فاز الروائي الأردني جلال برجس (1970) صاحب مقولة «عمّان بحرٌ كبير نغرق فيه لكنّنا لا نموت» بالدورة 14 من جائزة «بوكر» العربية لهذه السنة عن روايته «دفاتر الورّاق» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). فرادة «دفاتر الورّاق» تكمن في كونها تخاطب الراهن العربي في قالب روائي ممتع، وفي الوقت ذاته منفتحة على هموم الإنسان، التي لا شكّ في أنّ كلّ مَن بالأرض يتشاركها. نلحظ هذا في استعماله شخوص روايات عربية وأخرى غربية. وقد استطاع أن يمزج بينها بقوة القارئ العارف، وبذكاء الناقد، وبموهبة الكاتب، ليقول للقارئ بأنّ هموم الإنسان واحدة ومصيره واحد وإن اختلفت الطُرق.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
لعلّ أهم ميزة في «دفاتر الورّاق» أنّها ليست رواية نخبوية، أي أنها مُتاحة لكلّ القراء، وهذا النوع من الأعمال لا يستطيع أن يتحكم في صناعته إلّا روائيٌّ متمكّن من صناعة أدب جيد، يعكس مآسي الإنسان في كلّ مكان، مِن خلال مآسي الفرد العربي. كأنّ الرواية تخاطبنا جميعاً وإبراهيم الوراق هو نحن جميعاً. فالقارئ يتفاعل مع العمل الذي يشبهه، الذي يجدُ جزءاً منه فيه، ويشعر أنه قريبٌ منه، من دون أن ينتابه للحظة إحساس أن هذا العمل يخاطب جهة معينة، وأنه غارق في المحليّة.
هنا يكون النجاح الحقيقي وهنا تبرز براعة جلال برجس في وراقه الذي سيعيشُ في ذاكرة كل قارئ، وسيحاول البحث عنه في محيطه.
إبراهيم الورّاق قريب جداً منا أكثر ممّا نتصور، إنّنا نراه في كلّ مظلوم، في كلّ حالة إنسانية قهرتْها الظروف، فحالُ إبراهيم الورّاق من حالنا، لذا أحببناه وتعاطفنا معه.
«دفاتر الورّاق» هي دفاتر الكاتب والقارئ معاً، هي دفاتر الإنسان الذي يحاول جاهداً أن يصنع مساره الخاص في الحياة برغم كلّ المعوقات، ولا شكّ في أن دفاتر إبراهيم الورّاق لم تكن دفاتر عادية، بل استطاعت أن تنتصر لأهمّ شيء؛ لصوت الهامش والمهمشين في كل مكان. استطاعت أن تخلق من أصواتهم ومن هامشيتهم في الحياة وجوداً قائماً بحد ذاته، انتصرت للمثقف، انتصرت للأدب حين يقدم رواية جميلة تضاهي في جودتها الآداب العالمية.
انتقد بشدة ازدواجية الفرد العربي، من خلال شخصية عبد الجواد


في هذا العمل، تحايل جلال برجس على الهامش ليقدم مادّة أدبية قوية على الصعيد الأدبي والإنساني. كما أن للرواية جوانب أخرى مضيئة برهنت أنها بالفعل جديرة بالفوز، إذ تحدث رئيس لجنة الجائزة لهذه السنة الشاعر والكاتب اللبناني شوقي بزيع عن سبب اختيار اللجنة للعمل قائلاً: «قد تكون الميزة الأهم للعمل الفائز، فضلاً عن لغته العالية وحبكته المحْكمة والمشوقة، هي قدرته الفائقة على تعرية الواقع الكارثي من أقنعته المختلفة، حيث يقدم المؤلف أشد البورتريهات قتامة عن عالم التشرد والفقر وفقدان المعنى واقتلاع الأمل من جذوره، بما يحوِّل الحياة إلى أرخبيل من الكوابيس. ومع ذلك، فإن الرواية ليست تبشيراً باليأس، بل هي طريقة الكاتب للقول بأن الوصول إلى الصخرة العميقة للألم، هو الشرط الإلزامي لاختراع الأحلام، وللنهوض بالأمل فوق أرض أكثر صلابة».
