري ذي المشارب المعرفية الغنية والمتنوعة تخصصاً وصاحب «الرباعيات» الملتصقة باسمه والمختلف حولها.يمم وجهه منذ الصغر إلى مجالس الدرس والأدب ساعده في ذلك رهافة حسه وفطنته وتوقد ذهنه وصفاء قريحته واختمار وعيه ووجدانه ودقة ملاحظته التي تغازل الأسرار وتفتض بكارة الحقائق بلا خشية. رافق كبار الناس مثل نظام الملك المحب للعلم والأدب وأحد أشهر وزراء الدولة السلجوقية الذي أنشأ المدارس المعروفة باسمه «المدارس النظامية».
عمر الخيام بريشة أديلايد هانسكوم ليسون عام 1905

ورد في كتاب «الأعلام» لخير الدين الزركلي ( ج ٥ – الصفحة 38): «كان عالماً بالرياضيات والفلك واللغة والفقه والتاريخ. له شعر عربي، وتصانيف عربية..».
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
عاش صاحبُنا في عصر مضطرب ولم يكن القلق إلا مرحلة مثَّلت جسراً معرفياً يعبر من خلاله إلى مقاربة قضايا الوجود والحياة بمزيد من الحيوية والإبداع في نزوع عقلي وروحي صاخب وفي مغالبة فعالة لما يعترض مسيرة البشر الكبار الذين أرادوها أنشودةً متجانسة تتراقص على كلمات وحروف تحاكي غاية الوجود وتطرب لوجدان يحترق شوقاً إلى طمأنينة وسكون إيجابي يثبّت ذاتاً إنسانية أصيلة تواقة إلى شغف ينساب صوراً وأحاسيس ورؤى بلا قيود في فضاءات شعرية وفكرية حالمة منعتقة من المحدود وملتمسة لطهارة ويقين يخلوان من كل طغيان لأنانية ملوثة.
هو العازف على وتر التحرر من كل شكل وأسلوب يحد من الحرية ويمنع من الانسياب ويقمع الذات ويخنقها، إذ يعد ذلك انتحاراً لا يوصل إلى ما تبغيه النفس من تغلب على تناقضاتها في وحدة شعورية راقية تنسل من خلف الخيالات لتعجن واقعاً متناغماً منسجماً مع لغة وجودية وإلهية لا متناهية تلغي كل تكثّر وتشتت.
لم يكن صاحبنا الخيام وغيره من الكبار سوى وجوه من البساطة والعفوية بعيداً عن الأسطرة واللغة التي تقمع الغير وتجعلهم في حيرة وتوقعهم في المجهول، بل لغة تستحث المجهول وتستفزه لتجعله منكشفاً لكل الناس يجتمعون حول موائد اليقين ويطربون للغة واحدة بلا ثنائيات تخرّب عليهم الفهم وتحجز عنهم تناول القصد بأيسر وسيلة.
إثارة الأسئلة عنده دورة حياة مستمرة وتقنيات مصارحة ومصالحة لا تنفك عن وظيفة الإنسان وتحيله إلى قراءات نهمة لا تقبل الجمود والموات وتستبطن قوة دفع لتغيير أنماط عيش وتفكير لا تخضع لإسقاطات الجهل والجاهلين كما حصل ويحصل في كل العصور التي تشهد على قتل الضمائر وانتحار وجدان الجماعة وبيعها لعقلها الجمعي بأبخس الأثمان.
انتهى إلى فلسفة التصوف في أخريات حياته، فرُمي بالزندقة والإلحاد


أن تعجن قواعد الفلسفة بقوالب تعبيرية شعورية تدلل بالتأكيد على نفسٍ جمالية رقيقة تقتات على عفوية بسيطة هي بذاتها تتآلف في جدلية رقراقة أبت إلا أن تتخلص من عقال كل شيء لتكون في نسق اللامكان والزمان، السارحة فوق القمم، السابحة في الآفاق إلى العلياء.
تقول لغته في الصحيح منها والمنحول وهذا بحثه متروك لذوي التخصص التحقيقي: لا لتناقض سياسي أو اجتماعي أو كياني، لا لاصطناع كيانات وقوميات ومذهبيات، بل لغة ضياء معرفة ونور توحيد.
انتهى إلى فلسفة التصوف في أخريات حياته، فرُمي بالزندقة والإلحاد. وفي ترجمة له، قال:
«لقد أُكرهت على نزول ساحة الحياة
فما زادتني زيارتها إلا حَيْرة...
وها أنا ذا أهجرها مكرهاً
فليتني أعلم القصد من رحيلي، ومن مقدمي وإقامتي!!
قال: لو أني اكتشفت سر الحياة
لعلمت حكمة الموت...
هو الخوف أو القلق الذي يطارده فاستعان بالخمر على دفع ذلك:
أقيمي لنفسك يا نفسُ نعيماً من الصهباء في هذه الدنيا
فما لك من سبيل في حل هذا اللغز الغامض
وفهم ما قاله النوابغ من كلِمٍ ذي معانٍ
وقد تصلين إلى الموضع الذي أقامت فيه الجنة وقد لا تصلين.
أيضاً: من منزل الكفر إلى الدين نَفَسٌ واحد
ومن عالم الشك إلى دنيا اليقين نَفَس واحد
فتعهد بطبيب هذا النفس العزيز
فحاصل عمرنا هو مجرد هذا النفس
وأيضاً عن الخمرة:
«لو أن إبليس كان قد شرب قدحاً من الخمر
لخرَّ ساجداً لآدم ألف سجدة لا يبالي»
قال الخيّام تهكماً من رجال الدين:
«نحن يا مفتي المدينة أكثر منك شغلاً
وبهذا السكر أكثر منك صَحْواً
أنت تشرب دم الناس، ونحن نشرب دم الكروم
فقل ـــ مُنْصفاً ـ: أينا أشد سفكاً للدماء!!؟»
نقول في ذكرى الخيام واستحضاراً لتجارب أهل التصوف في الانعتاق من الملوثات والمقيدات ومواجيدهم النقية المهاجرة إلى مواطن التحرر والحرية: نعم لحريةِ أرواح ٍتحلق في أنوار الملكوت وتلعن الصخب المادي الجشع في كل وقت معلنةً عن ميلاد جديد نحلم به.
* أكاديمي وحوزوي