ربطوا الفتاة الفدائية من قدمها المصابة بالحَبل إلى «الجيب» العسكري، مع رفيقها وطافوا بهما سحلاً في ساحة كفركلا حتى أول دير ميماس. كانت مجموعة الجبهة الشعبية تواجه صعوبة في الإسناد الناري عند قلعة الشقيف، ما أجبر الفتاة السمراء المصابة بطلقة في رِجلها ورفيقها على الانسحاب حتى طريق الإسفلت: شمالاً نحو حاجز الخردلي حيث ستقبض عليهما الاستخبارات الإسرائيلية لا محالة، أو جنوباً: نحو فم التنين، الدخول خلسة إلى الشريط المحتل والاختباء فيه حتى يطيب جرحها وتعود لتلتحق بقاعدتها عند الوادي الأخضر. طُرق باب البيت في طرف كفركلا في المساء.ـ «مين؟»
ـ «صيّادين يا حاج». كان نصف دم الفتاة قد ساح في الطريق بين يحمر ودير ميماس وصولاً إلى طرف كفركلا. استضافهما الراعي الذي نظر بريبة إلى رِجل الفتاة النازفة. قال رفيق الفتاة: ـ «وقع الجفت من ايدها وطلعت الطلقة بالغلط».
ـ «ما رأيك أن أرسل وراء ابني ويأخذها بالبيك أب الى مستشفى مرجعيون، أو تأخذونها الى مستشفى رامبام؟» توجّس الشاب من كلمة الراعي، وخاصة أن بيته كان على طرف القرية، حيث تستثمر منظومة المقاومة أو العدو تلك الأماكن في الرصد وإعداد الكمائن.
ـ «قومي نرحل»، لكن الفتاة هزت بايماءة من يدها: «عطشانة، عطشانة».
ـ «ابقوا حتى الصباح» قال الراعي، مناولاً إياها ابريق الفخار. قبل أن يشق الفجر، كانت عشر سيارات للاستخبارات تطوّق البيت. كبير العملاء أحمد عبد الجليل وزمرته: وشى الراعي بالمقاومين اللذين ربطا إلى السيارة، وفي قلب ساحة كفركلا، وصل «الثعلب» متأخراً، بشاحنة خضار «مكركعة» مكتوب عليها من الأمام «ع السكين يا بتّيخ». هو أبو يوسف، ضابط الاستخبارات في مرجعيون، نزل من الشاحنة وداس بـ «الراينجر» على أجساد المقاومين: «ما في مخرّب هون، مخرّب بدو فلسطين؟ بكفركلا ما رح فيه ينام». ظلت صورة الفتاة المسحولة محفورة في بؤبؤ عيني، مذ كنا فتية ننظر إليها في ساحة القرية وأمي التي كادت تنفجر بالدمع تضغط على يدي، «اسكُت... اسكت». العملاء في كل مكان وأبي في الكويت كما كنا نقول في القرية، وحدي أنا وأمي كنا نعلم أنه في «ثكنة حي ماضي». بلّلت وسادتي بالدمع في تلك الليلة، وأخذت قراراً لا رجعة فيه: لن يقرّ لي جفن قبل أن أثأر للفتاة الذبيحة.
اشتدّ ساعدي، كنت قد تدرّبت في جنتا على فك وتركيب الكلاشينكوف، والضرب بالهاون، والاشتباك والانسحاب، لكن كل كياني كان مشدوداً لمهندس العبوات: السلكية، والتلفزيونية، وألغام الميم دال، والعبوات المموّهة التي كانت صخور جبل عامل تعيرنا أشكالها الوديعة لنغطي بها القنبلة المزروعة في قلبها. رجعت من الدورة، فاستأذنت جارنا الكهربجي: «أريد ورشتك ليومين فقط». هذه عبوة «مرتبة بتعجب خاطرك يا أبا يوسف». كانت العبوة تزن أكثر من خمسين كيلوغراماً ولا تتسع مع «أكسسواراتها» في صندوق سيارة عادية. طلبت من مصطفى أن يستأجر بيك آب من «الغازية».
ـ «اذهب الى «غريب» وقل له نريد سيارة قادرة على أن تحمل «محشاية» مرتبة، مثل «محشايات» الحاجة الوالدة». لم يجد غريب في صيدا وجوارها شاحنة واحدة للإيجار. كان نزيه القبرصلي قد قاتل فرقة كاملة من جيش الاحتلال في «زيرة» صيدا واستشهد، وعيون العدو وعملائه في كل مكان. لم يجد غريب حلاً إلا بالذهاب إلى كسر السيارات قرب جسر سينيق ودفع لصاحبه ثمن سيارة «رابيد» كادوا أن «يفرطوها» قِطعاً.