هناك أيضاً فقرة في الرواية يمكن أن تكون رواية بحد ذاتها، يصوّر فيها الأصوات الداخلية التي عرفها كل إنسان في شتى مراحل حياته، وكيف يمكن لتلك الأصوات، أن تشكل وعيه، وأن تؤثر في نشأته، مرحلةً، مرحلةً. صحيح أن لكل مرحلة ناسها، ولكن هذا لا يمنع أن التأثير سينعكس سلباً أو إيجاباً عليه، إذ يقول في عمله: «الذين أذوك كثر، وأصواتهم ما زالت عالقة حتى في شعر أذنيك». وصف رهيب. كما أنه انتقد بشدة ازدواجية الفرد العربي، من خلال شخصية عبد الجواد التي يقول بأنها راقت له رغم ازدواجيتها المقيتة. ومن هنا قدم نقداً صريحاً للذهنية العربية السائدة، التي تتغنى بالورع ولكن ما تفعله في السر سيئ جداً.
لعل الرواية هي أيضاً احتفاء بأصحاب أكشاك الكتب، هؤلاء الذين كرّسوا شطراً كبيراً من حياتهم لخدمة الكتاب، ومعرفة خبايا الناس وأسرار المجتمعات، كما أنّ ذاكرته، أي الوراق، هي ذاكرة شعبٍ بحاله. قدمت رواية «دفاتر الورّاق» نموذجاً مختلفاً يمكن أن تكون عليه الرواية العربية الناجحة التي تنتصر كما ذكرنا سابقاً للهامش وللقضايا العادلة.
إبراهيم الورّاق شخصية من ورق استطاعت أن تواسي جروح كثيرين منّا، ومن خلالها يمكننا القول بأن الكتب هي العيونُ التي نَرى مِن خلالها عالَماً يتعدَّى حدودُ البصر وكما قال أحدهم: «كلنا الوراق» بطريقة أو بأخرى.



حكاية عمّان التي تتجاوز نفسها وزمانها
خلال فعالية افتراضية أقيمت أول من أمس للإعلان عن الفائز بـ «بوكر»، قال رئيس مجلس أمناء «الجائزة العالمية للرواية العربية» ياسر سليمان «تلتقي عوالم البؤس والتشرد في «دفاتر الورّاق» في ثنائية يشتبك فيها التسجيل والتمثيل، تسجيل ما يدور وتمثيل ما كان، فتختلط الأزمنة والأمكنة، إلا أنها تبقى تراوح مكانها في عالم تندمج فيه الحقيقة والخيال. على الرغم من محلية البؤس والتشرد في الرواية، إلا أنهما يبقيان لازمة إنسانية ينهل منها الأدب كلما فاض التهميش والتشظي في عوالم الفساد والإقصاء والخواء. «دفاتر الورّاق» هي حكاية عمّان التي تتجاوز نفسها وزمانها على يد روائي يبسطها أمام أهلها كما فعل محفوظ مع قاهرته، فيسير القارئ في شوارعها ويصعد جبالها ويلتقي شخوصها ويستذكر ورّاقها ويتألم لحكاياتها ويطل منها على إقليمه وعوالمه بخدر وكدر، الشكر لجلال برجس على ما صنع لقرائه بعين تلتقط التفاصيل من دون أن تغرق فيها».
وكانت القائمة القصيرة قد ضمّت ستة أعمال تعكس الواقع العربي بتمزّقاته وحروبه هي: «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، «الاشتياق إلى الجارة» للتونسي الحبيب السالمي (دار الآداب)، «الملف 42» للمغربي عبد المجيد سباطة (المركز الثقافي العربي)، «عين حمورابي» للجزائري عبد اللطيف ولد عبدالله (دار ميم للنشر)، «نازلة دار الأكابر» للتونسية أميرة غنيم (دار مسكيلياني) و«وشم الطائر» للعراقية دنيا مخايل (دار الرافدين). وينال كل مرشّح مبلغ عشرة آلاف دولار أميركي، فيما يحصل الفائز على 50 ألف دولار إضافية، إلى جانب ترجمة روايته الفائزة إلى الإنكليزية.