ـ «خذها ببلاش إن أردت، بس ما بضمنلك تمشي». عبرت سيارة «الرابيد» بأعجوبة حاجز الأولي. أخذوا رقمها وفتّشوها ذهاباً، ثم لم يفتشوها إياباً، إذ كانوا مرتعبين والرصاص يلعلع في تشييع القبرصلي. تنطلق دورية المخابرات القادمة من الريجي تقريباً في الخامسة إلا ربعاً مساء، في طلعة المروانية وزفتا وصولاً إلى دير الزهراني فحبوش فالنبطية. كنت قد سمعت من فترة قصيرة أن أبا يوسف قد انتقل الى منطقة الزهراني، ولا بد أنه سيكون في إحدى السيارات لأن الشباب أخبرونا بإجراءات أمنية غير مسبوقة في النبطية. تضيق الطريق بين زفتا ودير الزهراني في نقطة مقتل، لا بد فيه للسيارات أن تبطئ، وبخاصة في الوحل الذي غطّى الطريق بأكملها: وضع العبوة المموهة من جهة اليسار كان سهلاً، صفصافة عظيمة تمد بجذوعها وصخر وبركة ماء وجبل الرفيع في خلفية المشهد. كان يفترض بالعبوة أن تصل من صيدا في الثالثة، وصلت مع مجموعتي إلى أول دير الزهراني وانتظرنا لنصف ساعة عند «فلافل خليفة». أتخمنا من السندويشات ولم تصل «الرابيد». صدقت نبوءة صاحب كسر السيارات: «شرقط» كابل البطارية عند أول زخة مطر، و«طحّلت» الرابيد منطفئة عند أول طلعة الزهراني.
سنوات ثلاث وأنا أؤجل الثأر، وها هو يضيع في لحظته الموعودة. اشتد المطر فدخلنا إلى «هنغار» لرجل عجوز. كان يلزّ الحطب في ورشة النجارة. وقال: «سأقدّم لكم الشاي ان عرفتم اسم ماركته».
ـ «وكيف نعرف اسمه؟»
ـ قال: «سأمثّل لكم اسمه بالحركات».
وضع خرقة على رأسه والتحف بعباءة ورفع كأساً فوق الطاولة:
ـ شاي الأمير؟
-لا
ـ شاي السلطان؟
-لا
بعدما «كعينا» قال بلكنته الجنوبية: «شاي ابو نواس».
ضحكنا كثيراً وخرجت مع المجموعة وأنا أقول في سري: «جئنا لأجل أبي يوسف ورجعنا مع أبي نواس».
كانت الدورية قد مرّت في الرابعة والنصف، وحين كنا ننتظر سيارة تعيدنا إلى بيروت، لمحت غريب في «الرابيد»، إذ كان قد نجح بأعجوبة بأن «يدكر» البطارية.
ـ يطعمك الحجّة والناس راجعة، أرجعنا إلى بيروت
ـ مستحيل، نفدنا بجلدنا مرة عن الأولي، مش كل يوم عيد، هذه عبوتك خذها.
لم أعرف ماذا أفعل بالعبوة، قلت سأخبئها تحت الشجرة عند الكوع، لكن من الأكيد أن الدورية ستسلك طريقاً أخرى في الليل، وستكون الرؤية منعدمة. أوصلت الأسلاك وعجبت كيف وقفت الصخرة المموهة بين رفيقاتها. لا أعرف كيف أكظم غيظي من «غريب»، تركني ورحل. ثبتّ المنظار على عينيّ لأعرف إن كان لا يزال في الجوار أم لا. فجأة أطلت شاحنة خضار «مكركعة» من آخر زفتا. «ع السكين يا بتّيخ»: إنه أبو يوسف بشحمه ولحمه، ابتعدت قليلاً بالسلك خلف تلة ترابية صغيرة وضغطت على الزر حين صارت الشاحنة بالموازاة: تفجرت الشاحنة وطار أبو يوسف في الهواء. «مخرّب بدو يحرر فلسطين، مخرّب بدو يحرر جنوب لبنان، مخرّب ما رح يخليك تتنفس». نظرت من أعلى التل باتجاه قلعة الشقيف. كانت فتاة فدائية تسحب الرصاصة من فخذها، تسترد لحمها المسحول من ساحة كفركلا، تلوح لي من بعيد: «مخرّب، أحضر علبة من شاي أبي نواس، غداً إلى حيفا».

نصّ مستوحى من وقائع حدثت حقيقية في جنوب لبنان خلال الثمانينات



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا